عجيب أمور.. غريب قضية، مثل عراقي شعبي قديم منذ العهد العثماني، يردده العامة من الناس والمثقفون علي حد سواء، عندما يواجهون حالة غير مألوفة وغريبة عليهم، وكان هذا المثل يلازم الفنان خليل شوقي في مسرحياته الدرامية وتمثيلياته الكوميدية في الزمن الجميل الذي مضي، أيام كانت الفنون والآداب والعلوم والمسارح والمهرجانات تعم العراق من اقصاه الي أدناه، قبل ان تداهمه جحافل الظلام والتخلف وتعصف به ثقافة اللطم علي الصدور وتطبير الرؤوس، وتلوث أجواءه أنفاس المارينز وغبار الهمفي والهمرات ودخان الاباتشي والبلاك هوك، ويحتل مدنه وقراه الهابطون من الجبال ومغارات الاحقاد، والوافدون من خلف الحدود يحملون الكراهية والغدر. هذا المثل يتداوله العراقيون هذه الايام بكثرة وهم يتابعون أخبار اللقاءات والمشاورات التي يجريها قادة الاحزاب والكتل السياسية حول تشكيل الحكومة الجديدة التي يبدو انها لن تعلن الا بعد ان يرفع المرشح لرئاستها ابراهيم الجعفري الراية البيضاء، ويمشي في آخر الصفوف ويصبح كالزوج المخدوع.. آخر من يعلم، وآخر من يتكلم، وآخر من يوقع، وحتي لا نظلم الرجل ونتجني عليه، فهو قابل كما يبدو، بكل ما يفرض عليه، وموافق علي كل ما يطلبه المنافسون منه، شرط ان تسبق اسمه او تعقبه عبارة من كلمتين (رئيس حكومة) ولله في خلقه شؤون. وعندما يستعيد العراقيون أحداثاً وحكايات من تأريخهم المعاصر ويعيدون قراءة وقائع ووثائق تظهر كيف كانت رموزهم السياسية وشخصياتهم الوطنية والقومية والدينية في مواقفها وإيثارها وسموها عن الشخصنة وصغائر الامور وترفعها عن المناصب والامتيازات، لابد ان يصابون بالضيق والكآبة، وهم يشاهدون هذه الجماعات الجديدة علي الحياة العراقية، في تسابق افرادها علي الرئاسات والوزارات وتآمرهم علي بعضهم البعض بطريقة تفتقر الي أبسط الاعراف والتقاليد، حتي يخيل لمن يراقبهم من بعيد، أنهم من طينة غير عراقية، لا تحكمهم ضوابط ولا يلزمهم تهذيب ولا خلقة ولا أخلاق. ولأن العودة الي التأريخ العراقي بهذا الصدد ضرورية في مثل هذا الوقت بالذات، ليتعرف العراقيون قبل غيرهم علي نماذج مشرقة من رجالاتهم الذين احترموا انفسهم ورفضوا ان يكونوا رؤوساء ووزراء وتجنبوا السقوط في الوجاهات الزائفة، نورد قصصاً موثقة بالأحداث والتواريخ يزخر بها السجل العراقي الحديث، ومنها كيف رفض المرحوم طه الهاشمي رئيس الوزراء عام 1941 تنفيذ رغبة الوصي علي العرش عبدالاله بن علي باقالة قادة الجيش العراقي وزرع الفرقة بينهم وقتل حماسهم الوطني وغيرتهم القومية، فقدم استقالته بشجاعة وأباء، وعاد الي منزله راضياً مقتنعاً بما أقدم عليه، وكانت النتيجة ان هذه الاستقالة وما أحدثتها من دوي واصداء، أجبرت عبد الاله علي الهرب من بغداد الي البصرة في حماية القوات البريطانية فيها، والقصة معروفة بتفاصيلها ونتائجها. وما دمنا بصدد الجيش العراقي الباسل ومدي الاعتزاز والفخر به منذ بداياته الاولي، نعرض هنا حكاية المرحوم تحسين علي وزير الدفاع في منتصف عام 1944 عندما رفض باصرار تقريراً قدمه المفتش الانكليزي (رنتن) بتقليص الجيش وجعله فرقة واحدة تلبية لرغبة الوصي اياه، واستجابة لارادة السفارة البريطانية، ولما رأي الوزير ان رأيه لم يؤخذ به وهو المسؤول الاعلي عن الجيش قدم استقالته من الوزارة غير خائف ولا وجل. وفي العهد الجمهوري ذهب ستة وزراء هم عبدالجبار الجومرد وزير الخارجية وفؤاد الركابي وزير الاعمار وناجي طالب وزير الشؤون الاجتماعية وصديق شنشل وزير الارشاد وجابر عمر وزير المعارف ومحمد صالح محمود وزير الصحة يقودهم الشيح محمد مهدي كبة عضو مجلس السيادة الي رئيس الوزراء وقتئذ اللواء عبدالكريم قاسم وانتقدوا منهجه في الحكم ولما وجدوه مصراً علي فرديته وعدم الأخذ بآرائهم قدموا استقالة جماعية وعادوا الي بيوتهم غير آبهين بالوساطات والاغراءات، وقد تضامن معهم الوزير الكردي الوحيد يومذاك بابا علي الشيخ محمود وقدم استقالته، ولما سئل الاخير ما علاقتك بهؤلاء القوميين العرب والناصريين وانت الكردي؟ رد علي سائليه: أعرف انهم قوميون عرب وناصريون ولكنهم رجال مبادئ واصحاب غيرة. وفي عهد عبدالكريم قاسم ايضاً عطل وزير الارشاد حسين جميل جريدة الحزب الشيوعي (اتحاد الشعب) لتطاولها علي شخصيات وطنية وقومية مناضلة، غير ان رئيس الوزراء قاسم أمر بعودة الجريدة الي الصدور، فما كان من الوزير الا الاستقالة وترك الوزارة ولم يمض علي تعيينه فيها غير يومين، مذكرا عبد الكريم انه حسين جميل السياسي والقانوني وليس باش كاتب. وهناك قصص جميلة في التأريخ العراقي تبين كيف ان الاساتذة والعلماء يأنفون من تسلم الوزارات والمناصب العليا ويتمسكون بوظائفهم التربوية والتعليمية ومنها ان الدكتور عبدالعزيز الدوري المفكر الجليل والباحث والمؤرخ الكبير طلبه الرئيس الراحل عبدالسلام عارف عقب حركة 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 تلفونياً وعرض عليه منصب وزير المعارف، والدوري صديق شخصي للرئيس عارف وبينهما من الود والاحترام الشيء الكثير، واعتذر العالم الدوري وقال للرئيس مكاني الحقيقي في الجامعة، وتكرر الامر نفسه مع الاكاديمي والتربوي الدكتور عبدالعزيز البسام الذي أبلغ عبدالسلام: انا اعرف نفسي جيداً.. لا أصلح للوزارة يا سيادة الرئيس ولا أبدل وظيفتي في الجامعة بعشر وزارات، وربت الرئيس رحمه الله علي كتفه وقال له بارك الله فيك. وفي حزيران (يونيو) 1968 زار قائد الحرس الجمهوري المقدم ابراهيم الداوود ومعاون مدير الاستخبارات العسكرية المقدم عبدالرزاق النايف ،اللواء المتقاعد عبدالعزيز العقيلي وزير الدفاع الاسبق في بيته، وعرضا عليه ان يتولي رئاستي الجمهورية والحكومة في انقلاب استكملا سياقاته علي الرئيس عبدالرحمن عارف، وكان العقيلي من معارضيه الاشداء، وعندما بدأ الثلاثة في بحث الإجراءات التي تعقب الانقلاب وكانت امكانيات نجاحه مؤكدة، رفض العقيلي المضي في المناقشات عندما وجد الاثنين يصران علي تولي ابراهيم الداوود منصب وزير الدفاع وقال لهما عيب علي العراق وعلي الجيش العراقي وكله كفاءات ورتب و(أوادم) ان يكون وزير الدفاع ضابط برتبة مقدم وهو مليء بالقادة والامرين والضباط اللامعين، وطرد الداوود والنايف، لاحظوا الرجولة والايثار، وأذكر أني قلت له بشيء من اللوم في قصر النهاية في صيف العام 1969، ما هذه المثالية يا سيادة اللواء، ماذا يضيرك لو قبلت بالاقتراح ويصبح الداوود وزيراً للدفاع وبعد ذلك تزيحه كما فعل قادة انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968؟ فثار العقيلي رحمه الله وقال لي بحدة أمام المعتقلين وكانوا كثرة كاثرة، وماذا أقول لربي عندما يسألني يوم الحساب كيف سمحت لنفسك بان تعطي مكانا لشخص لا يستحقه، وماذا أقول للتاريخ والناس والاجيال عندما يعرفون انني رضيت بمنصب الرئيس وحكومتي فيها وزراء لا يصلحون لها وغير مؤهلين لاشغالها.. السجن والموت أحب الي من هذا العار، هذه هي مواصفات الرجال الرجال. وفي عام 1974 استدعي الرئيس السابق احمد حسن البكر اللواء المتقاعد محمد مجيد الذي يعرف بانه من اكفأ القادة العسكريين ومشهود له بالنزاهة والضبط والشجاعة، وعرض عليه وزارة المواصلات وكانت في حينه من أكبر الوزارات بما تضمه من دوائر ومؤسسات وموظفين ومستخدمين وعمال، وقال له البكر هذه وزارة اتعبتنا وخير من يتولاها انت بما تملكه من سمات الضبط والحزم والنزاهة ولك مطلق الصلاحيات في ادارتها، وبعد ان انتهي الرئيس من كلامه، رد عليه محمد مجيد وكان في تلك الفترة يمر في ضائقة مالية وراتبه التقاعدي لايكفي لاعالة اسرته الكبيرة، ومحظور عليه العمل في اعمال حرة لاسباب سياسية، يا سيادة الرئيس انا جندي كما تعرف ولا اصلح ان اكون وزيراً لوزارة تتطلب شخصاً فنياً وخبيراً في شؤونها ومشاكلها، وامتعض الرئيس من كلامه وقال له: لديك في الوزارة حشد من الخبراء والاختصاصيين والمهندسين سيقدمون العون لك في مهمتك، ومرة اخري يرد محمد مجيد، اذن اختاروا واحدا منهم، انا لا استطيع وخشيتي ان يظلم موظف او عامل فيها واتحمل مسؤوليته لانني لا أعرف دهاليز الوزارة واهتمامات المدراء العامين فيها وخلفياتهم وسلوكياتهم، اعفني من هذه المهمة. وعاد محمد مجيد من القصر الجمهوري الي منزله وتوضأ وراح يصلي لله جل وعلا شاكراً نعمته عليه بالتخلص من هذا العبء.. ومضي في حياته زاهداً ومتواضعاً وقانعاً. ونختتم هذا الحديث عن التأريخ البهي لرجالات العراق الكبار، ما دام الصغار في بغداد يتعاركون هذه الايام علي المناصب الرئاسية والوزارية وصلاحياتها ومنافعها، بحكاية اللواء محسن حسين الحبيب عندما استدعاه الرئيس عبدالرحمن عارف من موسكو حيث كان سفيراً فيها وكلفه برئاسة وتشكيل حكومة جديدة في العاشر من تموز (يوليو) 1968 تخلف حكومة الفريق طاهر يحيي التي استقالت في اليوم السابق. وجاء الحبيب وبدأ مشاوراته مع الشخصيات السياسية وبعد يومين من الاتصالات والمباحثات ذهب الي الرئيس عارف وقال له: لقد فشلت في ضم وزراء أجد وجودهم ضرورياً في حكومتي، لذلك لا اقدر علي تشكيل حكومة وفق ما أطمح اليه، آنا اسف واعتذر واشكر لك مبادرتك تجاهي. وحاول الرئيس عبدالرحمن اقناعه بتأليف حكومة من وزراء يقبلون الاشتراك فيها، ورد عليه الحبيب ولكني انا لا اقبل يا سيادة الرئيس الا بحكومة كفوءة وقادرة علي تحمل مسؤولياتها، وعاد الرجل الي مقر عمله سفيراً في موسكو، عازفاً عن رئاسة الوزراء ومكانتها وامتيازاتها. هذا هو العراق الحقيقي المضيء برجالاته الاوفياء، وهذا هو سجله الناصع الذي يحفل باحداث وحكايات تؤكد ان العراقيين مستعدون للبذل والتضحية دائماً من اجل بلدهم وشعبهم، وصحيح ان العراق مر بعهود سادت فيها الويلات والمحن والمآسي سواء من غزوات خارجية او احتلالات اجنبية او تصرفات حكومية، ولكن التأريخ يعلمنا بان العراق ظل صامداً وصابراً وفي كل مرة يخرج من الرماد والخراب، محلقاً ومتألقاً يخلف وراءه الصفحات السود ويبدأ في البناء والنهوض. والي الذين يضعون انفسهم وطائفتهم ومصالحهم فوق كل اعتبار ويتدافعون بالمناكب والسواعد والفتنة والفرقة للاستحواذ علي المناصب والرئاسات والوزارات والمقاولات، سيأتي يوم لاشك فيه، لا تنفعكم مواقعكم ولا تفيدكم أموالكم، ولن تحميكم المنطقة الخضراء وقصورها وحراساتها الامريكية والميلشياوية، ما دمتم تغفلون العراق وتضعون شعبه خلف ظهوركم، وتتجاهلون ما يحصل له من تنكيل وتقتيل ودمار، وتذكروا مقولة (لا يصح الا الصحيح) ولو بعد حين. * صحيفة القدس العربي: