في كل يوم يمرّ، تأتي اخبار جديدة تثير المخاوف مما يشهده العراق. آخر هذه الأخبار اعتراف حكومي هو الأولّ من نوعه بوجود عمليات تهجير متبادلة بين أهل السنّة والشيعة شملت حتى الآن ما يزيد على ثلاثين ألف شخص في مناطق مختلفة. نعم هناك اعتراف بعمليات تطهير من منطلق مذهبي بدأت بعد العمل الارهابي الذي وقع في الثاني والعشرين من الشهر الماضي وأستهدف قبة مرقد الامامين علي الهادي وحسن العسكري في سامراء. هناك بالطبع من تحدّث عن عمليات تهجيرمتبادلة بدأت منذ فترة طويلة، وقد حرصت الجهات الرسمية على نفي حصول ذلك تكراراً. لكنّ حجم الأحداث التي تلت تفجير قبة مرقد الامامين جعل تكرار النفي مستحيلاّ. والواقع أن ما يشهده البلد يندرج في السياق الطبيعي للأزمة السياسية التي حالت حتى الآن دون تشكيل حكومة جديدة على الرغم أن فترة طويلة مضت على الأنتخابات النيابية التي مكّنت الائتلاف الشيعي من تشكيل الكتلة الأكبر في المجلس الجديد. الأخطر من ذلك كلّه، أن الأزمة السياسة تزداد عمقاً كلّ يوم، وأن الاحتلال الأميركي يقدم على تصرفات عشوائية تجعل هذه الأزمة في طريق مسدود. أمس كان الأميركيون يتحدّثون عن "الأكثرية الشيعية" في العراق وعن ضرورة أن تتولى هذه الأكثرية الحكم. وقد فعلوا كلّ شيء ممكن من أجل تسهيل ذلك. وتحت شعار اجتثاث حزب البعث من جذوره، اتُخذت مئات القرارات التي جعلت أهل السنّة العرب يلجأون الى التطرف بعدما شعروا بأن هناك محاولة جدية لشطبهم من المعادلة السياسية في البلد. قبل أسابيع بدأ الأميركيون يدركون أن كلّ ما فعلوه في العراق منذ ما قبل الاحتلال، صبّ في خدمة المشروع الايراني وأن النظام في طهران صار يتحكّم بالبلد. فجأة اكتشف الأميركيون أن الحزبين الشيعيين الكبيرين، أي "المجلس الأعلى للثورة الاسلامية" وحزب "الدعوة الأسلامية" حليفان حقيقيان لايران وأن الميليشيات التابعة للحزبين مُخترقة ايرانيا حتى لا نقول ما يجب قوله عن أن هذه الميليشيات ايرانية لا أكثر ولا أقلّ وانها تابعة ل"الحرس الثوري الايراني"ً. كذلك اكتشف الأميركيون أن السيد مقتدى الصدر الذي لديه ميليشيا خاصة به تدعى "جيش المهدي" محسوب بدوره على أيران. والدليل أنه عندما دعت الحاجة، سار الصدر في الخط الايراني ورجّح كفة الدكتور ابراهيم الجعفري على الدكتور عادل عبد المهدي، كمرشح لقائمة الائتلاف لموقع رئيس الوزراء. ذلك لا يعني أن عبد المهدي ليس محسوباً على ايران الاّ أن لدى طهران أسباباً خاصة بها وحسابات لا يعرف أحد غيرها سرّها تجعلها تفضّل الجعفري في هذه المرحلة. هناك حالياً اعادة نظر أميركية في الوضع في العراق. هذا شيء مفيد، لكنّ ما يمكن أن يكون مفيداً أكثر من ذلك، التعاطي الصحي مع ما يدور في العراق. وهذا يعني أن ليس مطلوباً في الوقت الراهن الاستعانة بالسنة العرب من أجل أيجاد توازن مع الشيعة الذين تبيّن ان النظام الأيراني أستطاع السيطرة على أحزابهم الرئيسية. هذا خطأ لا يصلح لمعالجة خطأ ارتكب سابقاً، فالخطأ لا يعالج بخطأ آخر في أي شكل من الأشكال. على العكس من ذلك، أن الخطأ يعالج باتّباع سياسة صحيحة تنمّ عن القدرة على القيام بعملية نقد ذاتي لا أكثر ولا أقلّ. لا بدّ للادارة الأميركية أن تستوعب أن التطور الأهمّ الذي شهده العراق منذ أنتهاء الحرب مع أيران في العام 1988 هو السعي الايراني الى معالجة السبب الرئيسي لخسارته الحرب، أو لنقل السبب الذي حال دون تمكّنه من ربحها وتحقيق طموحاته الاقليمية ذات الجذورالتاريخية القائمة على الصراع القديم بين العرب والفرس. تبيّن للنظام الايراني أن شيعة العراق لا يزالون عرباً وأن ولاءهم لقوميتهم يتقدّم على أي ولاء آخر. لذلك قاوم هؤلاء الغزو الأيراني للأراضي العراقية تماماً مثلما قاوم الأيرانيون العرب القوات العراقية لدى دخولها أقليم خوزستنان الايراني الذي اسمه الأصلي عربستان وعاصمته خورمشهر التي يسمّيها العرب المحمّرة...أستفاد النظام الايراني من تجربة الحرب مع العراق بين العامين 1980 و1988 وعمل على سدّ الثغرات التي كشفتها تلك الحرب. ولذلك، كان النظام الايراني مستعداً لمرحلة ما بعد الأحتلال الأميركي للعراق وأرسل الى هناك أحزاباً تابعة له مع ميليشيات يسيطر عليها "الحرس الثوري" الأيراني. كان هناك منتصر واحد في الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة بهدف اسقاط النظام العراقي. كان مطلوباً اسقاط نظام "المقابر الجماعية"، أي نظام صدّام حسين العائلي- البعثي الذي اضطهد كل العراقيين من سنة وشيعة وأكراد وتركمان ومسيحيين وأعتدى على جيرانه،الاّ أن الأمر الذي ليس مقبولاً يتمثّل في وقوع الأميركيين في فخّ الحرب الأهلية العراقية التي عملوا كلّ شيء ممكن من أجل حصولها.هل هناك في واشنطن من يعي ذلك؟ هل هناك من يمتلك حدّاً أدنى من الشجاعة للقول أن النظام الايراني،الذي يمتلك مشروعاً واضحاً،هو المنتصر الوحيد من الحرب الأميركية على العراق؟ متى يقتنع الأميركيون بالخطأ الذي ارتكبوه في العراق، يصبح لديهم بعض الأمل في الخروج من المأزق الذي وقعوا فيه لأسباب مرتبطة بجهلهم للوضع العراقي. وربّما كان السؤال الذي يفترض في مسؤولي الادارة طرحه على أنفسهم في هذه المرحلة بالذات هو هل في الامكان الحؤول دون تقسيم العراق بطريقة تجعل الجنوب الغني بالنفط تحت السيطرة المباشرة للنظام الايراني؟ أنه سؤال لا بدّ من طرحه لسبب في غاية البساطة هو أن السيطرة الايرانية على موارد جنوب العراق أهمّ بكثير من حصول ايران على التكنولوجيا التي تسمح لها بصنع قنبلة نووية. أن النفط كسلاح أهم بكثير من القنبلة النووية، لا لشيء ، سوى لأن القنبلة ليست سلاحاً ما دامت ليست قابلة للاستخدام، في حين أن النفط سلاح حقيقي في ظلّ حاجة العالم الصناعي اليه. بل أن هناك جوعاً لدى هذا العالم لشيء أسمه النفط. ليس باعادة الاعتبار الى السنة العرب يمكن اعادة التوازن الى العراق. المطلوب قبل كل شيء سياسة متوازنة تأخذ في الاعتبار أن لا أحد يستطيع الغاء الآخر في العراق. ليس في أستطاعة الشيعة ألغاء أهل السنّة، وليس في استطاعة أهل السنّة ألغاء الشيعة. المطلوب سياسة أميركية جديدة في العراق تقوم على أن لا ميليشيات حزبية في البلد وعلى أن العراق لكلّ العراقيين وأنه أذا كانت هناك أكثرية في البلد، فإنّ هذه الأكثرية عربية من دون أن يعني ذلك أي انتقاص من حقوق الأكراد وغير الأكراد. على العكس من ذلك، تبيّن أن الكردي جلال طالباني أكثر حرصاً على حقوق العراقيين ومصالحهم وحقوق العراق من أي شخص آخر أكان شيعياً عربياً أو سنّياً عربياً. هل في استطاعة الادارة الأميركية القيام بهذه المقاربة الجديدة؟ أم فات أوان ذلك بعدما أستطاعت أيران- النظام- اختراق الأحزاب الشيعية في العمق؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هذه الأيام وهو يقود الى السؤال الأكبر هل في الامكان تفادي تقسيم البلد؟ الكثير يعتمد على إمكان استعادة شيعة العراق من ايران. هل العرب، باستثناء الأردن وقلة من الواعين، على علم بذلك؟ وهل أن الأميركيين يدركون هذا الواقع أم أن التذكير به أضاعة للوقت ليس الاّ... وأن الحرب الأهلية باتت حقيقة لامفرّ منها؟ http://[email protected]