يتدهور الوضع في العراق يومياً. هناك في كلّ يوم ما يدلّ على أن الأمور تسير نحو الأسوأ، أقلّه بالنسبة ألى العراق والعراقيين ودول المنطقة، على رأسها الدول العربية طبعاً. قبل أيام قامت «دولة العراق الأسلامية» في منطقة ما يسمّى «المثلث السنّي». كان في الأمكان أعتبار الأمر مجرد أعلان ذي طابع فولكلوري، لولا أن الصور التي ظهرت لاحقاً أبتداء من يوم الخميس الماضي تحديداً في الفضائيات العربية كشفت أنّ هناك ميليشيات تابعة لتنظيم «القاعدة» الأرهابي تسيطر على مدن ومناطق عراقية فيها أكثرية سنّية عربية وتتصرّف في هذه المدن والمناطق من دون حسيب أو رقيب. تشير الأرقام التي تكشف عدد القتلى في صفوف القوّات الأميركية إلى ان الشهر الجاري كان كارثة على هذه القوّات، كما كان في الوقت ذاته كارثة على العراقيين. ما يمكن قوله بكلّ بساطة هو أن العراق كان بلداً عربياً موحّداً وصار بلداً من دون هوية مرشّحاً للتقسيم. قضى الأميركيّون على نظام صدّام حسين العائلي - البعثي، لكنّهم لم يعدّوا أنفسهم لمرحلة ما بعد صدّام. لا يزال السؤال الغامض مطروحا: ما الذي دفع الولايات المتّحدة إلى اجتياح العراق وأسقاط النظام هناك في وقت لم يكن هناك وجود لخطة واضحة لمرحلة ما بعد الأجتياح؟ هل الهدف النهائي تقسيم المنطقة؟ هل الهدف أثارة النعرات الطائفيّة والمذهبية في هذه المرحلة بالذات والأنطلاق من العراق في أتجاه أعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. ليس سرّاً أن وزير الخارجية الأميركية السابق كولن باول قال في مرحلة الأعداد للأجتياح أن أميركا تنوي أعادة تشكيل المنطقة. هكذا، بكلّ بساطة وصراحة، كشف باول الذي كان وقتذاك وزيراً للخارجية، الهدف الأميركي من أحتلال العراق من دون توضيح ما هو المطلوب في النهاية. هل المطلوب أعادة النظر في خريطة الشرق الأوسط التي رُسمت بعد أنتهاء الحرب العالمية الأولى وأنهيار الدولة العثمانية في مطلع العشرينات من القرن الماضي؟ أم المطلوب أثارة نزاعات تؤدي ألى حروب لا نهاية لها داخل العراق نفسه أوّلاً وفي محيطه في مرحلة لاحقة وذلك كي تعمّ الفوضى المنطقة كلّها؟ أقدمت القوة العظمى الوحيدة في العالم على مغامرتها العراقية في وقت كان أي طفل وُلد في الشرق الأوسط يدرك منذ اللحظة التي قرّرت فيها أدارة بوش الأبن أجتياح العراق أن أيران ستخرج منتصرة من الحرب وأنها ستجيّر عملية أسقاط النظام العراقي لمصلحتها. لم يكن هناك أيّ خلاف بين أيّ شخصين عاقلين يعرفان القليل عن الشرق الأوسط على أن الحرب الأميركية على العراق تصبّ في خدمة النظام الأيراني ولا أحد غير النظام الأيراني. ومن هذا المنطلق، ليس مستغرباً اليوم قبل غد أن تكون أيران في موقع يمكّنها من التفاوض مع الأميركيين من موقع قوة في شأن كلّ ما له علاقة بالعراق... وببرنامجها النووي الذي تؤكّد بكل قوّة وعزم أنّها لا يمكن أن تقبل بالتراجع عنه! بالطبع ،لا يعني هذا الكلام أن نظام صدّام كان يجب أن يستمرّ. لم يكن هذا النظام على علاقة بما يدور في المنطقة والعالم. أكثر من ذلك، قضى صدّام على كل ما هو حضاري في العراق وعمل على تفكيك النسيج الأجتماعي للعراق. و يدفع العراقيون حالياً ثمن ما أقدم عليه صدّام الذي أقام نظاماً قمعيّا لا يؤمن سوى بالعنف ناقلاً البلد من حرب ألى أخرى منذ اليوم الأوّل الذي صار فيه رئيساً. وقد أدرك الأيرانيون نقاط الضعف لدى صدّام وأستغلّوها بطريقة أوصلتهم ألى أن يكونوا، بفضل الأميركيين أوّلاً وربّما أخيراً، الحكام الحقيقيين للعراق في أيّامنا هذه. تبيّن أن ليس أغبى من صدّام سوى أدارة بوش الأبن التي أجتاحت البلد لتسلّمه للنظام الأيراني. هل تعترف واشنطن بهذا الواقع، أم تمارس المكابرة من دون أن تسأل منذ متى كانت المكابرة سياسة؟ الواقع أن المكابرة لم تصلح يوماً لأن تكون سياسة. ولذلك بدأت ترتفع أصوت من داخل أميركا تدعو إلى الخروج من المأزق العراقي عن طريق الأستعانة بأيران وحتّى بسوريا أيضا. وبكلام أوضح، سيكون على الأدارة الأميركية الأستعانة بأيران وألى حدّما بسوريا للخروج من المأزق وتسليم العراق تالياً ألى هذين النظامين. هل في أستطاعة أميركا الأعتراف بهزيمتها العراقية بهذه السهولة وأعادة النظر بكلّ الأسس التي أستندت أليها في مرحلة ما قبل الأجتياح الذي أستهدف البلد؟ من الواضح، أنّه يصعب على أدارة بوش الأبن الأعتراف بأنّها هزمت في العراق. خصوصاً أنّها هزمت أمام المحور الأيراني- السوري الذي يشجع الميليشيات الطائفيّة التابعة للأحزاب الشيعية الكبيرة من جهة والأرهاب الذي تمارسه مجموعات سنّية متطرّفة تنفّذ عمليات أنتحارية من جهة أخرى. لهذا السبب وليس لغيره، لن تجد الأداة أمامها سوى متابعة سياسة المكابرة غير مدركة للنتائج التي ستترتّب عليها في المدى البعيد. مثل هذه السياسة التي بنيت على الجهل التام للمعطيات العراقية، بما في ذلك النتائج التي يمكن أن تترتّب على قرار مثل قرار حلّ الجيش العراقي، لن تقود سوى ألى تقسيم العراق. من قال أن الهدف النهائي للذين دفعوا في أتجاه أجتياح العراق ليس تقسيم البلد تمهيداً لتقسيم غيره؟ ربما سيتوجب في المستقبل التفريق بين الذين أتخّذوا في واشنطن القرار الذي قضى بأجتياح العراق من جهة وبين الذين دفعوا ألى أتخاذ القرار من خلف الكواليس من جهة أخرى. هؤلاء، الذين عملوا في الكواليس، يعرفون الهدف الحقيقي من عملية أحتلال العراق ومن الأصرار على تسليم الحكم لأحزاب طائفية لديها ميليشيات خاصة بها تابعة مباشرة لأيران. في النهاية هل النظام الأيراني الحالي عدوّ حقيقي للولايات المتّحدة أم أنّه حليف لها كما الحال في العراق... في حين أنه «عدو» ل»الشيطان الأكبر» حيث يروق له ذلك، أي في لبنان مثلاً حيث صبّت الحرب الأخيرة التي تسبّب بها في خدمة أسرائيل ولا أحد غير أسرائيل. من قال أن أسرائيل ليست المستفيد الحقيقي من تقسيم العراق الذي يبدو أقرب ألى الواقع والحقيقة مع مرور الأيّام...ثمة حقائق كثيرة ستكشفها الأيّام الآتية. على رأس هذه الحقائق أن الحلفاء الحقيقيين والأوفياء لأميركا وأسرائيل هم الذين يطلقون الشعارات الأكثر تطرفاً ضدّهما! المضحك – المبكي أن هذه الظاهرة ليست جديدة في المنطقة. أنّها ظاهرة أزلية تجعل من الوطني الحقيقي الصادق الذي يسعى ألى حماية الحقوق العربية يظهر في مظهر الخائن، في حين أنّ الذين يقاتلون أسرائيل بالصياح والشعارات ويدّعون تحقيق الأنتصارات الوهميّة صاروا الوطنيين الحقيقيين بالنسبة ألى الجماهير العريضة. كم من الجرائم رتكب بأسم الجماهير الغبية التي لا تزال تؤمن بأنّ لا صوت يجب أن يعلو فوق صوت المعركة... من قلسطين ألى العراق ومن العراق ألى فلسطين