ما لا يقوله الأميركيون عن حقيقة الوضع في العراق، يقول البريطانيون جزءا منه فقط. جديد العراق هذه الأيام أن القادة العسكريين البريطانيين بدأوا يتحدثون صراحة عن الخلافات بين لندن وواشنطن وعن الفشل الذريع للأستراتيجية الأميركية في العراق. آخر من وجه سهامه الى الادارة الأميركية الجنرال مايك جاكسون الذي كان رئيس الأركان البريطاني في أثناء الاعداد للحرب على العراق وبعد بدء هذه الحرب التي أسفرت عن احتلال أميركي- بريطاني للبلد في ابريل- نيسان من العام 2003. قال الجنرال جاكسون في حديث الى صحيفة «دايلي تلغراف» التي ستنشر حلقات من مذكراته قريبا، ان الاستراتيجية الأميركية في العراق أتسمت ب«قصر النظر». وحمل الرئيس السابق للأركان على وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد الذي أعتبره مسؤولا عن الكارثة التي حلت بالعراق خصوصا بعدما أعتبر رامسفيلد أن «بناء الأمم ليس من مهمات الجيش الأمريكي». ربما كان وزير الدفاع الأمريكي السابق يريد ألقول أن من مهمات الجيش الأميركي تهديم الدول وتفتيتها بغض النظر عما يحل بهذا الشعب أو ذاك. يرتدي كلام الجنرال جاكسون أهمية خاصة نظراً ألى أنه يدعم وجهة نظر كبار ضباط الجيش البريطاني الموجودين حاليا في العراق. هؤلاء يعترفون بأن لا شيء يمكن عمله لانقاذ ما يمكن انقاذه وأن على القوات البريطانية الانسحاب من جنوب العراق في أسرع وقت. ولكن ما الذي لا يقوله الأميركيون والبريطانيون وما لم يرد في التقرير الذي سيصدر خلال أيام عن قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال بتريوس والسفير الأميركي في بغداد رايان كروكر؟ من الآن، يفترض عدم توقع أن يسمي الرجلان الأشياء بأسمائها. أي أن بتريوس وكروكر لن يقولا للأميركيين صراحة لدى الأدلاء بشهادتيهما أمام الكونغرس أن الوضع في العراق مأساوي وأن الكارثة حلت بهذا البلد العربي، سابقا، وأن لا أمل حتى في لملمة الوضع بالتي هي أحسن قبل أكتمال الفصل الأخير من الحرب الأهلية التي تسبب بها الأحتلال. تماما مثل القادة العسكريين البريطانيين، لن يتجرأ الرجلان على القول لممثلي الشعب الأميركي أن في أستطاعة الجيش الأميركي أن يربح كل المعارك التي يخوضها مع مسلحين في العراق... لكنه لن يكون في أستطاعته أن يربح الحرب، اللهم الا اذا كان الهدف النهائي من اجتياح العراق تقسيم البلد نتيجة حرب أهلية بدأت منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، أي عندما تبين أن ليس بالإمكان تشكيل جيش عراقي جديد يحل مكان الجيش الذي صدر قرار بحله عن بول بريمر الذي كان الحاكم المطلق الصلاحية للعراق. لعلّ أهم ما لا يتجرأ العسكريون والمدنيون البريطانيون والأميركيون على قوله أن العراق متروك للميليشيات المسلحة التي تقتل المواطنين وتهجرهم على الهوية الطائفية والمذهبية لا أكثر ولا أقل. ميليشيات على مد العين والنظر ليس في العراق فحسب، بل في كل أنحاء المنطقة أيضا. ولذلك سينسحب البريطانيون من جنوب البلد عاجلا أم آجلا فيما على الأميركيين البحث عن خطة تقود الى أنسحاب بطريقة مختلفة قد تسمح، وعلى الأرجح أنها لن تسمح، لادارة بوش الابن بأنقاذ ماء الوجه. تُركت الميليشيات التابعة للأحزاب الشيعية الكبيرة تسرح وتمرح وتخترق الأجهزة الأمنية التي حاول الأميركيون اعادة بنائها ألى أن اكتشفوا أن الولاء الأول للمنضوين تحت أعلام الميليشيات هو للأحزاب التي ينتمون اليها وليس للعراق وأن ما يحرك عناصر الميليشيات التي دخلت في معظمها من ايران هو الرغبة في الانتقام من الآخر وليس بناء دولة أو مؤسسات في أطار دولة. عمل الأميركيون كل ما في أستطاعتهم من أجل انفلات الغرائز، كل أنواع الغرائز من مذهبية وطائفية ومناطقية، من عقالها. وكان أن القرار القاضي بحل الجيش والأجهزة الأمنية التابعة للنظام العائلي – البعثي المخلوع أندرج في سياق آثارة الغرائز عندما تشرد آلاف الضباط والجنود من السنة العرب ولم يعد لديهم ما يعيلون به أفراد أسرهم. ووفر ذلك فرصة كي ينتشر التطرف والتزمت انتشار النار في الهشيم بين هؤلاء، فكانت تلك فرصة لا تعوض لتنظيمات ارهابية من نوع «القاعدة» وما شاكلها كي تعزز مواقعها في منطقة ما يسمّى المثلث السنّي. شاء الأميركيون أم أبوا، عليهم في نهاية المطاف الاعتراف بأنهم خسروا حرب العراق وأن الرابح الوحيد، اقله الى الآن، هو النظام الايراني عبر ميليشياته. هذا النظام الذي قدم للأميركيين كل التسهيلات المطلوبة كي يتورطوا في الحرب وكي يخلصوه من عدو تاريخي اسمه صدّام حسين، الرجل الذي كانت له علاقة بكل شيء بأستثناء السياسة وكيفية التعاطي مع المعادلات الأقليمية والدولية. وربما كان أهم ما على الأميركيين الاعتراف به ان الطريقة ألتي أداروا بها العراق بعد اسقاط نظام صدّام أدت ألى نشر ثقافة جديدة في المنطقة هي ثقافة الميليشيات. هذه الثقافة التي بدأ استخدامها في عملية تفتيت المنظومة العربية سياسيا وأمنيا... من الخليج ألى المحيط. عن طريق ثقافة الميليشيات يجري تفتيت لبنان وعن طريق هذه الثقافة، هناك جهود تبذل لإبقاء الشعب الفلسطيني وقودا للصراعات والنزاعات الأقليمية. وعن طريق الثقافة ذاتها مصحوبة بالفكر المذهبي، يتعرض اليمن منذ فترة لا بأس بها لمؤامرة الحوثيين التي تستهدف النيل من الأستقرار فيه. وبلغت هذه الثقافة مصر حيث ظهرت ميليشيا للأخوان المسلمين قدمت عرضا حيا في جامعة الأزهر في الشتاء الماضي. وكان واضحا أن العرض الذي قدمته ميليشيا الأخوان مستوحى ألى حد كبير من عروض «حزب الله» في المربعات الأمنية التي أقامها في لبنان. ليس سرا في لبنان أن «حزب الله» يسعى الى تطويع الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها وجعلها في امرته قبل الاجتياح الامريكي للعراق والأنتصار الذي حققته ايران هناك، كانت تصرفاته تتسم ببعض الخفر. في السنوات الثلاث الأخيرة، خصوصا بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري وقبيل استشهاده، لم يعد خافيا ان الحزب الذي يمتلك ميليشيا كبيرة خاصة به تمدد في الأراضي اللبناني وحتى داخل بيروت نفسها من أجل تكريس واقع جديد. يتمثل هذا الواقع في أنه صاحب الكلمة الفصل في البلد، بما في ذلك أنه يتحكم بقرار الحرب والسلام، أكان مع أسرائيل أو مع الأطراف اللبنانية الأخرى التي لا تمتلك سلاحا تتصدى به لطموحاته التي لا حدود لها. كذلك، ليس سرا في فلسطين أن ميليشيا تابعة ل»حماس» سميت «القوة التنفيذية» كانت وراء الأنقلاب الذي شهده قطاع غزة منتصف يونيو- حزيران الماضي وهذه المليشيا هدفها كما يبدو وهو تمكين «حماس» من السيطرة نهائيا على جزء من القرار الفلسطيني تمهيدا لخطف القرار كله في مرحلة لاحقة في حال سنحت لها الفرصة. كانت البداية في العراق حيث فرخت ميليشيات من كل الأشكال والأنواع نتيجة الاحتلال الأميركي والبريطاني. أستغلت ايران الميليشيات لخلق فوضى في البلد. هل صدفة أن يكون القتال الذي دار في كربلاء قبل أيام بين ميليشا تابعة للنظام الأيراني وأخرى موالية له؟ يبدو مطلوبا أكثر من أي وقت انتشار ثقافة الميليشيات في كل أنحاء العالم العربي، من العراق، الى لبنان، الى فلسطين، الى اليمن، الى مصر، وذلك بغض النظر عمن يقاتل من. تلك هي حتى الآن النتيجة المباشرة لما أرتكبه الأميركيون في العراق وتقديمهم البلد على صحن من فضة ألى النظام في طهران. حصل النظام الأيراني فوق ذلك كله على رأس صدّام حسين يتوج به الملالي انتصارهم الذي ازال من امامهم كل حاجز في اتجاه التمدد في اتجاه المتوسط حتى الحدود مع مصر! هذا ما يفترض أن يعترف به القادة العسكريون البريطانيون بدل الأكتفاء بلوم الأمريكيين على قصر نظرهم. ما تشهده المنطقة حالياً تجاوز مرحلة القاء اللوم على الأمريكين وتوصيف غبائهم على غرار ما فعل الجنرال جاكسون. هذا الغباء تحصيل حاصل. السؤال هل من يريد مواجهة ثقافة انتشار الميليشيات التي تفرخ في الشرق الأوسط... أم ان الميليشيات جزء من عملية اعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدم كل ما هو غير عربي فيها؟