على الرغم من كون الفيلم الرابع لسيرة المخرج المصري يوسف شاهين (إسكندريّة- نيويورك) لم يكن الأول عربياً من حيث تناول إشكاليّة العلاقة بين العرب و أمريكا ، إلاّ أنه استطاع بتميّز و حرفيّة عاليّة أن يجذب المشاهد حتى اللحظة الأخيرة و ربما لما بعد انتهاء الفيلم ؛ حيث لم يكن الفيلم مجرد سرد لسيرة المخرج يوسف شاهين كما في (حدوتة مصرية ، اسكندرية ليه ،اسكندرية كمان و كمان) ، بل استطاع كذلك أن يطرح تساؤلاً مُلحّاً للغرب عن جذور نظرته للشرق ، لاسيّما و أنّ الفيلم هو إنتاج مشترك ما بين مصر و فرنسا. يستهلّ الفيلم أحداثه بمشهد متلفز لعرس شهيد مكفّن بالعلم الفلسطينيّ وسط نحيب أهله و هتافاتهم ، ليرفض المخرج يوسف شاهين ،الذي أدّى دوره الفنان محمود حميدة، أن يسافر لأمريكا لحضور حفل التكريم الذي أقاموه له هناك بعدما أثار هذا المشهد أشجانه . يقنعه رفاقه بضرورة السفر و حضور التكريم كيّ لا يكون سلبياً في عيونهم ، يسافر و يتعرض خلال التكريم لصحفي يهودي يحاول إثارة النعرات . ليلتقي بعد ذلك بمعشوقته الأمريكيّة القديمة ،التي تمثل دورها الفنانة يسرا، و ليكتشف أنّ له ابناً منها ، فيصاب بالإحباط و فقدان الأمل عندما ينكره ابنه لأنه أبّ عربي ينتمي للعالم الثالث ، لتعاوده الذكريات الأليمة من العنصريّة التي عاناها من الأمريكيّين و اليهود هناك عندما كان طالباً في قسم الفنون. و لربما يعدّ هذا الفيلم من أكثر أفلام شاهين وضوحاً و سلاسة ؛ حيث يؤخذ عليه دوماً حبكته المبهمة التي يتوه المشاهد في دهاليزها ، بل لقد وصلت درجة الوضوح في فيلمه هذا إلى حدّ الحوار المباشر الذي يصيب المشاهد للحظات بالضجر ، لاسيّما فيما يتعلّق بآرائه الواضحة في أمريكا و سياستها ضدّ العرب. بالإضافة لكون البطولة التي تقاسمتها يسرا و محمود حميدة كانت من أعظم نقاط النجاح للفيلم ؛ و خصوصاً محمود حميدة الذي يثبت للمرة المئة أنّ نجاحه ليس صدفة ، و هو ما يؤكده كذلك فيلمه الأخير (ملك و كتابة) الذي أدّى فيه دور أستاذ جامعي معقّد . قضايا ملحّة عدّة أبرزها شاهين في فيلمه هذا منها الحلم الأمريكي American Dream ، العلاقة ما بين الشرق و الغرب ، إمساك اليهود بزمام الإعلام الأمريكي و هوليود . ليس أدلّ على ذلك من مشهد طرد المسؤولين ليوسف شاهين من استديوهات هوليود عندما كان طالباً ، ليس لسبب إلاّ لكونه عربي . و لعلّ نقطة القوّة في مرافعته هذه تكمن في أنّ فترة العنصريّة هذه كانت في الأربعينيّات أيّ قبل موجة الإرهاب و ما رافقها من تعقيدات . مشهد النهاية الذي آثر شاهين أن يختم به فيلمه الدرامي تمثل في محاولته الهرب من أيّ لحظة حنين تمتّ لأمريكا سواء كانت حنيناً للحبّ القديم أو ذكريات الدراسة أو ابنه العنصريّ ضدّ العرب .. مشهد يستدرّ الدموع عندما يتداخل مع أغنيّته الحزينة "نيويورك بتقتل أيّ حنين"...