لا بد وأن الذين عاصروا ثمانينات القرن الماضي ومن تسنى لهم فيما بعد التعرف على وقائعها وحقائقها يتذكرون أن القوى التي كانت تتقاسم لعبة تبادل الأدوار ظلت تتغذى بإرهاصات الكيد بين بعضها البعض ليبلغ الأمر ذروته في الإعلان الشهير الذي روج لبشارة ميلاد تنظيم من طراز جديد وجاءت التطورات والأحداث اللاحقة لتؤكد أنه لم يكن سوى البداية التي ساقت الأوضاع إلى الانفجار الدموي في 13 يناير 1986م. - فلم يكن التصالح بعيدا عن طابع ومفردات هذا الطراز الجديد الذي سعى إلى تأطير كل الفرقاء في تنظيم واحد إلا أن النزيف الدموي الحاد قد أودى بحياته وأجهز في طريقه على آلاف الأبرياء من المواطنين. - وهاهو هذا النموذج يطل برأسه اليوم من خلال بعض عناصر الفشل التصالحي في الماضي ليعيد إنتاج نفسه من جديد عبر مقصلة التحريض على الشغب وإقامة التجمعات التي يحشد إليها الغوغاء بهدف إقلاق الأمن والسكينة العامة وتغذية النعرات المريضة وزرع الفتن التي يكون وقودها الأبرياء من المواطنين.. كما هو حال من سقطوا يوم أمس في ما أُسمي بمهرجان التسامح والتصالح الذين امتدت إليهم عدوانية ذلك الطراز الجديد شأنهم شأن مدينة عدن التي يحاولون الانتقام منها عن طريق جعلها مسرحا لمراميهم الخبيثة سعيا إلى حرمانها من الانتعاش وتدفق الاستثمارات عليها. - فكيف لمن يدعو إلى التسامح وقد أراق الدم وسبق له أن قاوم بل قاتل التصالح وكان مسؤولا عن الحرائق والخراب وانتهاك حرمات الأبرياء وممتلكاتهم في تراجيديا سوداء لا يقوم بها إلا كل معتد أثيم. - فما حدث يوم أمس من استخدام سيئ لفكرة التصالح والتسامح كانت محاولة مكشوفة ومعلنة هدفها إعادة إنتاج النزعات المناطقية وزرع الأحقاد والضغائن بين أبناء الوطن الواحد بدليل أن تلك الدعوة قد بنيت على أساس جهوي وشطري أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن المواجهة التي يسعون إليها هذه المرة هي وأد أكبر عملية تصالح حققها الوطن اليمني في الثاني والعشرين من مايو عام 1990م بإعادة وحدته ولحمته الوطنية والتي جاءت لتغلق ملفات الماضي بكل مآسيها. - وانطلاقا من هذه النوايا فإنهم الذين يستميتون اليوم في التأليب الاستغلالي للبسطاء خلف دعاوى التصالح والتسامح في الوقت الذي ينفثون فيه سموم الكراهية ويعملون على توسيع الشقة بين مكونات مجتمع موحد في غاياته وأهدافه وتطلعاته وثقافته الوطنية ، وفي هذه الحالة فلا تستقيم وتتوافق الدعوة إلى التصالح والتسامح مع ذلك الفرز المناطقي الذي يطلق العنان للنوازع الجهوية والقروية ويعمل على إشاعة الخصومة بين المواطنين. - وكالنافخ في الكير لا غيره يحرص هؤلاء على التذكير بالمآسي ليس من أجل تضميد الجراحات بل في سبيل إحياء الثأرات وبواعث الانتقام.. والترويج للنعرات المدمرة التي إذا ما اشتعلت نيرانها فإنها ستحرق الجميع وفي مقدمتهم أولئك الذين عملوا على تأجيج شررها ولهيبها. - والثابت أن من يريد الصلاح فالسبيل إلى ذلك هو الانضمام إلى مسيرة تحقيق الإصلاحات الشاملة سواء بالمشاركة في برامجها القائمة أو إثرائها بالرؤى والبدائل التي ترتقي إلى الكيفية الأفضل ، بعد أن فتحت الديمقراطية أمامنا آفاق المستقبل اليمني الجديد ووضعت بين أيدينا إمكانية طي صفحات الماضي الملطخة بالسواد وليس غير المتعطشين للدماء وحدهم من يلهثون وراء إعادة فتح تلك الصفحات القاتمة بما جبلوا عليه من سلوكيات التطرف والغلو والحقد على كل شيء في هذا الوطن ، وأولئك هم من يتصالحون بالدم.