من يراقب عن كثب تصرفات المسؤولين الأميركيين الجدد أو الدائرين في فلك الإدارة الجديدة، يلاحظ أن هناك ميلاً لدى هؤلاء إلى اتباع سياسة أكثر شفافية بكثير من تلك التي اتبعتها ادارة بوش الابن في السنوات الثماني الماضية، هذا لا يعني في أي شكل أن الادارة الجديدة ستكون مختلفة كلياً عن الادارة السابقة بمقدار ما أنه يعني أن ادارة باراك أوباما ستتبع سياسة يمكن أن تكون أكثر خبثاً من الإدارة السابقة، ولكن بأسلوب حضاري بعيد عن المواجهة المباشرة أو ادارة الظهر للآخر، يكفي في هذا المجال الإشارة إلى تصريحين في غاية الأهمية يعطيان فكرة عن توجهات ادارة أوباما، التصريح الأول لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي تحدثت عن “مشاكل” مع كوريا الشمالية مرتبطة بخلافة زعيم البلد كيم جونغ إيل. واشارت إلى أن هذه المشاكل تزيد من “علامات الإستفهام” في شأن الوضع في كوريا الشمالية، إنها المرة الأولى التي يركز فيها مسؤول أميركي على مسألة الخلافة في كوريا الشمالية حيث تعرض كيم جونغ إيل الصيف الماضي إلى جلطة دموية لم يتعاف منهاإلى الآن، ولم تخف هيلاري كلينتون أن موضوع الخلافة في بيونغيانغ يشرّع الأبواب أمام المزايدات، وأمام اتخاذ مواقف متشدّدة من البرنامج النووي، في الماضي، كان المسؤولون الأميركيون حريصين على تفادي توفير مثل هذا النوع من المعلومات للصحافة، الآن تحاول وزيرة الخارجية إعطاء فكرة للمراسلين الذين رافقوها في رحلتها الآسيوية عن الصعوبات التي تواجه دولة مثل الولاياتالمتحدة لدى التعاطي مع دولة “مارقة” مثل كوريا الشمالية، ما كشفته جولة كلينتون التي شملت اليابان وأندونيسيا، وكوريا الجنوبية والصين يتمثل في أن الإدارة الأميركية الجديدة ليست في وارد عقد صفقات في شأن البرنامج النووي الكوري الشمالي. إنها أكثر تشدداً من إدارة بوش الابن، بل تعتبر أن الإدارة السابقة تراخت مع بيونغيانغ وسمحت لها بكسب الوقت بدل اتخاذ موقف حازم من برنامجها النووي، ومن برنامج لتطوير الصواريخ المتوسطة المدى قابل للتصدير إلى دول أخرى، على رأسها إيران. أما التصريح الآخر الذي يشير إلى مقدار كبير من الشفافية والجرأة، فهو ذلك الذي صدر عن السناتور الديموقراطي جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في أثناء زيارته لبيروت قبل توجهه إلى دمشق لمقابلة الرئيس بشّار الأسد، قال كيري في بيروت حيث حصر لقاءاته برئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وبرئيس مجلس الوزراء السيّد فؤاد السنيورة، ورئيس الأكثرية النيابية السيد سعد الحريري أن بلاده تحاور المسؤولين السوريين “من دون أوهام”. ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قدّم مطالب محددة إلى السوريين تتعلّق بدعم “حزب الله” و”حماس”. كان يقول إن الإدارة الجديدة على استعداد للدخول في حوار مع السوريين في شأن لبنان وفلسطين والعراق، علماً بأن دمشق تعرف تماما ما المطلوب منها.. من كلام كلينتون وكيري، يتبين أن التغيير بين ادارة بوش الابن وإدارة باراك أوباما ينحصر في الأسلوب، يختصر الأسلوب حدود الانقلاب على إدارة بوش الابن. كل ما في الأمر أن الإدارة الجديدة مستعدة للذهاب بعيداً جداً في ضغطها على كوريا الشمالية من أجل وقف برنامجها النووي، أما بالنسبة إلى دولة مثل سوريا، فإن التغيير يختصر بكلام السناتور كيري عن أن الإدارة الجديدة لن تكتفي بطرح مطالبها كما فعلت الإدارة السابقة، بل ستذهب إلى حد ملاحقة تنفيذ المطالب، الأكيد أن إدارة أوباما ما زالت تتلمس طريقها في شأن كيفية التصرف مع الملفات الدولية العالقة، ربما كان ذلك يفسّر عمليات جس النبض التي تقوم بها إيران في مناطق مختلفة حيث تعتقد أن لديها أوراقاً تلعبها. وعلى سبيل المثال وليس الحصر جاءت التصريحات المعادية للبحرين لتشير إلى مدى التضايق الايراني من الإدارة الأميركية الجديدة، ومن صراحتها في التعاطي مع النظامين في كوريا الشمالية وسوريا، ليس سرّا أن إيران تراهن على حوار مع الادارة الجديدة يؤدي إلى صفقة بين الجانبين تتناول مستقبل الدور الايراني في المنطقة، ولكن ليس سراً أيضاً أن مثل هذه الصفقة لم تعد واردة في ضوء انخفاض أسعار النفط والأزمة الاقتصادية العميقة التي تعاني منها إيران، ستكون إدارة أوباما على استعداد للدخول في حوار مع طهران على العكس من إدارة بوش الابن، لكن الحوار سيكون من موقع مختلف، أي “من دون أوهام” نظراً الى أن المسؤولين الحاليين في واشنطن يعرفون تماماً ًماذا تريد طهران مثلما يعرفون ما الذي تريده دمشق، يعرفون تماماً ألفارق بين برميل النفط بسعر مئة وأربعين دولاراً وأكثر ... وبين برميل بسعر يقل عن أربعين دولاراً. يعرفون أن لهبوط سعر البرميل ثمناً سياسياً وأن التهديدات الايرانية لدولة مسالمة مثل البحرين لا تشكل أكثر من اشارة إلى مدى التضايق الايراني من هبوط سعر النفط وكم أن طهران على استعداد للذهاب بعيداً في مغامراتها من أجل تحسين موقعها التفاوضي مع “الشيطان الأكبر”. تكمن مشكلة إيران وسوريا وكوريا الشمالية في أن إدارة أوباما تبدو، أقله إلى الآن، أكثر ذكاءً وخبثاً من إدارة بوش الابن. وليس مستبعداً أن يأتي يوم قريب يوجد فيه من يترحّم على المحافظين الجدد بعد اختبار الليبراليين الجدد!