الحقيقة التي يعلمها الجميع حتى البسطاء من أبناء الشعب اليمني، أن هناك بعض القوى سياسية كانت أو اجتماعية ما زالت ترى في رسوخ قواعد الممارسة الديمقراطية على نحو صحيح أو سليم، أمراً يتعارض مع مصالحها ورغباتها ومطامعها الذاتية المحكومة بطابع نفعي وانتهازي يجد في العمل الديمقراطي المؤطر بمفاهيم أخلاقية وقيمية وحضارية ووطنية، حجر عثرة أمام بلوغ أهدافه وغاياته الأنانية الضيقة. ولذلك فإن تلك القوى قد ظلت وما زالت تكرس جهودها وطاقاتها وإمكانياتها بغية إفراغ العملية الديمقراطية من تقاليدها وقيمها وضوابطها والمسؤوليات المرتبطة بها إلى درجة أنه وكلما تقدمت التجربة الديمقراطية اليمنية خطوة نحو الأمام، حاولت تلك القوى إعادتها إلى الخلف إما عن طريق إقامة بعض التجمعات غير الشرعية وغير القانونية أو من خلال ابتداع بعض الملتقيات الهلامية والطوباوية التي تُحشد لها عناصر فاتها قطار الزمن أو شخصيات تبحث لنفسها عن دور أو أدوار أو أفراد ممن يجذبهم البريق الإعلامي وحب الظهور والشهرة. واللافت أن من يلجأون إلى استنساخ مثل هذه التجمعات والملتقيات هم في أغلبيتهم منتمون إلى أحزاب سياسية تمارس نشاطها بكل حرية في إطار التعددية السياسية التي يكفلها الدستور، وبوسعهم التعبير عن أنفسهم ومواقفهم من هذه المنابر الحزبية خاصة وأن عدداً منهم يحتل مواقع قيادية في تلك الأحزاب، وليس هناك ما يحول دون ممارسة نشاطهم من تلك المنابر بدلاً من تلك التجمعات والملتقيات التي يتصورون أنها ستحقق لهم "الزعامة" عن طريق تسجيل المواقف باسم تجمعات تفتقد للشرعية الدستورية والديمقراطية، ولا ندري لماذا يتجه مثل هؤلاء إلى البحث عن مجد زائف من خلال ملتقيات تناهض الديمقراطية مع أن بإمكانهم ممارسة العمل السياسي والحزبي عبر قنواته المشروعة، وهو الحق الذي صار متاحاً ومكفولاً لكل مواطن. ولا نبتعد عن الحقيقة إذا ما قلنا أن من يعمدون إلى مثل هذه الممارسات إما بهدف النيل والإساءة للمؤسسات الدستورية أو تصفية حساباتهم مع من يختلفون معهم بطريقة لا تحترم آداب الاختلاف والتباين في وجهات النظر، إنما يرتكبون بتلك الممارسات خطأ جسيماً بحق الديمقراطية والتعددية السياسية وبحق الوطن ومجتمعهم وبالذات إذا ما علمنا أن ما يصدر عن تلك التجمعات والملتقيات من أطروحات أقل ما يُقال عنها أنها التي تُشرعن لثقافة التطرف والعنف والنوازع التدميرية التي يبني أصحابها حساباتهم على ما قد يجنونه من وراء الحرائق التي يشعلونها والفتن التي يثيرونها والنعرات المناطقية والشطرية والجهوية والعنصرية التي يروجون لها. إن ما نتحدث عنه هنا لا نقوله جزافاً أو لمجرد المكايدة مع أحد، بل إن أمانة المسئولية هي من تدفعنا إلى وضع النقاط فوق الحروف إنصافاً لهذا الوطن الذي اتخذ الديمقراطية منهجاً وخياراً لا رجعة عنه، وإنصافاً أيضاً لحق أبناء شعبنا الذين يفاخرون بنهجهم السياسي وانفتاحهم الديمقراطي المجسد في التعددية الحزبية التي استوعبت مختلف ألوان الطيف ولم تستثن أحداً. وإنصافاً - في الأول والأخير- لمسار وطني لم يكمم فماً ولم يكسر قلماً ولم يضق برأي حتى وإن غلب عليه الشطط والزيف والتجرد من الحقيقة.. مسار وطني يؤمن بأن الديمقراطية هي بوابة الاستقرار والتنمية والتقدم والسلم الأهلي، وأنه من دون الديمقراطية يصعب تحقيق التطلعات وإنجاز الأهداف وتأمين المستقبل الأفضل. فهل فكرت تلك القوى والعناصر التي تستغل مناخات الديمقراطية لنفث سمومها وأحقادها على من تختلف معهم أو يختلفون معها، أن الديمقراطية والحرية ليست باباً مخلوعاً أو عملية فوضوية لا تحكمها مسئوليات وضوابط تحمي المجتمع من التجاوزات والانتهاكات التي يغيب فيها الوعي والالتزام بثقافة الديمقراطية وتقاليدها وقيمها؟!. وهل فكرت تلك القوى والعناصر أن محاكاتها وتبريراتها للأفعال والدعوات المشبوهة والبالية والمتخلفة تضعها على نفس الخط مع أولئك الغوغاء الذين يسيرون عكس التيار ويركضون وراء السراب، إن لم تصبح شريكاً في الجرم والجريمة التي يرتكبها أولئك الغوغاء بحق شعبهم عن طريق أعمال التخريب والشغب وافتعال الزوابع التي يرمون من خلالها إلى زعزعة الأمن والاستقرار والتأثير على مجريات التنمية وجذب الاستثمارات والجهود الرامية إلى الحد من البطالة والتخفيف من الفقر وإيجاد فرص العمل للعاطلين وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين. وهل يعلم كلا الفريقين أن عزة المرء وكرامته تكمن في عزة وكرامة وطنه وكذا الإيثار والتضحية من أجل هذا الوطن؟!.. وأن سعة الفهم وسعة الأفق موهبة ربانية منحها الخالق للإنسان، والشقي من تضيق به نفسه ليصبح عبداً لنزواته وأهوائه ومصالحه فتحجب عنه رؤية النور ورؤية الصواب والتمييز بين الحق والباطل، بينما الحق ظاهر والباطل بائن والإنسان كان وسيظل على نفسه بصيراً.