قبل ست سنوات كان العراق بلداً عربياً موحداً رغم الحصار الدولي ورغم كل المشاكل المتصلة بالنظام السابق.قبل ست سنوات كانت القضايا العراقية الشائكة مرشحة للحل في اطار البلد الواحد والنظام الواحد والحكومة المركزية الواحدة.. قبل ست سنوات كانت النزعات المذهبية في العراق قاصرة على حلقات ضيقة فيما الوطنية العراقية والعروبة تحتل المقام الاول في حياة العراقيين. قبل ست سنوات كان العراق قادراً على إعادة ترتيب شؤونه لو اتيح له أن يتخلص من الحصار قبل ست سنوات لم يكن العراق عبئاً على العرب والاتراك وغيرهم. واليوم نلقي نظرة خاطفة على أحوال هذا البلد بعد ست سنوات. لقد صار العراق مأوى للخراب المذهبي والأمني تضربه أمراض غابت عنه منذ عقود مثل الكوليرا وصار شماله شبه مستقل وكاد لينفصل فعلاً لولا الفيتو التركي الايراني السوري وهو يتجه نحو فدرالية واقعية تحميها مصالح الطوائف والمذاهب على الطريقة اللبنانية دون خبرة اللبنانيين في حل مشاكل التعايش. واليوم لا يمكن لأحد ضمان مستقبل هذا البلد دون مصالحة وطنية وتغيير دستوري جذري يعيد دور الحكومة المركزية الى سابق عهده. يقول احد الفلاسفة الغربيين" المصانعة هي الجزية التي تدفعها الرذيلة للفضيلة" قبل ست سنوات جاء بعض العراقيين على ظهور الدبابات الامريكية زاعمين انهم يحملون الى الشعب العراقي الديموقراطية والخبز والحرية والحقوق المهضومة الى حد ان احد المواطنين كان يحلم بحصته الشخصية من النفط العراقي بعد زوال النظام السابق. هكذا دفع المحتل واعوانه المحليون ضريبة "المصانعة" الكلامية للشعب العراقي الفاضل وهكذا خسر العراقيون افضل ما يملكه البشر على وجه الارض اي بلدا موحدا قادرا على النهوض من كبوته. هكذا تحول العراق الى اشلاء بلد بعد ان كان واحدا من اهم البلدان العربية. ولعل العناية الالهية وحدها قادرة على انقاذه من هذه الهاوية السحيقة فهل من مطالب بمزيد في بلدان عربية اخرى؟ "الذكي يأخذ الاغبياء الى حيث يريد" في مكان ما في من هذه الزاوية اشرت سابقا الى خلاصة وردت في مسرحية "قوة الشر" ل " ليون تولستوي" وفيها يؤكد على لسان احد ابطاله " ان الذكي يأخذ الاغبياء الى حيث يريد" واستعيد الخلاصة اليوم للاشارة الى أن مشكلتنا الكبرى تكمن في اننا لا نفتقر الى الذكاء ونبالغ في وصف غباء الاخرين لكننا على الرغم من ذلك ترانا نتراجع بدلا من ان نتقدم و نخرب بدلا من نعمر و نشق طرق التنمية.وترانا نحترب ونختلف ونتباعد ونتنابذ ونتمذهب بدلا من ان نتفاهم ونأتلف ونسالم بعضنا بعضا وندع المذهبية تمضي الى غير رجعة. هل يعقل للعرب الاذكياء ان ينقلهم رئيس امريكي من طراز جورج بوش الى حيث يريد والى حيث لا يريدون؟ هل يعقل لامة "ذكية" ان تسقط في " مصانعة" الاجانب واحابيلهم ونفاقهم وتتعاطى مع خطبهم البراقة وكأنها حقائق منزلة لا شك في جدواها وفضيلتها؟ هل نبرهن عن الحد الادنى من الذكاء عندما نهمل ما يدور امامنا و خلفنا من حروب اهلية ومذهبية وينتشر الخراب والدمار؟ هل نبرهن عن الحد الادنى من الذكاء عندما نتصرف وكاننا لا نرى ولا نسمع و نطلب المزيد من الخراب عبر مسالك التشطير و الشعارات الكاذبة والخطب الحاقدة؟ أي ذكاء هذا الذي يحمل جماعات من بيننا على تخريب اوطانها بالتواطؤ مع "قوى الشر" وعبر صفقات مريبة لإرجاع هذا الحاكم الفاشل الى الحكم او ذاك الحاكم الخرف الى موقعه السابق ولو ادى ذلك الى حيث لا وطن ولا دولة ولا من يحزنون؟هل نحن اذكياء فعلا عندما نجلس امام شاشات التلفزة ونشاهد الكوارث القادمة في تضاعيف الاخبار ثم نستأنف عادتنا اليومية وكان الامر لا يعنينا.؟ هل نحن اذكياء فعلا عندما نستقيل من وطنيتنا ومن عروبتنا ومن دورنا الحاسم في مكافحة التشطير والانقسام والفتن لمجرد ان الفضائيات العربية حكمت بأن المشكلة في الانظمة العربية ؟ هل المشكلة عند الانظمة العربية فعلا؟ وهل الانظمة العربية تحكم العالم وترتب سياساته بحيث لا تقع ازمة عالمية كأزمة الاسواق وتتسبب في زلازل مازالت ارتداداتها تتفاعل هنا وهناك دون توقف وتضرب في ايران و الصين وجيورجيا واوكرانيا ؟ . في كتابه الشهير" 1984 " يلخص جورج اورويل رؤيته لما يمكن ان نسميه بالاستبداد المقنع الذي كان من المفترض ان يعم العالم في العام المذكور وذلك باسم المباديء والقيم والتقنيات الحديثة ولعله اخطأ في تحديد العام ولكنه لم يخطئ في الوجهة. والملفت في غرة كتابه تلك الشعارات الثلاثة التي يصر عليها: "السلام هو الحرب. الحرية هي العبودية. الجهل هو القوة." ولو اراد اضافة شعار آخر لقال: العدالة هي التعسف. يمكن للمرء ان ينظر الى هذا النوع من الشعارات التي رسمها "اورويل" على مبان حكومية افتراضية في وقت مبكر من القرن الماضي يمكن النظر بواسطتها الى بعض خطب بوش الذي خاض حرب العراق بالحديث عن السلام واذ سيطر على "ارض السواد" باسم الحرية سادت العبودية السافرة في " ابوغريب" والمقنعة في عموم البلاد اما الجهل فهو صفة لبوش لا اعتراض عليها في بلاده في وقت كان يملك فيه قرار القوة الاعظم في العالم. نعم لسنا اذكياء بالقدر الكافي ولو كنا فعلا اذكياء لما اخذنا الى حيث نحن اليوم اي الى حيث اراد لنا جورج بوش ان نكون.ولعلنا صرنا نطمح الا ننحدر الى هاوية بلا قاع. يا للفاجعة.