” الحرية هي العبودية” و “السلام هو الحرب” و”الجهل هو القوة” هذه الشعارات رسمها جورج أورويل على جدران “جمهورية الاستبداد” العالمية التي حدد ملامحها الافتراضية في روايته الشهيرة “ 1984 “ ولو قدر له ان يكون بيننا لربما أضاف شعارا جديدا هو “ الديموقراطية هي الاحتلال و الخراب “ ولا نبالغ في نسبة هذه الإضافة الى سخريته السوداء من جبابرة العالم الذي عاصره في النصف الاول من القرن العشرين فهو في تخيله لجمهورية الاستبداد العالمية انطلق من توزيع القوى في عصره وفي هذا التوزيع يرد الشرق الأوسط بوصفه مجالا للنهب والتنازع على النفوذ بين المستبدين الكبار.والراهن ان شرقنا الاوسط ما زال على هذا الحال قبل رواية” 1984 “ وبعدها وربما سيبقى حيث هو الى أجل غير معروف. ولا مبالغة ايضا في الوصف المذكور اذا ما استعنا بيومياتنا ومن بينها الحديث عن “الاحتلال الداخلي” في العراق قبل سقوط بغداد. فاذا بالولايات المتحدة تحتل العراق وتحطم دولته وتهجر ملايين العراقيين وتقتل مئات الالاف وتبني في بغداد اكبر سفارة في العالم ومن ثم تخترع “ديموقراطية الطوائف” وتنصح من لا يعجبه ذلك بشرب مياه البحر . وجريا على المثال العراقي تجهر اليوم أصوات في العالم العربي بشعارات “الاحتلال الداخلي” وتراهن على الخراب من اجل “ديموقراطية” الطوائف والاثنيات والمذاهب . واذ ينجح المستبد العالمي عبر وزارة الحقيقة( الاعلام بحسب أورويل) في التلويح ب بوهم “ديموقراطي” يضمر الخراب . تحاكيه عندنا أصوات مبتهجة بوعيها الأحمق فتصيح باقوال من نوع: ما فائدة الوحدة الوطنية إن كنت فقيرا فليذهب الوطن الى الجحيم . الصوملة أفضل من الوحدة الوطنية القمعية. الاحتلال الأجنبي يعطيني حقي من النفط والاحتلال الداخلي يحجبه عني. الاستعمار الأجنبي الحضاري أفضل من التخلف الداخلي.كم كنا مخطئين عندما تصدينا للاستعمار. الجندي الامريكي يضحي بدمه من اجل حريتي. اسرائيل افضل من حماس. العرب جرب والاجانب ذهب. العرب بدو يدمرون العمران . السد العالي مضر بالبيئة. الاستسلام افضل من المقاومة والممانعة. الف مرة كلمة جبان ولا مرة كلمة الله يرحمه. من تزوج امي صار عمي لا فرق ان كان زيد او عمر او بوش او بلير او نتنياهو او ... الخ. ما من شك في ان انتشار “الوعي البائس” في عالمنا العربي ليس من اثر “الاستبداد العالمي” وحده فنحن ايضا نتحمل مسؤولية حاسمة في هذا المجال دولا ونخبا على حد سواء وإذا جمع الدول و النخب في سلة واحدة فلأن السلطة السياسية التي يتمتع بها الحكام لا تقل أهمية عن السلطة المعنوية التي تتمتع بها النخب وفي الحالتين اخفقنا نحن العرب في الحؤول دون انتشار هذه الظاهرة وفي اتقاء خطرها. ليس المطلوب أن نرمي أصحاب “الوعي الأحمق” بالحجارة أو نزج بهم في السجون او نعرضهم للانتقام. فالتصدي لهذه الظاهرة يقتضي تشخيصا واقعيا لأسبابها و من ثم علاج هذه الاسباب دون تبريرها ومنح اصحابها أسبابا تخفيفية. وينطوي العلاج على مجموعة متنوعة من الوسائل من بينها الإصرار على العدالة في حالتي الثراء والفقر معا ومقارعة الحجة بالحجة في فضاء حر وغير مقيد. والتصدي دون هوادة لكافة أشكال التدخل الأجنبي في شؤوننا وحماية القيم الاساسية لامتنا وعدم التفريط باي منها وتوطين علوم العصر في بلداننا وإعادة النظر في برامجنا التربوية وهيكلة دولنا بطريقة ملائمة للعصر ومتطلباته و شن حروب شاملة على الامية والجهل والتخلي عن ثقافة المديح والهجاء فهي كالظل لا تزيد المرء طولا وعرضا وحجما ... الخ. محاصصون يتنكرون بأزياء “ديمقراطية”.!! يقسم العراقيون الذين انخرطوا في ما يسمى ب”العملية السياسية” في بلاد الرافدين بعد الاحتلال الأمريكي أنهم تلامذة نجباء في المدرسة “الديموقراطية” وإن مصيرهم بات مرتبطا بهذه التجربة “الرائدة” في “محيط شمولي” . وعلى الرغم من اٍن الرأي العام العربي ناهيك عن الدولي لايعير آذانا صاغية لهذا النوع من الادعاءات فان تمرين عرضها للاختبار ليس عديم الجدوى خصوصا اذا ما قيست بمقاييس ديموقراطية يكاد الاجماع ان ينعقد حولها. ونباشر هذا التمرين بالتعريف المتوارث للديموقراطية من الفلسفة اليونانية الكلاسيكية وحتى يومنا هذا وهو يفيد ب “ أن الديموقراطية تعني حكم الشعب لنفسه بنفسه ومن أجل نفسه” وحتى يفعل ذلك لا بد من ان يكون سيدا على أرضه لا شريك له في الممارسة السيادية. لا يستوفي العراق هذا الشرط فشعبه ليس سيدا على أرضه مع وجود المحتل ومع التدخل السافر أحيانا في تشكيل اللوائح الانتخابية من اطراف امريكية واقليمية متعددة اللون والمصلحة.ولا يسود العراقيون اقتصادهم ولا سياستهم الخارجية وكلها عناصر حاسمة في النظام الديموقراطي الحقيقي. وإذا كانت الديموقراطية تستدعي “ حكم الأكثرية العددية وضمان حقوق الأقلية والاعتراف المتبادل بحكم الناخبين” فان العراق تحت الاحتلال لا يقر بهذا المبدأ وإنما بالمحاصصة الطائفية وعليه يصبح مجموع أصوات 60 بالمئة من الناخبين كأصوات عشرين في المئة الأمر الذي يجرد الصوت العراقي من قيمته الديموقراطية وفقا للمبدأ الشهير “صوت واحد لرجل واحد”. اما حقوق الاقليات الإثنية فهي غير مضمونة وبعضها يهجر ويمحى من الوجود.في حين لا تحكم الاكثرية في المؤسسات المنتخبة وإنما مجموعة هجينة من تيارات طائفية وإثنية مرتبطة وجوديا بنظام محاصصة محمي من المرجعيات الدينية العليا ومكرس بنص دستوري. وإذ تصر الاحزاب الكردية على منصب الرئاسة الاولى مقابل اصرار فريق عربي على المنصب نفسه فهي تسخر من حكم المقترعين الذين ينتخبون في اتجاه فيما المحاصصون يسوسون في اتجاه آخر. وإذ تنهض الديموقراطية على “فصل السلطات” نرى العراق غارقا في بحر من السلطات الشكلية المتداخلة والمركزة في أيدي عدة أشخاص محليين وأجانب وعليه من الصعب الرهان على الدور التحكيمي لهذه السلطات ناهيك بالعدالة. واذ تفترض الديموقراطية “سيادة القانون والأمن والاستقرار” تسود العراق فوضى أمنية و يهجر المواطنون بلدهم أو يهجرون ويقتل بعضهم بسبب هويته المذهبية وتنتشر شريعة الغاب. وفي حين ترتبط الديموقراطية ارتباطا وثيقا ب “ حرية التعبير والصحافة الحرة” تنتشر في العراق صحافة دعاوية مستتبعة للمحاصصين وغير مؤهلة لتكوين فضاء توحيدي عام يجتمع فيه كل العراق وكل العراقيين هذا اذا اردنا استبعاد منهجية الإفساد التي اعتمدها وزير الدفاع الامريكي السابق دونالد رامسفيلد في تعاطيه مع وسائل الاعلام العراقية. وحيث أن الممارسة الديموقراطية ترتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ “ التدوال السلمي للسلطة” وب “المساواة بين الرجل والمرأة” وب “حق العمل و التعليم والسكن والعيش الأمن وتوفير الضمانات الاجتماعية والصحية والتربوية” فان العراق لا يستوفي اي من هذه الشروط وبخاصة “تداول السلطة” ذلك أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي فرغ لتوه من تهديد منافسيه بالاضطراب الأمني ان لم تفز لائحته في الاقتراع الأخير فيما الرئيس جلال الطالباني استحصل على إجماع كردي بالتمديد له تحت طائلة الخروج من اللعبة السياسية. وحتى لا نظلم العراق والعراقيين باخضاع انتخاباتهم لهذه الشروط المتوفرة حصرا في البلدان الغربية الثرية فان على المنخرطين في “ العملية السياسية “ تحت الاحتلال ان يكفوا عن الرماية على محيطهم العربي والإسلامي باسم الديموقراطية وان يتواضعوا في عرض انتخاباتهم بوصفها وسيلة للتخلص من الاحتلال طالما أن المحتل نفسه يقدمها بهذه الصيغة في معرض تبرير انسحابه من العراق بعد تبرير هدم الدولة والمجتمع العراقي باكاذيب شهيرة عن الإرهاب واسلحة الدمار الشامل. أما القول بان الانتخابات العراقية تحت الاحتلال هي أفضل من نظام الرئيس الراحل صدام حسين فمن الصعب النظر اليه بجدية لانطوائه على” قياس مع وجود الفارق” وهو الاحتلال الأجنبي وما دام الاحتلال قائما فكل ما يدور في العراق هو من اثره وصنعه شاء المحاصصون ام ابوا. تبقى الإشارة الى النوايا الطيبة لعراقيين مخلصين وغير محاصصين يتعطشون للديموقراطية ويعتبرون أنهم عثروا عليها بين أنقاض بلدهم ودولتهم التي هدمها المحتل وهم يراهنون على الانتخابات بوصفها مقدمة لاستيفاء الشروط الديموقراطية الحقيقية بعد رحيل “ مغول العصر “. ولعل هؤلاء سيكتشفون آجلا أم عاجلا ان رهانهم المشروع لا يستوي إلا في سياق ازالة آثار الاحتلال و استعادة السيادة الكاملة على قرارات العراق المستقل.