كان بعض المثقفين الفرنسيين الكبار يتحدث عن كل القضايا العادلة في العالم ويتوقف عن الحديث عندما يقترب من فلسطين، فان كانت الكولونيالية بغيضة فهي بغيضة في عرفهم في كل مكان الا في فلسطين، وان كانت حقوق الانسان جديرة بان يرفع الصوت عاليا من اجلها ففي كل مكان الا في فلسطين. وان كانت اعمال الابادة ضد الانسانية مدانة في العالم باسره فهي محل تسامح لدى هؤلاء في فلسطين. وان كان هدم بيوت الناس على رؤوسهم جريمة ما بعدها جريمة فان هدم بيوت الفلسطينيين قضية فيها نظر وليست ككل قضايا الهدم في العالم.. هكذا كان المثقفون الكبار الا قلة لا تتعدى اصابع اليد يجيزون لاسرائيل صمتا أو قولا ما لا يجيزون لغيرها من الارتكابات والكبائر حتى وقت قريب, حيث ادت الانتفاضات الفلسطينية الاولى والثانية والثالثة الى تغيير جوهري لدى اوساط واسعة من الرأي العام تجاه الصراع العربي الاسرائيلي ومعها اخذت مواقف المثقفين الفرنسيين الكبار تتغير ازاء القضية الفلسطينية وازاء حقوق الفلسطينيين حتى بات بوسع مجموعة من الشبان الدخول نهارا الى مخازن الالبسة الفخمة "اش اي ام" والصراخ في قاعاتها الفسيحة ضد دعمها لاسرائيل ودعوة الزبائن الى هجرانها بسبب تأييدها للدولة العبرية . في ظل هذا التغير الكبير في مزاج الرأي العام اخذ المثقفون الكبار في فرنسا يصرخون بصوت اعلى ضداسرائيل ومن بينهم ريجيس دوبريه الذي تاخر قليلا في قول ما يتوجب قوله حول عدالة القضية الفلسطينية لكن حجم ونوع ما قاله يعوض بعض هذا التأخير. نشر دوبريه كتاباً سجالياً في باريس بعنوان "رسالة الى صديق اسرائيلي " ينطوي على نقد غير مسبوق لاسرائيل علماً ان الكاتب كان قد اجرى بتكليف من الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك استطلاعا في الشرق الاوسط حول التعايش بين الاديان والراجح ان كتابه المذكور ما كان بعيدا عن النتائج التي توصل اليها خلال جولته المذكورة ولعل الاستعانة ببعض العبارات الواردة في النص تفصح عن المدى الذي ذهب اليه الكاتب في نقده الصريح للدولة العبرية اذ يقول" ..تقدم اسرائيل في الشرق الاوسط كبطل غربي. وبما انني غربي فمن حقي ان اقول لما يسمى ببطلي ما توحيه بالنسبة لي ممارساته على أرض الواقع."وبعد تقديم الحجة والمبرر للسجال يشرع في توصيف " بطله" الغربي بعبارات تصل احيانا الى صفة البربرية ومن ثم يتابع قائلا: " ....لم يكتب في اي مكان ان استعادة شعب لفخره بنفسه يعني التقطيع المنهجي لجاره.. أن اسرائيل التي خرجت من النضال ضد الاستعمار(البريطاني ) هي رمز للكولونيالية. هذه الدولة الكولونيالية لم تكف عن الاستيطان والمصادرة والاقتلاع .. لقد تم تمدير 18 الف منزل فلسطيني وتوقيف 750 الف فلسطيني خلال فترة أو أخرى منذ العام 1967 . هناك 11 الف معتقل حتى اليوم. وهناك 500 الى 600 حاجز في الضفة الغربية... عندما وافقت الاممالمتحدة على قرار يسمح بعودة اليهودي الأجنبي من كوكب مارس او نيويورك او اوديسا لم توصي بمعاملة السكان الاصليين كأجانب وإن على هؤلاء ان يشحذوا ترخيصا من اجل الوصول الى ارضهم وللنظر الى زيتونهم الذي يموت... لم يكتب في اي مكان انه لكي ينتقل الشعب الاسرائيلي من حالة البحث عن البقاء الى الحياة الطبيعية يعني ان يسلك الاخرون اي مئات الالاف من المسلمين والمسيحين الاتجاه المعاكس....ان فرادة وجودكم لا تعني انكم عرق متفوق " قد تبدو هذه العبارات المقتطعة من النص على غير تواصل عادية اذا ما نظرنا اليها بمقاييس الخطاب السياسي العربي غير أنها عالية النبرة تماماً اذا ما نظرنا اليها في البيئة السياسية الفرنسية التي شهدت طيلة عقود تواطؤ واحيانا تماه مع الدولة العبرية. وهي عالية النبرة ايضا من مفكر فرنسي ما كان يوما من المتحاملين على اسرائيل بل من اصدقائها. ويستفاد من ردود الفعل الاولى على النص انه لم يمر مر الكرام فقد تعرض لنقد متفاوت في شدته ولعبت احيانا و حمل عليه المخرج السينمائي كلود لانزمان وايلي برنافي الكاتب الفرنكوفوني وسفير اسرائيل السابق في فرنسا وجان كلود ريفان عضو الاكاديمية الفرنسية والمؤرخ افياد كلينبيرغ وآخرين. لا يحتاج ريجيس دوبريه الى شهادة في التجرؤ على وصف الكيان الصهيوني بما يستحق من الاوصاف وهو المعروف بسيرته الجريئة منذ رفقة ارنستو جيفارا في ادغال "بوليفيا" وحتى رفقة فرانسوا ميتران وما بينهما حيث كان شاهدا جديا وجريئا على عصره فحيث تطلب الامر الاستقالة من منصب رفيع المستوى الى جانب راس الدولة قدم دوبريه استقالته وحيث تطلب الموقف التذكير باهمية الديغولية بالقياس الى النزعة الاشتراكية الضعيفة وطنيا بادر الى التذكير موجها التحية الى الجنرال شارل ديغول. وحيث تطلب الامر قياس اهمية الصورة وطغيانها في عالمنا المعاصر بادر الى القياس والتقدير وصولا الى ظاهرة الاديان وخطبها السياسية مروراً بسجالاته العديدة حول نزاعات البلقان والشرق الاوسط والحرب الامريكية على العراق . في كتابه "رسالة الى صديق اسرائيلي" يدافع ريجيس دوبريه عن الجمهورية الفرنسية بقدر دفاعه عن الحق الفلسطيني فهو ينبه الى مخاطر استخدام الدين اليهودي للدفاع عن اسرائيل في فرنسا ويرى ان مبادرة الحاخام الاكبر في العاصمة الى رفع العلم الصهيوني والتظاهر امام السفارة الاسرائيلية في باريس دعما للحرب على غزة يتناقض مع اعراف وقوانين الجمهورية الفرنسية. وعلى الرغم من جرأته فلربما استفاد ريجيس دوبريه من التوقيت المناسب للسجال مع الدولة العبرية حيث تبدو اسرائيل بعد حرب غزة وحرب تموز 2006 في لبنان تبدو وكأنها فقدت اسطورتها كدولة لا تقهر عسكريا وبالتالي اخلاقيا وسياسيا ومع نزولها من تلك المرتبة الحصينة صار بوسع من يرغب من الغربيين في التعبير عن موقف مؤجل من الشناعات الاسرائيلية ان يعمد الى الكشف عن هذا الموقف دون رادع ذاتي او خارجي فضلا عن ان قدرة الردع تضاءلت جراء الانشقاق الذي ضرب النخب اليهودية في العالم بين مطالبين بانتقاد الدولة العبرية علنا وكلما تطلب الامر والمدعين بقداسة هذه الدولة و عدم شمولها بالنقد والتشريح. ما من شك ان الصهاينة يسمعون من الاذن التي يصلها صوت ريجيس دوبريه غير المعروف بعدائه للسامية والمنافح بقوة عن مظالم اليهود خلال الحرب العالمية الثانية وغيرها، ولهذا تبدو رسالته السجالية مفيدة في الحد من التعبئة الصهيونية للرأي العام اليهودي والفرنسي معاً واذ تضعف القدرة على التعبئة تضعف حجج التطرف الصهيوني ويعلو صوت الاعتدال ومعه حقوق العرب والفلسطينيين الاولية. شكراً ريجيس دوبريه فقد لمعت دائما في ثنايا تفكيرنا منذ " ثورة في الثورة " وحتى رسالتك حول فلسطينالمحتلة.