مهما تنوعت أشكال الديمقراطية فإن أساليب ممارستها في مختلف دول العالم تحتكم إلى ثلاثة مرتكزات أساسية ورئيسية: أولها الاحتكام إلى الشعب وإرادته في صناديق الاقتراع، وثانيها الالتزام بالدستور والقوانين النافذة، وثالثها الامتثال لما يصدر عن مؤسسات الدولة الشرعية باعتبارها المؤسسات المعنية بالحفاظ على الثوابت الوطنية والسلم الاجتماعي وصون الأمن والاستقرار وحماية النظام العام والقواعد الناظمة للعملية الديمقراطية والأسس الدستورية والقانونية التي تعد المرجعية للجميع والتي لا يحق لأحد حزباً أو فرداً مهما كانت مكانته الخروج عليها أو التمرد على محدداتها. ومن خلال هذه المرتكزات تطورت التجارب الديمقراطية وتعززت مفاهيمها وترسخت قيمها وأخلاقياتها وتجاوزت المثالب العارضة أو الطارئة التي تعترض طريقها والناتجة أحياناً عن مؤثرات ضعف الثقافة أو قصور الوعي بمفاهيمها أو رواسب الفكر الشمولي وطابعه الاستبدادي، وغير ذلك من العوامل التي ظلت وما تزال من المشكلات التي تعترض طريق الديمقراطية. ومن نافل القول أن مثل هذه الرواسب هي التي لا تزال تسيطر بشكل كبير على معطيات تعامل بعض الأحزاب السياسية اليمنية مع مفردات العملية الديمقراطية، بحيث صارت هذه الأحزاب - مع الأسف الشديد- تنازع الشعب حقه الدستوري والديمقراطي في الانتخابات دون إدراك منها أنها بهذا التصرف تجعل من نفسها وصياً على هذا الشعب فيما الحقيقة أن الشعب هو صاحب الحق في أن يكون وصياً عليها ومراقباً لأفعالها وأنشطتها والأدوار التي تمارسها. ولأن هذه الأحزاب التي نجدها اليوم تسير في الاتجاه المعاكس، قد تصورت أو بالأحرى توهمت أنها وصية على هذا الشعب، فقد جنحت بقصد أو دون قصد وبوعي أو دون وعي إلى منح نفسها حقاً لا تمتلكه، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بطرح نفسها بديلاً عن الشعب وبديلاً عن مؤسساته الدستورية وبديلاً عن الأغلبية التي منحها الشعب ثقته لتسيير شؤونه وتطبيق القانون على جميع أبناء المجتمع وعلى أساس المساواة في الحقوق والواجبات وحماية مصالحه ونسيجه الاجتماعي والحفاظ على أمنه واستقراره والدفاع عن سيادته ووحدة ترابه الوطني. ومثل هذه المسلكيات غير المسبوقة في أية تجربة ديمقراطية في العالم ولا في أية معارضة على نطاق المجتمع الإنساني، لاشك وأنها كانت سبباً مباشراً في حالة التناقض التي تعيشها أحزاب "اللقاء المشترك" في بلادنا والتي لم تدخر حيلة أو وسيلة من أجل تعطيل الاستحقاق الديمقراطي القادم والمتمثل بالانتخابات النيابية، في حين أن المعارضة - في الأصل- هي من تبني توجهاتها بل وتناضل في سبيل انسياب الاستحقاقات الديمقراطية والانتخابية في مواعيدها المحددة. ولعلها السابقة الأولى على مستوى العالم ما يحدث اليوم في بلادنا، حيث نجد المعارضة هي الطرف المناوئ لإجراء الانتخابات، فيما يكون الحزب الحاكم هو الأكثر إلحاحاً في السعي إلى إجراء الانتخابات في موعدها وبموجب قانون وضعت 85% من مواده أحزاب المعارضة!!. وإذا ما كانت هذه السابقة تثير أكثر من علامة استفهام حول مدى استيعاب أحزاب "اللقاء المشترك" لثقافة الديمقراطية، فإنها تجسد عمق الأزمة المستفحلة داخل هذه الأحزاب، والتي صارت - كما يبدو من شطحات بعض قياداتها- أزمة بنيوية أكثر من أن تكون أزمة جزئية أو سطحية أو عارضة. بل أن هذه الأزمة تكشف عن ملامح الفجوة الكبيرة الحاصلة بين طريقة التفكير التي تسيطر على هؤلاء والأسس الحقيقية لثقافة الديمقراطية وجوهرها، ولذلك نجد أنهم في وادٍ والديمقراطية في وادٍ آخر، ليتحول العمل الحزبي بالنسبة لهم إلى مجرد شعارات غوغائية وخطابات جوفاء وتصريحات إنشائية، الهدف منها إشعال الحرائق وافتعال الأزمات والتحريض على العنف وشحن غرائز بعض الجهلة والمأزومين والمأجورين للقيام بممارسات خارجة على النظام والقانون مثل التقطع في الطرق ونهب وسلب المواطنين وسفك دمائهم، مقابل توفير الغطاء الإعلامي والسياسي لجرائمهم. وبإمعان النظر في كل هذه الممارسات، سنجد أنفسنا بين حالتين أو بين فريقين فريق يسخر كل طاقاته وجهده لإنضاج الديمقراطية، وجعلها وسيلة حضارية للتداول السلمي للسلطة والتغيير إلى الأفضل، ولكي تصبح الديمقراطية أداة بناء وتطوير ورخاء وسلام واستقرار وأمن وأمان.. وفريق استغل الديمقراطية ورأى فيها حافزاً له لإشاعة الفوضى، وممارسة الابتزاز، وجني المكاسب والمصالح الخاصة الذاتية والأنانية، وتصفية حساباته مع هذا الوطن، والانتقام من شعبه بتعميم وسائل الهدم والتدمير والتمرد على النظام والقانون، وتكريس شريعة الغاب، وإثارة النعرات المناطقية والجهوية، والترويج للمشاريع التآمرية التمزيقية، مدفوعاً بالمقولة الشمشونية :عليَّ وعلى أعدائي يارب" ورافعاً شعار "أنا ومن بعدي الطوفان"!!. والسؤال: هل يمكن أن نتوقع ممن يحمل هذه النزعة التدميرية أن يكون ديمقراطياً أو على درجة من الإلمام بشيء من الثقافة الديمقراطية أو حتى مؤمناً بها؟!!.. لا شيء في الواقع يجعلنا نعتقد بذلك، فمن يتسلح بمعاول الهدم يستحيل أن يكون يوماً في موقع البناء والإعمار، ومن ترسبت في دواخله الثقافة الشمولية وتطبع بالانتهازية، من الصعب عليه أن يصبح ناصحاً وديمقراطياً أو مصلحاً، حتى وإن تشدق بمفردات الديمقراطية والصلاح، ففاقد الشيء لا يعطيه.