لا تنتهي الصراعات المسلحة على السلطة في بلداننا نهاية منطقية كما انتهت الحرب الاهلية الامريكية أو الحروب الاهلية الفرنسية أو حتى الحرب الاهلية الاسبانية، ففي الحالة الاولى دامت الحرب 4 سنوات وأدت الى عودة 11 ولاية عن قرارها بالانفصال الدولة الفيدرالية، وبالتالي رضيت بنتائج الحرب، وبالحفاظ على الاندماج الامريكي بالمقابل لم تتعاط السلطات المنتصرة مع المهزومين بوصفهم أعداء يجب محوهم من الوجود وإنما بوصفهم مواطنين فشلوا في مساعيهم الانفصالية وعادوا لاحترام الهرمية الامريكية، وبالتالي العيش في امريكا موحدة، وغير قابلة للتشطير ومنذ تلك اللحظة صار بوسعهم التنافس على السلطة عبر اللعبة الانتخابية. وفي فرنسا كانت الحروب الاهلية تنتهي دائماً بتغيير النظام ومع تغيير النظام يبدأ الفرنسيون تجربة جديدة، ويعملون على طي صفحة الماضي التي كان من الصعب طيها، لكن هنا ايضاً كان الطرف المنتصر لا يمحو الطرف المهزوم من الوجود بل يسعى لضمه الى الخارطة السياسية بما يليق بحجمه وفي المرة الوحيدة التي حاول المنتصر أن يمحو خصمه أي في عهد «اليعاقبة» الذين أعدموا عشرات الآلاف من الناس وغالباً لمجرد الشبهة أو النميمة كان من الطبيعي أن تقطع رقابهم هم ايضاً بواسطة المقصلة التي استخدموها بإفراط.. واليوم يدين الفرنسيون بأغلبيتهم الساحقة هذه الفترة التي يسمونها بفترة الارهاب، وفي اسبانيا وعلى الرغم من الوحشية الفظيعة التي تميزت بها الحرب الاهلية وعلى الرغم من تدويل هذه الحرب وسقوط مئات الآلاف من القتلى فيها، وعلى الرغم من خضوع اسبانيا طويلاً لاستبداد فرانكو فقد عرف الاسبان كيف يطوون الصفحة بعد رحيله، وهم كانوا حتى ما قبل أزمة الاسواق الأخيرة أحد أهم البلدان الاوروبية اقتصادياً واجتماعياً. بالمقابل لا تمضي الحروب الاهلية في بلداننا العربية بل تبقى ما حيينا ولا يبخل علينا التاريخ بالأمثلة ففي لبنان مازالت النخب المثقفة حتى اليوم تستعيد وقائع الحروب الطائفية بين اللبنانيين في القرن التاسع عشر حتى قبل أن يولد لبنان بصيغته الحالية، لا بل يحلو للبعض أن يستخدم هذه الحروب كدليل على شرعية انفصال لبنان عن بلاد الشام الامر الذي يؤدي الى ادراجها في البرامج التربوية وبالتالي تنشئة جيل وراء جيل على ثقافة الاقتتال والانقسام في حين نجد في الدول الغربية حرصاً واضحاً على تحجيم الأثر السلبي للحروب الاهلية لصالح الاتعاظ بدروسها وأحياناً يتعمدون محوها من البرنامج التربوي الرسمي. وفي الصومال نرى بأم العين كيف أن صراعاً على السلطة قد أغرق هذا البلد في حرب اهلية قبلية اطاحت بأخضره ويابسه، وهدمت أسس الدولة الناشئة فيه، وخلقت استعصاء على عودتها وإعادة بناء مؤسساتها، كما نشهد كيف يلجأ الشعب الصومالي الى المؤسسات الدولية من أجل البقاء على قيد الحياة ما يعني ان الحرب الاهلية هي كالسيف المسلط على رقاب الصوماليين، فإما الموت جوعاً وإما الانخراط في حرب عبثية لا طائل منها. وفي المغرب العربي الكبير اندلعت حرب حدودية بين المغرب والجزائر بعيد إعلان الاستقلال لتستمر بعد ذلك من خلال الحرب على الصحراء الغربية هذه الحرب التي ازدهرت خلال الحرب الباردة وتعدتها الى عصر القطب الاوحد، وهي تستعد لان تظل قائمة في عصر التعددية القطبية، والواضح ان هذه الحرب تستنزف وسائل البلدين الاقتصادية، وبالتالي فان الخروج منها يمكن ان يوفر فرصاً كبيرة للنمو وحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المتعددة ليس فقط بين البلدين، وإنما بين بلدان المغرب العربي الكبير بدرجات متفاوتة. ولعل السودان هو المثال الصارخ على تحول الحرب الاهلية الى مرض قاتل شبيه بالسرطان، فقد عاش السودان منذ استقلاله في ظل الحرب جنوب البلاد يحارب شماله والعكس، و يطالب الجنوب بالانفصال التام عن الدولة الأم وكان شرط بقاء الشمال موضوعياً يكمن في تلبية مطالب الانفصاليين الجنوبيين، وعندما قرر النظام السوداني ان يمنح جنوبيه الانفصال الذي يقاتلون من اجله سمح للبلاد باكتشاف واستخراج النفط، وبالتالي امتلاك بعض الوسائل الضرورية حتى لا يهلك السودانيون بالمجاعة على غرار الصوماليين. لكن ما ان اعلن الانفصال وترسخ في دولة مستقلة حتى استأنف الانفصاليون الجنوبيون الحرب على الشمال تارة بحجة الاختلاف على الحدود، وتارة اخرى حول مرور الانابيب النفطية، وثالثة حول دعم جنوبيين يريدون هم ايضاً الانفصال عن الجنوب ليتضح ان الانفصال لم يكن حلاً لا للجنوبيين ولا للشماليين، ولا لأي سوداني آخر، بل هو مرض يضرب الجميع فيهلكوا ويبقى. ليس السودان بلداً كباقي البلدان الافريقية بل هو قارة حقيقية تحتفظ بوسائل التقدم والنمو والازدهار الأولية لمئات الملايين من البشر اذا ما توافرت له البيئة الداخلية الملائمة والبيئة الخارجية المستقرة، وهو مثال ساطع على سوء التدبير الذي ساد هذا البلد منذ استقلاله، وعلى الثقافة السياسية السيئة التي زرعت في أرضه وتداولها أهل البلاد دون ان يدركوا ان الحروب الاهلية تصنع في الرؤوس الممتلئة بثقافة الاحتراب والفقيرة بقواعد التعايش السلمي، وحل المشاكل بالتي هي أحسن. وحتى لا نلقي عبء كل ما يقع في السودان على عاتق السودانيين وحدهم لابد من الاشارة الى ان الدول الاجنبية راهنت وتراهن اليوم، وستظل تراهن في المستقبل على اضعاف هذا البلد خدمة لاسرائيل التي تسيطر على زاوية ضئيلة على شاطيء البحر الأحمر، لكنها تريد اخضاع كل الدول المشاطئة لهذا البحر، وفي طليعتها السودان.. تبقى الاشارة الى ان الاجانب ما كانوا يوماً راغبين في توحد العرب واستقرارهم، ما يعني ان على السودانيين، وعلى العرب إن هم أرادوا حل مشاكلهم أن يشخصوا المواقف الاجنبية منهم كما تستحق من التشخيص، وأن يعملوا بهدى من التشخيص وليس بالارتجال والسذاجة والعفوية... ربما على العربي واليمني الناظر بذكاء الى ما يدور في الصومال والسودان وغيرهما من البلدان ان يستخلص العبر المفيدة، ذلك ان الحروب الأهلية في بلداننا لا تنتهي بل تنتقل من جيل الى جيل.. بكلام آخر هي ليست حلاً بل هي أم المشاكل.