لا أروم تكرار ما أشرتُ إليه في تناوُلةٍ سابقة من تعاظم مؤشرات الأزمة التي تمرّ بها الحالة المذهبية في اليمن، وما تتمتع به بعضُ الأطراف من قابلية التمادي في تجاذباتٍ من شأنها إغراق التنوُّع المذهبي في مستنقع الطائفية السياسية، فلعل ذلك لم يعد محل جدال؛ إذ لا يكاد يمر أسبوع إلا ويتمخّض السجال المذهبي عن دلائل إضافية على تنامي هذه الأزمة. لكن، وبالرغم من ذلك، فإن موضوع هذه التناولة ليس مقطوع الصلة بتجليات الأزمة المذهبية، وإنما في العمق منها باعتبارها أزمة هوية في المقام الأول. فانبعاث السجال المذهبي، حدّ اندلاع حوادث عنف على خلفية مسائل فرعية خلافية ك«صلاة التراويح» على سبيل المثال، إنما يكشف عن حجم الارتداد المجتمعي عن الهوية الجامعة إلى هويات فرعية انحصارية مُتصارِعة. من الواضح أنّ عودة مكونات المجتمع إلى التمترس خلف هويات ما قبل الدولة إنما يأتي كردة فعل على عجز الدولة عن اكساب مواطنيها هوية تشاركية جامعة تتهيأ لهم فيها، معنوياً ومادياً، موجبات تقديم الانتماء إليها على أيّ انتماءٍ آخر. وقطعاً فإنّ مجتمعاتنا تفتقر إلى ما يسميه «ويل كيملكا» الحسّ بالهوية المشتركة، ف«الحس بالهوية المشتركة – حسب تعبيره - يساعد في استمرارية علاقات الثقة والموالاة المتبادلة بين المواطنين». وبالتأكيد فإنّ انعدامه يدفع بأفراد المجتمع إلى «الدخول في صناديق هوية انفرادية» على حد وصف «أمارتيا صن» الذي يلاحظ أنّ «الوهم الذي يُمْكِن استحضاره بغرض تقسيم الناس إلى تصنيفات جامدة متفردة يمكن استغلاله لدعم إثارة النزاع بين الجماعات». كيف يمكن تخليق الحسّ بالهوية المشتركة؟ في هذا السياق يحسن التأكيد على أهمية أن تعتمد الدولة سياسات عادِلة ومنصِفة في إدارة التنوُّع المجتمعي، بما فيه التنوُّع المذهبي الذي يندرج أمْرُ إداراته، بسياسات عادِلة ومنصفة، في الصميم من مطلب بناء الدولة في اليمن على أسس تشاركية ديمقراطية، تعلي من شأن المواطنة المتساوية، وتكفل الحقوق والحريات والمشاركة الحقيقية في السلطة والثروة. وهذا النوع من السياسات القائمة على القبول بالتعدُّد والتنوُّع، وبقدر ما يعني وقوف الدولة على الحياد من جميع المذاهب والتيارات الدينية التي تنطوي عليها التركيبة المجتمعية، وفي نفس الوقت الاعتراف بها كمذاهب وتيارات موجودة على الأرض، بصرف النظر عن المسارات التي تشكَّلتْ فيها، فإنه يعني أيضاً تدابير وإجراءات «الإدماج السياسي» التي تكفل لجميع المواطنين، على قاعدة المواطنة المتساوية، الاشتراك في إدارة الدولة والإفادة من منافعها.