( ومتى كنا عبيد ؟ ) بهذا السؤال ، بهذا الاستفهام الاستنكاري ، يلون الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان( 12 مايو 1928م _ 16ديسمبر 1971) تجربته الشعرية في كل مجموع متنه الشعري تقريبا ؛ رفضا لكل أشكال العسف والاضطهاد والظلم الاجتماعي والسياسي للأفراد والجماعات ، ويدعو للمقاومة والانتفاض والرفض والانتصار لقضايا الإنسان ولقضايا الشعوب, وبالذات شعب الجنوب ، لشعبه وبلاده، الذي منحهما إخلاصه فتغنى بالطبيعة والإنسان ونافح الظلم وقواه المستأسدة من الاستعمار وأزلامه المحليين الذين زرعوا في الناس قهرا ؛ فكم قتلوا وكم جرحوا وكم ابكوا وكم شردوا ..وكم ..وكم .وفي يوم الاستقلال الوطني للجنوب وخروج المستعمر البريطاني ، ما غنى شاعر ، كما غنى لهذا اليوم المجيد ، الشاعر الخالد ابن عدن لطفي جعفر أمان. د. شهاب القاضي تحرر شعبي ..ففي كل بيت ترف نجوم ..ويورق بدر وفوق شواطئنا الراقصات مع النور ..فاض من الخلد فجر وضم مراعينا والحقول جناح غمير العبير أغر وحتى الشياه تكاد تطير وتشدو بحرية .. لا تقر وحتى الصحارى كأن الربيع حواها ..وزينها .. فهي خضر فضائي حر .. وطيري حر وقلبي حر .. وشعبي حر اجل .. قد صحونا .. لأول مرة لنحيا الحياة .. لأول مرة بلادي حرة. أحاول في هذه العجالة أن أتلمس في شعر لطفي جعفر أمان ، وعي التميز ، في الرفض والمقاومة واكتناه مساراتها في بعض قصائده من دواوينه ، والتي عبر فيها عن رفضه ومقاومته للظلم الاجتماعي والسياسي والحث على مواجهة الضعف والخنوع والتخلف ورفض الوجود الاستعماري والدعوة إلى مقاومته : في مواجهة الظلم الاجتماعي تظهر قصائد لطفي جعفر أمان في مواجهة الظلم الاجتماعي بأشكال مختلفة من أساليب التعبير الشعري ، وتجدها متناثرة في دواوينه على سبيل المثال لا الحصر : طفل متسول ، صفية الصنعانية، العمال وغيرها . فموقف لطفي الفني والفكري كل لا يتجزأ . فكما تجده ناقدا للأوضاع الاجتماعية ، تجده ناقدا وله موقف مستقل من قضايا شعبه وقضايا العروبة والإنسانية بعامة...يقول في قصيدة طفل متسول : في وجهك المحزون يا طفلي الصغير وطني الكبير وطني بأوسع منتهاه وطني المعذب في حماه في وجهك المحزون يا طفلي الصغير يا جرح أغنية حزينة جشأتك أحشاء المدينة ... إن شاعرنا يرفض هذا الواقع ، يدينه بكل قوة ويصرخ في الطفل : لا يا صغيري خيرات ارضي لم تكن أبدًا قليلة . ولكنها المدينة ، عدن التجارة والأسواق ولغة المال والإدارة الاستعمارية التي مافتئت تنهب خيرات الوطن وتسحق الإنسان وهذا هو ما صنعته مع صفية الصنعانية التي قدمت إلى عدن بحثا عن زوجها إلا أنها تاهت في شوارع عدن وضاعت: ...”يا عم يا جمال “ يا سائق الأحلام والآمال لعدن الزهراء خذني معك خذني هنا حملا من الأحمال لن أتعبك يا عم يا جمال في عدن الزهراء لي زوج حلال خذني معك خذني معك ! ...كذخائر الدنيا إذا انفتحت سخية عدن الغنية سكبت مفاتنها المرجية الثرية وهناك ..في ترف العمارات السنية وقفت صفية تتخطف الأضواء لفتتها الحيية وعلى ملامحها الطرية صنعاء حية ...يا محسنين .. لله ....من باب لباب راحت تجر جمالها الوضاء في أوج الشباب وهناك في كنف “ المقاهي” واصطخاب العابثين الظامئين إلى الدم المبذول في شبق لعين راحت تغني في افتتان وتهز أردافًا حسان “ اخضر .. جهيش ..مليان “ ويثيرها طرب الحياة فتهز أردافًا ..وهات “ يا قاطفين القات” القصيدة نقد مؤلم لواقع اجتماعي ، مازال غارقا في وهاد التخلف ، في نظرته للمرأة ، واستغلالها جسديا وسحقها معنويا . وقد تفوق شاعرنا في وصف تلك المأساة وقدم صورة إدانة للعلاقات الرأسمالية والتجارية في عدن ولقيمها الاستهلاكية المزيفة التي تغمر الإنسان والمجتمع بشبكة من العلاقات التي تشيئه وتحيله إلى سلعة. في مواجهة الاستبداد السياسي : كانت شخصية الشاعر لطفي جعفر أمان ، شخصية متعددة الأبعاد ، فهو الشاعر والناقد والموسيقي والفنان التشكيلي والمترجم والتربوي القدير ، وكان في كل ذلك له رؤيا خاصة إلى الوجود والإنسان ، فلم يعرف ما شاع عن الانفصام في المواقف بين المثقفين ، أو ما نسميه ب”الشيزوفرينيا” للمثقف في البلدان المتخلفة ، الذي يظهر غير ما يبطن ، والذي تتلون مواقفه بحسب الحاجة والمناخ السياسي .. فقد كان شاعرنا ضد الظلم وضد الاستبداد السياسي وأشكال الحكم المتخلفة. وقد ظهرت في العديد من قصائده على سبيل المثال لا الحصر : الدكتاتور، وغير ذلك من القصائد المبثوثة في أعماله الشعرية الكاملة . يقول في قصيدة الدكتاتور والتي أهداها إلى “ الحاكمين بلا دستور ولا قرآن _ إلا بالسيف والسجان : أنا لا أراك ضعفي عماي ..فلا أراك وأنت تزحف في قواك عمي الضياء وجثتي الملقاة ترجف من خطاك في القيد في ذلي الذي ألهته في كبرياك أبدأ أحسك في دماي لظى فاصرخ : لا أراك أنا لا أراك.! وفي تحولات القصيدة ، وهي قصيدة طويلة ، وفي مقطعها الأخير . يتم الانتفاض على الدكتاتور بعد أن تتوحد الإرادة وتحدث الأفاقة وينتهي الضعف والعمى وتستبدل بالقوة والإبصار والرؤية : لما يفيق أخي وينفض سكرة الحلم المطيف لما يبدد كوخنا المنبوذ إعصار عنيف لما نجازف في الظلام ونقحم الدرب المخيف ويدي تشد على يديه في ارتعاشات السكون بقوى من البعث الجديد تضج ..توغل كالمجنون قلبين موتورين يجتاحان أسوار المنون سأراك تزحف في قواك فلا أبالي من تكون سأصيح _ لكن صيحة البطش بلى . ! إني أراك إني أراك ! إني أراك ..إني أراك ...هنا قوة الشعب ، هنا قوة التغيير ، هنا الوضوح ، هنا شمس الانتصار . رفض الضعف والخنوع : من السجايا والصفات التي يتمتع بها شاعرنا الكبير لطفي جعفر أمان ، انه كان مثقفا موسوعيا ، جمع الثقافة من أطرافها ، فهو متفقه في تراث الأمة الأدبي والفكري والثقافي ومتبحر في الأدب والثقافة الأجنبية الأوروبية، لذا لا غرابة أن نجده مثقفا ينبو عنه التخلف وضيق الرؤية، انه يرفض ذلك ويرى إليهما سببا لتأخرنا وتخلفنا فنحن إن لم نتغير إنما نحن مجتمع من الموات... هذا التنويري العظيم ، الشاعر الجهبذ ينافح ويكافح ضد الضعف في العديد من قصائده ، على سبيل المثال لا الحصر : قصيدة ثورة البركان ، ليل إلى متى ، الطائر الجريح ، رياح ، لا ضعف . وغير ذلك من قصائده الرائعة التي ينبذ فيها التخلف والجهل والكسل وينحاز للانطلاق والإبداع والمبادأة..نقرأ في قصيدة ثورة البركان : على سفح “شمسان” تجثو قبور وفي شط “حقات” تغفو قبور وفي ربوة “العقد” تربو قبور أهذي حياة ومن حولنا قبور قبور ..وناس قبور إذا الريح طوعي لسخرتها إذا النار ملكي لأضرمتها وهذي الجبال لفجرتها براكين تسحق هذي القبور فأزهو بأني حطمتها ثم يلتفت إلى نفسه ويعبر عنها بصيغة الغائب ، ويجعل من الحقيقة : التقدم والحرية صنوان لا يتحققان إلا في البلاد الحرة : يثور ..يثور.. ويسكب شعره جداول نار .جداول ثرة لينبت في الأرض ..في كل ذره شعاع الحقيقة يرقص حرا كأي بلاد على الأرض حرة الشاعر لطفي أمان ..في موكب الثورة والاستقلال: قصيدة في موكب الثورة للشاعر الكبير لطفي جعفر أمان ، هي بين تلك الأعمال الإبداعية الحقيقية التي كان موضوعها حدث الاستقلال الوطني للجنوب ...ولكن بسبب المقدرة الإبداعية الهائلة لشاعرنا ، أصبح معنى الاستقلال الوطني فيها كحدث تاريخي سياسي مجيد ، عبارة عن بناء فني وتحديدات إبداعية خلاقة ، حاول فيه شاعرنا الكبير تقديم الاستقلال الوطني كحدث متموضع تم انجازه في 30 نوفمبر 1967 إلى مفهوم يؤطر معاني الحرية والعدالة والكرامة في نسيج الشخصية الجنوبية، بحيث لا يمكن أن نتحدث عن الحرية إلا أن نتحدث عن الإنسان في الجنوب بكل محدداته التاريخية ومشاغله وهمومه . وقد تضمنت القصيدة سفر النضال والكفاح ضد المستعمر منذ استيلائه على عدن بالقوة وحتى خروجه منها ومن الجنوب ككل بالقوة ، وحينها غنى لطفي والفنان الكبير احمد قاسم وغنينا معهما : وهكذا تبددا عهد من الطغيان لن يجددا وحلقت على المدى ثورتنا ...تهتف فينا أبدًا يا عيدنا المخلدا غرد فإن الكون من حولي طليقا غردا غرد على الأفنان في ملاعب الجنان الشعب لن يستعبدا قد نال حريته بالدم والنيران وقتل القرصان من قصيدة له :”صرخة المجد التليد “ من فم الطود العتيد هي نار وحديد نفثت رعب الفناء قل لهم من ذلنا ومتى كنا عبيد؟! # نقلا عن موقع البعد الرابع الالكتروني