لا يوجد في تاريخ الجنس البشري منذ جعل الله الإنسان خليفته على الأرض ولا في الأديان السماوية بشرائعها وعقائدها المتعاقبة التي تكاد تكون واحدة ولا حتى في القوانين الوضعية التي سنها البشر في مراحل مختلفة من التاريخ مايجيز ويبرر لأي فرد أو جماعة بعينها الإستفراد بالحكم واحتكار الأمر والولاية كحق إلهي خالص وحصري وممارسة الإستبداد واستعباد الناس وظلمهم بأي حال من الأحوال . وقد كان الإسلام تحديدا صريحا وواضحا في موقفه الحازم من هذه المسألة أو القضية حيث أورد وبين أحد النصوص القرآنية حكم الله تعالى على - الحاكم المستبد - المخالف لمنهجه الذي ارتضاه لعباده بقوله وبصيغ مختلفة : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون . .... فأولئك هم الفاسقون. ..... فأولئك هم الكاذبون. .... فأولئك هم الكافرون. وحث الإسلام أتباعه في كل زمان ومكان على مقاومة الظالمين والمستبدين وعدم الإذعان والرضوخ لهم والسكوت عن اذلالهم وقد ارتضى لهم العزة والكرامة والرفعة . ولا زالت مقولة الخليفة الراشد الشهيرة في تقريع وعتاب والي مصر عمرو بن العاص بعد ان قدم رجل مصري يشكو ابنه للخليفة بأنه ضربه وأهانه تتردد حتى اليوم وفي تلك المقولة الخالدة يخاطب عمر بن الخطاب والي مصر إبن العاص بن وائل السهمي بقوله : ياعمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ?!. ثم التفت إلى المصري الذي قدم إليه إلى المدينةالمنورة حاضرة الدولة الإسلامية آنذاك ليشكو ظلم ابن العاص وقال له بعد ان اعطاه سوطا كان بيده : قم واضرب ابن الأكرمين !. اي اقتص منه واضربه بهذا السوط بقدر ماضربك. ومثل هذا الموقف وغيره يتأكد لنا سماحة الإسلام وعدل نظامه ومنهجه ورجاله الأمناء المخلصين الذين كانوا يحكمون الناس بما أنزل الله وشرعه لهم من احكام لم يأتوا بما يخالفها وعاشوا بفعل ذلك أحرارا أعزة لايقبلون الدنية في دينهم ودنياهم وسادوا بتلك الأخلاق والمبادئ الدنيا ودانت لهم الأرض بمن عليهم حتى تحولوا عن ذلك المنهج والمهيع القويم وعدلوا عنه بحكم سلطة الأمر الواقع وابتداع الإستبداد والإستفراد بالأمر في تاريخ الأمة فآلوا إلى اسوأ حال ومصير ومنقلب. ولا يختلف اثنان ان الإستبداد السياسي الذي تعاني منه الأمة منذ تأسيس الدولة الأموية التي أسسها معاوية بن أبي سفيان واستمرت 90 عاما استمر ينخر في عظام الأمة حتى عهد الدولة العثمانية وما بعدها وحتى اليوم. وقد تدرجت آثار هذا الإستبداد السلبية على الأمة عبر مراحل متعاقبة وانعكست على حياة أبناء الأمة وألقت بظلالها القاتمة على الجميع بشكل مباشر ولافت ليصل خطر ذلك الإستبداد وأثره البالغ على المحكومين اليوم إلى الحد الذي لايطاق ولا يحتمل ولا يمكن السكوت عليه.ويتفق الكثير من المفكرين والمحللين الإستراتيجيين الذين أهتموا كثيرا بهذا الجانب المظلم من تاريخ هذه الأمة السياسي على رأي واحد يؤكد : وجود أسباب كثيرة ومتنوعة أسهمت في نمو « ظاهرة الإستبداد السياسي» وبررت لوجوده بل ودافعت عنه وقدمت له الدعم والتسهيلات اللازمة التي حظي بها حتى وصل إلى ماهو عليه من التنمر والوحشية والبغي والطغيان والفرعنة. وبحسب هؤلاء فإن أهم الأسباب التي ساعدت في بروز ظاهرة الحاكم المستبد وتناميها واستمرارها في تاريخ وحياة الأمة حتى اليوم تكمن في : « ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امتثالا لتوجيه الرسول الكريم القائل :» من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان « . وكان الرسول الكريم صارما وحازما في رأيه الخاص بشأن الحاكم المستبد والراضخين له حيث قال كما روي عنه :» إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمهم الله بعقابه». ولم ينس الرسول الكريم ان يبين لأمته فضيلة الإحتساب على الحكام وولاة الأمر قائلا :» سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله « وقال أيضا في فضل القيام بتقويم الحكام وعدم السكوت عن استبداد المستبدين منهم :» أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر «. كذلك فمن أسباب تمادي المستبدين في استبدادهم ووصوله اليوم إلى درجة من الخطورة لاسابق لها انتشار مايسمى بعقيدة الإرجاء والجبر التي انتشرت على ايدي دعاتها واتباعها من الصوفيين والأشاعرة والماتريدية وهذه الأفكار والمعتقدات كان لها وبلا شك اثرها الكبير في ظهور روح الإستسلام للظلم وتهوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث ان عقيدة الإرجاء هذه قامت بتبرير طغيان الطغاة واوجدت لجورهم الأعذار والحجج الواهية وقد سمي الإرجاء « دين الملوك» . في حين يعتبر ماعرف ب: « التبرير والتأول الشرعي « من اهم وابرز الأسباب والعوامل المسؤولة عن اضفاء الشرعية على استبداد الحكام المستبدين وانفرادهم بالأمر وتولي شؤونها دون مشورة منها ورضى وقد بدأ ذلك كما هو معروف منذ التآمر على اسقاط نظام حكم الخلافة الراشدة الشوروي الإسلامي وتحويله الى نظام ملكي وراثي مستبد على يد معاوية ومن اتوا بعده على ذات النهج والخطى. } يتبع