بحث مقارن لحملات الغزاة المتعاقبة على اليمن عبر التاريخ خلص إلى أن الغزاة لايستفيدون من التجارب لقد تركت الممالك اليمنية صراعها مع البيني جانباً واتحدث ضد الاحتلال الحبشي بعد ان تأكدت ان مملكة اكسون تدير وتستغل ذلك الصراع لصالحها من اهم اسباب رفض القبائل العربية دعوة اليمنيين الى التوحد حالة الضعف الناتجة عن تباين ولائها للفرس والروم نستكمل حلقتنا لهذ العدد عرض الفصل السابع من هذا البحث والذي تناولنا في حلقات سابقة استعراض الجزء الأكبر منه والذي خصصه الباحث للغزو الأيوبي لليمن في القرن الحادي عشر الميلادي لنضع القارئ أمام صورة مكبرة ومقربة لتصرفات الولاة الأيوبيين وفسادهمومجازرهم الفضيعة الذي أدى إلى ثورة الشعب اليمني عليهم في معارك عديدة، فإلى الحصيلة: عرض/ امين ابو حيدر ومما يمكن الاستفادة منه من خلال قراءة تلك المراحل الثلاث وما كتب عنها استنادا إلى النقوش والآثار وما نقل عبر الإخباريين ما يلي : خلافات اليمنيين أو بالأصح الممالك والدويلات كانت من أهم العوامل المساعدة للأجنبي في تحقيق أهدافه وبلوغ الأرض اليمنية وإدارة الصراع بين تلك الممالك فقد كان الخلاف بين سبأ وحضرموت من جهة والقوة الصاعدة وقتها الريدانيين وهم حمير من جهة ثانية إضافة إلى تطلع مراكز نفوذ أخرى للحكم كهمدان هذا في المرحلة الأولى وتكررت بقوى أخرى في المرحلة الثانية. إن كل تلك المراكز سرعان ما اتحدت ضد الأحباش بعد أن تأكد لها أن مملكة أكسوم تعمل على إدارة واستغلال الصراع بين كل تلك القوى فتارة تتحالف مع سبأ ضد حمير وتارة مع حمير ضد سبأ ومع أقيال ضد آخرين وهكذا . إن الممالك أو الدويلات اليمنية وقتها انشغلت بالصراعات فيما بينها فتركت أمر البحر وتخلت عن مهامها في تعزيز القوة العسكرية البحرية إذ يرى بعض المؤرخين أن عدم امتلاك الدولة الحميرية وقتها أسطولا بحرياً كان من أهم العوامل المساعدة للأحباش في السيطرة على الساحل الغربي ... والإهمال هنا لا يعود بحسب ما نعتقد إلى قصور في الرؤية بل إلى أولويات أخرى رأت مراكز الحكم وقتها أنها أكثر أهمية من غيرها، فالصراع الداخلي والغزوات وإخضاع المناطق وبسط السيطرة تصدر قائمة الأولويات يليه الوضع العمراني والزراعي.. ثم إن تاريخ الممالك اليمنية القديمة يؤكد أنها كانت المسيطرة على طرق التجارة البحرية وكان اليمنيون من يتحكمون بالبحرين الأحمر والعربي وأجزاء من المحيط الهندي وكانت السفن والبضائع لا تمر من باب المندب إلا بعد أن تأخذ موافقة اليمنيين وهذا الاهتمام بالبحر تضاءل بعد الميلاد سيما بعد الحملة الرومانية وضعف الممالك القديمة. إن اليمنيين لم يتوقفوا عن الثورة ضد الاحتلال حتى في تلك اللحظة التي حاول فيها المحتل أن يصور لهم أن هناك روابط تجمعهم ،فها هو أبرهة رغم ادعائه أنه ملك اليمن وتلقب بلقب الملوك الحميريين وأعاد بناء سد مأرب وأعلن انفصاله عن مملكة أكسوم إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى توقف الثورة ضده ،ويقول بعض المؤرخين إن الأحباش القادمين إلى اليمن ادعوا أن أصولهم يمنية وذلك لتبرير حكمهم لليمن وسيطرتهم عليه ثم إن محاولة أبرهه الانفصال باليمن عن مملكة أكسوم يعود إلى أن خيرات اليمن كانت تكفي لإقامة إمبراطورية مستقلة فاليمن وقتها كان يمتلك الثروات والعوامل والأسباب المؤهلة لنشوء دولة قوية كالزراعة والموقع الجغرافي والشعب. فتح المجال للتبشير الديني أو الغزو الثقافي كارثة كبيرة على الكيان الوطني ومقدمة للاحتلال العسكري فنشر الدين أمر ثانوي في جميع الحركات التبشيرية ولا غرو فالمبشر يسبق الجيش إلى كل مكان . بقاء الاحتلال الحبشي واستمراره لسنوات لا يعود إلى قوة الأحباش بل إلى وقوف جزء من اليمنيين مع المحتل الذي كان يستخدم عملاءه وأتباعه في القضاء على الثوار وتبرير بقائه وشرعنة حكمه وهو ما ساهم في إضعاف الروح المعنوية للثوار ودفعهم للبحث عن وسائل تضمن حسم المعركة بشكل سريع. الفصل الخامس: نفوذ الإمبراطورية الساسانية القرن السادس الميلادي عقب طرد الأحباش برزت في الساحة اليمنية قوة خارجية جديدة سرعان ما أصحبت جزءاً من منظومة الحكم مستفيدةً مما قدمته من دور في طرد الاحتلال الحبشي ويكاد يجمع أغلب المؤرخين وكذلك المصادر التاريخية المختلفة على أن الحضور الفارسي في اليمن لم يكن احتلالا عسكرياً بقدر ما كان نفوذاً وهيمنة وتحكماً بالقرار اليمني على الأقل في المرحلة الأولى من ذلك الحضور وفي تلك المرحلة تمثلت التبعية اليمنية للإمبراطورية الساسانية في دفع الجزية السنوية ، ثم انتقل ذلك الحضور إلى سيطرة كاملة عبر الاستفراد بالحكم الذي اقتصر على العاصمة صنعاء وعدد من المدن كعدن والجند، وقد أدى النفوذ الفارسي في بداية الأمر إلى تأجيج الخلافات بين اليمنيين وكان اغتيال ذي يزن مقدمة للاستيلاء على الحكم بشكل فعلي الأمر الذي سيدفع اليمنيين إلى إشعال عدة ثورات لاستعادة الحكم وتحرير البلاد من سطوة المحتلين الجدد. وحتى يتمكن القارئ من تشكيل صورة كاملة عن تلك المرحلة فإننا نجملها في النقاط الآتية: المرحلة الأولى: منذ طرد الأحباش وتنصيب سيف بن ذي يزن ملكاً أي أن الحاكم يمني، إلا أنه أصبح مرتبطاً بفارس من جهة دفع الجزية والخراج السنوي إضافة إلى وجود عدد من الفرس بجواره كمستشارين وقادة عسكريين ويمكن اعتبار تلك المرحلة بأنها ما بين الاستقلال والتبعية وتنتهي تلك المرحلة باغتيال ذي يزن وهناك 3 روايات حول اغتياله فمنهم من يتهم الفرس بتدبير الاغتيال للسيطرة الكاملة على الحكم وآخرون يتهمون الأحباش الذين انتقموا لما حل بهم من تنكيل . وقول آخر يتهم أحد الأقيال اليمنيين ويسمى فروة بن مسيك المرادي بالوقوف وراء العملية وما بين كل تلك الآراء من يتحدث أن الأحباش أو القيل اليمني الذي تولى عملية الاغتيال لم يكن إلا أداة لصالح الفرس. المرحلة الثانية: وتبدأ منذ اغتيال سيف بن ذي يزن وسيطرة الفرس على الحكم واستمرت هذه المرحلة حتى إسلام باذان وفيها أصبحت اليمن تحت السيطرة الفارسية (صنعاءوعدن) وهناك روايات أن كسرى أرسل بجيش إلى اليمن بعد اغتيال ذي يزن لتأكيد السيطرة على اليمن. المرحلة الثالثة : وهي مرحلة انتهاء السيطرة الفارسية على الحكم في صنعاء وبعض المناطق المجاورة لها وذلك بوصول الإسلام إلى اليمن ودخول اليمنيين في دين الله أفواجا. إشكالية المصادر : يعود اختلاف المؤرخين بشأن شخصية سيف بن ذي يزن إلى عدم وجود نقوش أثرية تذكر تلك الفترة وتتحدث عنها وتنحصر المصادر التاريخية عن تلك المرحلة في روايات الإخباريين العرب إضافة إلى الموروث الشعبي وعلى ما يبدو أن التطور الذي حدث في تلك الفترة من ناحية الكتابة قد أدى إلى توقف اليمنيين عن زبر النقوش التي تسطر أهم الأحداث والتحولات، غير أن هناك ما يشير بالفعل إلى التواجد الفارسي باليمن وهو ما لا يمكن التشكيك به بأي حال من الأحوال، فقد اعتنق اليمنيون الإسلام في الفترة التي كان فيها باذان يحكم صنعاء وكان هناك تواجد كبير للفرس في صنعاءوعدن ولا يزال الصراع حاضراً في تلك الفترة بين اليمنيين والفرس وهذا ما نستطيع استنتاجه من تحركات اليمنيين قبل وبعد وفاة الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم . ومن هذا المنطلق فسنعتمد على العديد من المصادر منها مؤلفات وآراء باحثين تناولوا تلك الفترة من الناحية الاجتماعية والسياسية. ظهور ذي يزن : عن ظهور هذه الشخصية في تلك الفترة هناك الكثير من الروايات منها من ينظر إلى سيف بن ذي يزن مجرد شخصية أسطورية لا وجود لها إلا في مخيلة الأساطير الشعبية وهناك مراجع تاريخية تشير إلى وجودها مع الاختلاف في أحداث تلك الفترة وكذلك في أسماء آخر ملك حميري. ويذكر محمد بن علي الأكوع بكتابه اليمن الخضراء مهد الحضارة نقلاً عن الهمداني بأن النعمان بن عفير هو والد سيف بن ذي يزن وكان قد جمع فلول الجيش بعد هزيمة ذي نواس ومن تبعه من أهل اليمن فقاتل الأحباش قتالاً مريراً في معارك عدة منها السحول التي اندحرت فيها قوات الحميريين وتتبع الأحباش آثار الفلول ثم نشبت معركة في حقل شرعة وكانت شديدة وشرسة ولكن توالي الهزائم قد خامرت نفوس اليمنيين فلم يتمكنوا من الصمود طويلاً وانتصرت الأحباش استولوا على جميع سهول اليمن فيما بين صنعاءوعدن دون معاقلها وحصونها . ويقول المؤرخ شرف الدين: وبالرغم من قوات الأحباش المتدفقة على اليمن فقد استمر من بقي من الأقيال في مناضلتهم وقتالهم بعزائم ثابتة، فقد جاء في نقش أبرهة ذكر بعض التحركات التي قام بها اليزنيون وكان سيف بن ذي يزن النعمان بن عفير أحد سلالة ملوك حمير وكان أبوه النعمان بن عفير قد ثبت على جزء صغير من اليمن بعد موت يوسف ذي نواس ثم بعد موت أبيه النعمان تمكن الأحباش من انتزاع الملك من يده . الاستعانة بالإمبراطورية الساسانية : أدت عدة عوامل محلية ودولية إلى توجه سيف بن ذي يزن للقوى العالمية طالباً المساعدة في تحرير اليمن من الاحتلال الحبشي فتوجه نحو الدويلات العربية في شمال الجزيرة العربية وانتهى به المطاف إلى الدولة الساسانية التي قررت تقديم المساعدة مقابل دفع الجزية ، ولم يكن ذو يزن ينوي التوجه إلى فارس ابتداءً، وهو ما يتضح من خلال نتائج زيارات ذي يزن وغيره من الأقيال إلى الممالك العربية الشمالية والتي على ما يبدو رفضت ولعوامل عدة الاستجابة لطلب اليمنيين لكنها في ذات الوقت ولخبرتها بالصراع الروماني الفارسي نصحت ذي يزن بالتوجه إلى فارس . ومن أهم أسباب رفض القبائل العربية دعوة اليمنيين إلى التوحد حالة الضعف الناتجة عن تقاسم كلٍ من فارس والروم النفوذ والهيمنة على تلك الكيانات، ولهذا فإن الحركة اليمنية بقيادة ذي يزن على ما يبدو كانت تحمل مشروعاً يتجاوز الجغرافيا اليمنية ويبدأ ذلك المشروع بطرد الأحباش ثم تأسيس الكيان العربي القادر على حماية الجزيرة العربية من نفوذ وهيمنة القوى الخارجية سيما وتلك الكيانات العربية هي بالأصل يمنية وكان لها ارتباط سياسي بالدولة الحميرية وتاريخي باليمن. وقد عملت بعض الأحداث على خروج الوفود اليمنية إلى القبائل والكيانات في شمال الجزيرة وكان ذلك محصلة لحركة دؤوبة داخل القبائل اليمنية تهدف إلى الخلاص من الاحتلال الحبشي ولهذا فإن حركة ذي يزن لم تكن فريدة كما حاول الفكر العربي الميتافيزيقي تصوريها بل حركة جماعية . وقد تصدى الكثير من المؤرخين لأي اتهامات قد تطال ذي يزن بسبب لجوئه إلى فارس واعتبروا أن ذلك اللجوء لم يكن إلا آخر الحلول سيما بعد ما وصلت إليه الروح المعنوية اليمنية من ضعف وعدم استجابة القبائل العربية له وكل ذلك أجبره على طلب المعونة العسكرية من دولة فارس التي كانت عدوة لدولة الرومان . ويقول المؤرخ جواد علي : لقد عجل الحبش بنهايتهم باليمن وعملوا بأيديهم على هدم ما أقاموه بأنفسهم من حكومة باعتدائهم على أعراض الناس وأموالهم وأخذها عنوة .. حتى صاح أهل اليمن وضجروا فهبوا يريدون تغيير الحال وطرد الحبش من أرضهم وقد أدى بهم هذا إلى تبديلهم بأناس أعاجم أيضا مثل الروم أو الفرس إذ عجزوا عن طردهم فلعل الحكام الجدد من قد يكون أهون شراً من الحبش، وإن كان كلاهما شراً ولكن إذا كان لابد من أحد الشرين فإن أهونهم الخيار ولا شك . ودافع عن ذي يزن أيضا مؤرخون أجانب والذين أشاروا إلى الرأي القائل بأن اليمنيين عندما طلبوا المعونة العسكرية من الخارج كانوا على استعداد لاستبدال النفوذ الحبشي بنفوذ آخر حتى العظم غير صحيح ذلك لأن سيف بن ذي يزن والمقاومة الشعبية اليمنية كانت تسعى لتحرير الأرض من نير الاحتلال وتحرير الشعب من الاضطهاد الحبشي والأجنبي بكل أشكاله . المفاوضات مع كسرى : مما يؤكد ما ذهب إليه الكثير من المؤرخين بأن طلب الاستعانة بفارس لم يكن يد،ر في تفكير الحركة اليمنية المقاومة للأحباش بل جاء بنصيحة أحد الملوك العرب، هو أن الفرس أنفسهم لم يكونوا على استعداد للرد على الطلب اليمني وهو ما يتضح من خلال رفض كسرى الاستجابة لطلب ذي يزن، وبعد أخذ ورد استجاب أخيراً وقرر المساعدة، وبمعنى أشمل أن القيادة الساسانية لم تكن تفكر باحتلال اليمن غير أنها عادت وقررت تقديم المساعدة لما لذلك من نتائج إيجابية على النفوذ الفارسي في المنطقة وعلى ما يبدو أن تأخر كسرى في الرد ومن ثم اقتصار المساعدة على عدد قليل من الجنود مرده خشية الفرس من ردة الفعل الرومانية سيما وهناك اتفاقية هدنة بين الطرفين كانت سارية في تلك الفترة وبعد إلحاح ذي يزن قرر كسرى ضرب عصفورين بحجر الأول إبعاد اليمن عن دائرة النفوذ الروماني من خلال طرد الأحباش والثاني بالتخلص من المعارضة السياسية داخل فارس، فقرر مساعدة ذي يزن بمجموعة من المستشارين وكذلك المعارضة السياسية التي كانت في السجون وكما يقول الدكتور العودي: إن المعارضين كانوا دهاة وليسوا لصوصاً أو مجرمين وكان كسرى قد قال لهم اذهبوا مع ذي يزن وعينوه بالاستشارة لن تقاتلوا ولن تُقتلوا لكن عينوه بالرأي والاستشارة والجانب المعنوي، إذا انتصر فسيكون لكم شأن في اليمن مع فارس ونوسع علاقات فارس وإمكانياتها ونفوذها، وإذا هُزم يقول كسرى في نفسه «نخلص منكم» . حجم القوة الفارسية القادمة إلى اليمن : هناك اختلاف كبير في تقدير حجم القوات العسكرية القادمة مع سيف بن ذي يزن للمشاركة في طرد الأحباش فمنهم من يتحدث عن 7500مقاتل منهم 800سجين نقلوا عبر السفن إلى الساحل اليمني فيما روايات متداولة بشكل كبير تتحدث عن 800مقاتل أغلبهم كانوا سجناء نُقلوا في 8سفن إلى ساحل حضرموتباليمن ، وكان ما يقارب 200منهم قد غرقوا في البحر. حديث العودي المذكور سابقاً يؤكد أن المقاومة اليمنية تمكنت من طرد الأحباش بفعل الجانب المعنوي الذي أحدثته عودة سيف بن ذي يزن بقوات رمزية من فارس وهو ما أوحى وقتها لليمنيين والأحباش بأن الفرس بأكملهم يقفون مع سيف بن ذي يزن ويتفق مع هذا الطرح المفكر عبد الباري طاهر الذي يقول عن تلك المرحلة : إن الفرس لم يسيطروا على اليمن بالقول: أما مسألة الفرس الذين تم الاستنجاد بهم، فإن دخولهم ليس بتلك القوة ولم يسيطروا على اليمن، كان لهم وجود في سيف البحر ولهم وجود في البحرين وفي الإحساء وامتد إلى اليمن ولكن امتد بشكل ضعيف ولفترة زمنية قصيرة، وكان وجوداً ضئيلاً، ويكاد يكون في صنعاء وبعض مناطق اليمن فقط وليس في كل اليمن ، وأيضا المؤرخ صادق علي يشير إلى أن حكم الفرس لليمن لم يكن حكماً فعلياً واقعياً فلم يكن ولاتهم يحكمون اليمن كلها وإنما كان حكمهم اسمياً صورياً يقتصر على صنعاء وما والاها فضلاً عن عدن ، وتركزت سلطة الفرس على صنعاءوعدن واستوطنوا على طول الطرق التجارية الرئيسية وفرضوا الرسوم الجمركية ونظموا استخراج خام الفضة واستفاد الفرس من حالة الانقسام والفوضى بين اليمنيين وذلك في السيطرة على المراكز الاقتصادية المزدهرة كعدن والجند. اغتيال ذي يزن والسيطرة على الحكم : اختلف المؤرخون حول مدة حكم سيف بن ذي يزن فمنهم من قال 15عاماً ومنهم من قال عاماً واحداً فقط بعدها أصبح الحكم في صنعاءوعدن للفرس وبعد اغتيال ذي يزن تولى الفرس الحكم منهم المرزبان بن وهرز كعامل من قبل كسرى ثم التيجان ابن المرزبان ثم خسروا بن التيجان ثم باذان الذي استمر حتى قدوم الإسلام . وتختلف الروايات حول مقتل سيف بن ذي يزن فمنهم من يتهم الفرس بتدبير العملية سيما بعد أن بدأ سيف في معارضة النفوذ الفارسي في البلاد ، وهناك روايات تتحدث عن تورط بقايا الأحباش في العملية انتقاماً لما حل بهم من تنكيل على أيدي اليمنيين ، والرواية الثالثة تتهم أحد الأقيال الذين كانوا يعارضون سيف بن ذي يزن. بحسب رأي الدكتور حمود العودي فإن الفرس كانوا وقتها قد تجذرت مصالحهم واستقرارهم في اليمن سواء كبطانة سياسية أو تجارية واقتصادية، سيطروا على التجارة وسيطروا على المناجم وبالذات مناجم الذهب والفضة والصناعات والحرف بدرجة كبيرة، توافقت مصالح الطرفين الأقيال والأذواء من جهة والجالية الفارسية من جهة على التخلص من ذي يزن وتولى تلك المهمة فروة بن مسيك المرادي الذي كان يمثل إقليم مذحج وبحكم النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري للفرس في تلك الفترة تمكنوا من السيطرة على السلطة المركزية وتركوا الأقيال والأذواء على حالهم قبائل وإقطاعيات ومناطق نفوذ . فيما يشير مؤرخون عرب إلى أن من تولى الحكم بعد سيف بن ذي يزن ما يعرف بالمثامنة وهي ثمانية من الأسر اقتسمت الملك بعد سيف حسب رواية أوردها ابن رسول في طرفة الأصحاب ولعلهم بحسب بافقيه كانوا أبرز الأذواء في المناطق الغربية في تلك المرحلة . ويضيف عن مصير الفرس بالقول: أما عن الفرس فقد اضطروا إلى التخلي عن فكرة الاحتماء وراء ملك محلي ربما لاستحالة ذلك واقتنعوا بحكم صنعاء وما حولها حيث كانت تتمركز قواتهم فكانت تلك حصتهم من اقتسام تركة التبابعة ولم يكن عاملهم فيها عندما جاء الإسلام أكبر مكانة من غيره من الأذواء الذين توجه إليهم الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالدعوة. ثورة خولان ومذحج ونجران ضد الفرس : ركز الفرس على الجانب الاقتصادي وذلك من خلال محاولة مد نفوذهم إلى أهم المراكز التجارية فكانوا يحتكرون النشاط التجاري لصالحهم قبل أن يحاولوا ترسيخ تواجدهم بالسيطرة على بعض المناطق الزراعية في محيط صنعاء وكل ذلك لم يحدث إلا بعد أن أصبحوا هم السلطة الفعلية ومن هنا اصطدموا بالقوى اليمنية سواءً في صنعاء أو في مختلف المناطق وقد تمكن الفرس من استمالة بعض القبائل اليمنية والدخول معها في تحالفات كقبيلة همدان إلا أن ذلك لم ينجح في إيقاف التحركات الثورية لدى بقية القبائل التي بدأت تنظر إلى الهيمنة الفارسية كخطر ينبغي مواجهته ولهذا كانت الدعوات تنطلق من قبيلة إلى أخرى للمواجهة وكل ذلك أدى إلى حصر النفوذ الفارسي في صنعاء والجند وعدن أما بقية المناطق فقد كانت تحت سيطرة الأقيال وعلى ما يبدو أن القبضة الفارسية على الجوانب الاقتصادية كانت وراء الثورة والمواجهة فالضرائب المرتفعة التي فرضها الفرس دفعت القبائل إلى شن هجمات مختلفة على صنعاءوعدن فيما يرى البعض أن الزيادة في الضرائب كان نتيجة تلك الهبات الشعبية ومحاولة تحرير صنعاء من النفوذ الفارسي وهو ما كلف الدولة أعباء جديدة اضطرت معها إلى مضاعفة حجم الضرائب ، وعلى رأس التحركات القبلية ضد الفرس ثورة قبائل مذحج وخولان ونجران وهي ذات القبائل التي احتشد أقيالها إلى منطقة المذاب بالجوف للتشاور وعقد التحالف ضد الفرس . وعلى ما يبدو أن ذلك التحالف لم يحدث إلا بعد أن كانت الخلافات مع الفرس قد بلغت ذروتها ووصلت حد المصادمات العسكرية وبالتالي فإن التحالف سيعمل على تأجيج الغضب الشعبي ويؤدي إلى مواجهات عنيفة لم نستطع الوصول إلى تفاصيلها الكاملة لكن هناك من المراجع ما يشير إلى وقوع معركة في الجوف تسمى معركة الروم ، وتذكر بعض المراجع . أسماء عدد من الأقيال تصدروا قائمة الثائرين ضد الحكم الفارسي وهم عمرو بن معدي كرب الزبيدي وعنبة بن زيد الخولاني والحصين بن قنان بن يزيد الحارثي ويزيد بن عبدالمدان وشهاب بن الحصين، وعلى ما يبدو أن وقوف همدان مع الفرس كان وراء فشل الثورة فهناك من يشير إلى أن همدان جمعت ما يقارب عشرة آلاف مقاتل بقيادة عمرو بن الحارث بن الحصين الشاكري وعمرو بن يزيد بن الربيع الحاشدي ورغم ذلك التحالف إلا أن قبيلة مذحج التي كانت القوة الأساسية في مناهضة الفرس ومعها خولان ونجران ستواصل التحركات ضد الفرس ،فما إن تتوقف حركة حتى تشتعل ثورة تعبر عن رفض تلك القبائل للسيطرة الفارسية ومنها ثورة عبهلة بن كعب التي تُعد من أقوى الثورات ضد الفرس رغم ما أحيط بها أو بالأصح ما أحيط بقائدها من جدل مستمر حتى يومنا هذا كون تلك الثورة جاءت في مراحل متزامنة مع دخول الإسلام اليمن ومنهم من اعتبرها ضد الإسلام ومنهم من أكد أنها استمرار للثورات اليمنية ضد الاحتلال الفارسي. لقد تمكن عبهلة من استثارة كافة القبائل التي التفت حوله وامتد نفوذه إلى عدن وإلى نجران قبل أن يقرر دخول صنعاء والقضاء على الحاكم الفارسي فيها إلى أن قُتل بعد ذلك في ظل استمرار اعتناق اليمنيين للإسلام وعلى رأسهم بالطبع الأقيال والأذواء . وبعد مقتل عبهلة قاد تلك الثورة قيس بن مكشوح المرادي الذي كان قد أعلن إسلامه ووفد إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم عاد إلى اليمن وشارك في مقاومة الفرس ولايوجد حتى اللحظة ما يؤكد أن عبهلة كان قد دخل الإسلام فكيف نحكم بردته ثم إن مناهضة التواجد الفارسي في تلك الفترة باليمن كانت قد أجبرت عدداً من الفرس مغادرة البلاد أو اللجوء إلى بعض القبائل اليمنية ما يعني أن مشكلة اليمنيين مع الفرس استمرت إلى ما بعد دخول الإسلام وأن وفاة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم- حالت دون أن يقف على هذه المشكلة وأن يحلها والدليل على ذلك هو ما يؤكده العديد من المؤرخين من أن وفداً كان قد وصل إلى مشارف المدينة يقصد الرسول الأكرم لطرح مشكلة الرفض اليمني لبقاء باذان حاكماً في صنعاء إلا أن الرسول كان قد التحق بالرفيق الأعلى. ولهذا نجد أن اليمنيين عادوا وطرحوا هذه القضية على الخليفة أبي بكر الصديق الذي اهتم وقتها بدفع اليمنيين إلى الانخراط في الفتوحات بحسب وصية النبي وبالتالي تأجل حل هذه القضية غير أن تداعياتها استمرت فقد أدت إلى اضطرابات في صنعاء بين اليمنيين والفرس في عهد الخلفاء الراشدين بل وفي مراحل لاحقة، ويؤكد الدكتور نزار الحديثي أستاذ التاريخ الإسلامي في كلية الآداب بجامعة صنعاء . بأن ما حدث في اليمن في عهد أبي بكر الصديق لم يكن ردة بل معارضة سياسية ويذهب مع غيره إلى القول إن أبا بكر وفي سبيل حل القضية اليمنية جمع كبار اليمنيين وذكرهم بوصية النبي- صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أكد فيها على فتح الشام والعراق بأهل اليمن فيما اليمنيون طرحوا على أبي بكر قضيتهم المتعلقة برفض أي حاكم فارسي على بلادهم إضافة إلى أن تكون أرضهم عشرية تؤخذ منها الزكاة وليست خراجية ، وفي النهاية فقد أدت التحركات اليمنية ضد الفرس إلى تقليص نفوذهم ثم ذاب من تبقى منهم في المجتمع اليمني ولم يعودوا أصحاب القرار الأول فمنهم من انتقل من صنعاء إلى ضواحيها وبدأ في ممارسة الزراعة وآخرون انتقلوا إلى مناطق أخرى لممارسة النشاط التجاري بمعنى أن صفة الاحتلال أو الهيمنة لم تعد مناسبة أو تتوافق مع واقع ما بعد الإسلام وهو الواقع الذي من خلاله استعادت القبائل اليمنية ملكية منجم الرضراض في نهم للفضة والذي كان يتفوق على مناجم خراسان المشهورة وكان جزء كبير منه تابعاً للفرس إلا أنه بعد الإسلام أصبح ملكاً للقبائل اليمنية . ويمكن القول إن دخول الإسلام إلى اليمن واعتناق اليمنيين لهذا الدين طواعية جعلهم يقبلون بالدولة الإسلامية الجديدة التي مقرها المدينةالمنورة وهي الدولة التي انصهرت فيها كافة الكيانات بالمنطقة بما في ذلك فارس نفسها في مرحلة لاحقة، أما عن مصير الأبناء فقد أصبحوا جزءاً من النسيج المجتمعي اليمني فلا يوجد ما يربطهم بأي كيان سياسي خارجي عدا ارتباطهم باليمن وبنشاطهم الاقتصادي والزراعي ولم يعودوا يشكلون أية خطر على كيان الدولة اليمنية والصراعات التي حدثت فيما بعد كانت لأسباب حقوقية وليس سياسة . نتائج الاحتلال الفارسي : تأثر الاقتصاد اليمني على وجه التحديد من الاحتلال الفارسي وكان لهذا الاحتلال أيضا نتائج على كافة المستويات أبرزها السياسية والاجتماعية فعلى المستوى السياسي أصبحت اليمن في تلك الفترة محسوبة على الإمبراطورية الساسانية وأما اقتصاديا فقد أشار المؤرخ صادق علي إلى حجم التداعيات الكارثية لاحتكار الفرس التجارة معتبراً أن ذلك أدى إلى التضييق على اليمنيين ودفعهم إما إلى اللجوء للأقيال والأذواء في المناطق غير الخاضعة للفرس أو إلى الهجرة نحو شمال الجزيرة العربية وقد كسب الفرس كثيراً من سيطرتهم على اليمن لأنهم بذلك أصبحوا يسيطرون على الطريق التجاري إلى الهند عبر البحر الأحمر كما سيطروا على الطريق البري أو طريق الحجاز . ويتحدث مؤرخون عن تلك الفترة بالإشارة إلى الهجرات الجماعية لليمنيين جراء التدهور الكبير الذي أصاب القطاع الزراعي والذي أدى إلى مشاكل غذائية وعانت بعض القبائل من شبح المجاعة وانتشر الفقر وكان من أسباب إهمال الزراعة تحول الفلاحين إلى جنود تابعين للأقيال والأذواء في المناطق الخاضعة لسيطرتهم