بحث مقارن لحملات الغزاة المتعاقبة على اليمن عبر التاريخ خلص إلى آن الغزاة لايستفيدون من التجارب الاحتلال الحبشي لليمن كانت له نتائج كارثية اقلها تدمير الاقتصاد وسرقة خيرات البلاد وبعثرة القوة اليمنية المنتجة نستعرض معكم في هذه الحلقة الجزء الاخير من الفصل الرابع من هذا الكتاب «الغزو الحبشي الثاني لليمن في القرن السادس الميلادي ونضعكم امام خلاصة تاريخية ابرز فيها الباحث ابن عامر سلسلة من الملاحم البطولية اليمنية في مقاومة المحتلين الاحباش انتهت بظهور سيف ابن ذي يزن وتزعمه وقيادته للثورة التي اطاحت بالاحباش في اخر المطاف وذلك بالاستعانة بالساسانيين الفرس.. فإلى الحصيلة: عرض/ امين ابو حيدر وما يمكن الإشارة إليه أن الفشل الذريع الذي منيت به تلك الحملة كان بداية ضعف الاحتلال الحبشي لليمن وعلى ضوء تلك الهزيمة عادت القبائل اليمنية من خلال أقيالها وأعيانها للتشاور من جديد بشأن إعادة تصعيد العمل الثوري ضد المحتل وعلى ما يبدو أن هذه المرحلة شهدت ظهور ذي يزن الذي تشير إليه بعض المراجع ب (سيف) إضافة إلى شخصيات أخرى ستتولى مهمة تحريض اليمنيين وكذلك إخوانهم العرب في وسط الجزيرة وشمالها على المشاركة في الثورة ضد الأحباش. أسباب فشل المقاومة اليمنية : رغم محدودية النجاح إلا أن الثورات اليمنية ضد الأحباش تمكنت من تحقيق إنجازات مهمة أبرزها تحرير عدد من المناطق من السيطرة الحبشية سيما المرتفعات الشمالية وكذلك مرتفعات في المناطق الوسطى فقد استمرت تلك المقاومة رغم غياب القيادة حتى أجبرت الأحباش على التمركز في مناطق دون غيرها كالمدن الرئيسية ولهذا فقد استمر الاحتلال الحبشي في عدن والسواحل الجنوبية وصنعاء والمناطق الغربية ( امتدت السيطرة الحبشية ما بين صنعاءوعدن عدا المعاقل والحصون)، ومن إنجازات تلك الثورات أنها أدت إلى إرباك المحتل الذي عانى من الهجمات المتكررة على الحاميات والمعسكرات ولم يستقر في أيّة منطقة فقد كانت المعارك كراً وفراً وتشبه إلى حد كبير حرب العصابات، وعلى ما يبدو فإن الأحباش لم يكونوا يمتلكون القوة اللازمة لإخضاع كامل اليمن سيما بعد تصاعد المقاومة في المرتفعات التي لم تصل إليها القوات الحبشية نظراً لوعورتها وكان الأحباش إذا أرادوا مد سيطرتهم إلى تلك المناطق جندوا لتلك المهمة المرتزقة من اليمنيين الذين كانوا يدلون الأحباش على الطرقات السرية ويتمكنون من اختراق التحصينات الطبيعية لبعض المناطق اليمنية، وعن استخدام الأحباش لأعوانهم من اليمنيين يقول نقش (ركمانز506) إن أبرهة استعان بقبائل من كندة وسعد وقبائل أخرى في قمع قبيلة معد القبيلة الشمالية الكبيرة وذلك حين تمرد كل بني عامر (بني عمرم) على أبرهة . ومن ذلك يمكن القول إن المحتل استخدم العملاء في تسهيل مهمة تحقيق هدف السيطرة على كافة المناطق اليمنية ابتداء من دورهم الكبير الذي قدموه أثناء حروب الملك يوسف ضد الأحباش ففي تلك الفترة كانوا يعملون على تزويد أكسوم بالمعلومات الخاصة بتحركات الملك يوسف وساهمت تلك المراسلات في كشف مواطن الثغور لدى الجبهة اليمنية ولم يكتفِ الأحباش بما يقدمه العملاء من تعاون ودعم لوجيستي بل توسع دور الأتباع للقيام بشن حروب متعددة على عدة مناطق لإخضاعها للسيطرة الحبشية وقد قام بعض الأقيال والأذواء بدور الترويج للمحتل من خلال حملة استقطاب لكل الأعيان المتذمرين والساخطين على الوجود الحبشي. ومما يؤخذ على المقاومة اليمنية للأحباش أنها لم تكن منظمة، فلم تكن تعتمد على التخطيط المسبق أو التنسيق بين كافة القوى المناهضة للغزاة وفي فترات لاحقة ظهر في صفوف المقاومة تنافس شديد بين الأقيال الذين كانوا يشعرون بأنهم الوريث للأحباش وهذا ما أثر على طبيعة المواجهة للغزاة والمحتلين وأدى إلى تعثر الكثير من الجهود لسنوات طويلة ودفع ذلك التنافس بعض الأطراف إلى التواصل مع الأحباش والتنسيق معهم ضد أطراف محلية أخرى ،ويعيد البعض أسباب ضعف الحضور الجماهيري للمقاومة إلى القوى التي كانت تسعى إلى تحقيق أهداف ذاتية والحصول على امتيازات سياسية واقتصادية . نتائج الاحتلال الحبشي لليمن: كانت نتائج وتداعيات وقوع اليمن تحت الاحتلال الحبشي في القرن السادس للميلاد كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى فقد شملت هذه النتائج كافة الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية الأمر الذي يجعل مرحلة الاحتلال الحبشي في تلك الفترة من أشد المراحل التي مرت على اليمن خلال الألفية الأولى للميلاد . وأهم نتائج الاحتلال الحبشي ما يلي : سقوط الدولة الحميرية وانهيار المركز الحضاري لليمن في تلك الفترة وهذا لم يحدث إلا بعد موجات من الصراع بين اليمنيين والأحباش المدعومين من روما. تدمير عدد من المدن والقصور والقلاع والقرى وعلى رأسها ظفار عاصمة الحميريين. أضرار كبيرة لحقت بالزراعة جراء الآفات الزراعية أو الضرائب المرتفعة والمصادرة وطمر الآبار والينابيع ونلاحظ أن من أهم أسباب تدمير القرى والمدن وكذلك استهداف الزراعة والقبضة الأمنية للاحتلال هجرة الآلاف من اليمنيين واتجاههم إلى مناطق شمال الجزيرة العربية أو إلى سورية ومصر والعراق وكانت اليمن وقتها تعاني من انهيار اقتصادي جراء تحويل طرق التجارة إضافة إلى استئثار الأحباش بكل عائدات النشاط التجاري. وقد تطرق عدد من المؤرخين اليمنيين والعرب والأجانب منهم من عاصر تلك الفترة أو جاءوا بعدها وجميعهم تحدثوا عن الأهوال التي أنزلها الأحباش في اليمن وأهلها ووصفوا التدمير الذي حل في مدن اليمن وقراها بالمروع الذي تقشعر له الأبدان وتشيب منه الرؤوس وامتدت أيادي المحتلين إلى طمر الآبار أو تغويرها فضلاً عن حمل الآفات الزراعية من النباتات الضارة والحيوانات المهلكة للزرع للإضرار بالزراعة اليمنية ، وكان الأحباش يعيثون فساداً في اليمن إذ أن أجزاء منها كانت تخضع لهم مباشرة بينما كانت الأخرى عرضة لغزوها وعرضة للنهب . ويشير مؤرخون آخرون إلى أن من أولى الثمار السيئة التي جناها أبناء اليمن المكتوين بنيران الاحتلال الأجنبي الدمار الاقتصادي جراء سرقة خيرات البلد وبعثرة قواه المنتجة وانتقال الطرق التجارية إلى شمال الجزيرة وخارجها مما سارع في إفقار البلاد وهجرة مدن تُرى الآن خاوية في مسار الطرق التجارية القديمة . المعركة الأخيرة مع الأحباش في صنعاء : ما إن وصل آخر الملوك الحميريين مع قوة عسكرية رمزية من الإمبراطورية الساسانية إلى الساحل الجنوبي لليمن حتى تداعت القبائل اليمنية وارتفعت معنويات المقاومين الذين هبوا للانضمام إلى جيش ذي يزن وهاجموا الحاميات والتجمعات الحبشية في معظم المناطق اليمنية ولم يعد للأحباش أي وجود سوى في صنعاء وبعض المناطق الغربية وقد توجه ذو يزن على رأس جيشه إلى صنعاء . وما إن وصلت الأخبار إلى القائد الحبشي مسروق بن أبرهة حتى أعد جيشه للمواجهة وكانت المعركة الفاصلة بين الطرفين في منطقة الجبانة بصنعاء . وبعد هزيمة الأحباش وفرار من تبقى منهم باتجاه السواحل الغربية دخل بن ذي يزن والقائد الفارسي وهرز صنعاء وأعلن سيف حاكماً على اليمن فيما ظل الفرس معه كمستشارين . وتذكر بعض المصادر التاريخية كسيرة ابن هشام مصير الأحباش في اليمن بعد تلك الهزيمة بالقول: فملكه وهرز وعاد إلى كسرى واستقل سيف حاكماً على اليمن من قبل كسرى يقتل الحبش و يبقر بطون الحبالى عن الحمل ولم يبق منهم إلا القليل جعلهم خولاً فاتخذ منهم جمازين . يسعون بين يديه بالحراب وكانت الأحقاد تأكل قلوبهم لما حل بقومهم ثم أنه خرج يوما والحبشة يسعون بين يديه بحرابهم فضربوه حتى قتلوه ،فكان ملكه لمدة خمس عشرة سنة ووثب بهم رجل من الحبشة فقُتل باليمن وأفسد فلما بلغ ذلك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف مقاتل من الفرس وأمره أن لا يترك باليمن أسوداً ولاعربية من أسود ومن شرك فيه أسود قتله ففعل وأمره كسرى على اليمن وكان يبعث إلى كسرى بخراج إلى أن مات وهرز وقام بعده ابنه المرزبان . رسالة من ذي يزن إلى البريطانيين : تصدر اليزنيون صفوف المقاومة اليمنية للغزاة الأحباش وتحفظ نقوشهم المكتشفة بعضاً من بطولاتهم وتضحياتهم ومن غرائب الصدف أن أحد تلك النقوش وقع في أيدي قائد القوات البريطانية الكابتن هينز الذي احتل عدن في 1839م فقام بترجمته من الخط المسند إلى الإنجليزية وتُرجم فيما بعد إلى العربية وكان يقول: هجمنا بسوط الغضب على الأحباش والبرابرة وتقدمنا ببأس وشدة على حثالة الجنس البشري . وعلى ما يبدو أن هذا النقش كان من آخر ما زبره اليمنيون من نقوش على الأحجار وكان بعد الانتصار على الأحباش ؛ فلم يصل إلينا أي نقش عن المرحلة التي تلي ثورة الملك يوسف أسأر يثأر وفسر البعض ذلك بأن تطوراً قد حدث في الكتابة فأدى إلى ترك النقش على الأحجار. محاربة الأحباش في الثقافة الشعبية : تحضر مرحلة الأحباش في الذاكرة الشعبية وتتداول الأجيال اليمنية سيما في الأرياف قصصاً وحكايات بعضها من وحي المخيلة الشعبية والآخر عن قصص حقيقية وهناك روايات تمزج ما بين الخيال والواقع ومن تلك الروايات التي تتحدث عن بطولات أحد القادة اليمنيين الذي كان يحارب الروم من بحر إلى بحر ولما لجأ الغزاة ببحر الظلمات طاردهم الملك اليمني بجيشه حتى أفنى الروم وعندما كان يخوض بحر الظلمات قافلاً إلى اليمن سقط سيفه في بحر الظلمات فصاح بأهل اليمن أن يخرجوا السيف من بحر الظلمات فلبوه عن بكرة أبيهم ودخلوا معه البحر حتى رجعوا بالسيف ولم يتخلف عن إجابة الملك إلا حفنة من الناس تسموا بالأطراف لخلع قبائلهم إياهم بسبب خوفهم من بحر الظلمات أو تخلفهم عن الغارة ويقول الأديب البردوني عن هذه الرواية إنها أقرب إلى الخيال القصصي المنبث في غرائب السير الشعبية فلم يخض أسعد الكامل وهو المقصود بالرواية بحر الظلمات ولاكان هناك ما يسمى بحر الظلمات والملحوظ أن وقائع ذي نواس الحميري انتقلت إلى أسعد الكامل، فذو نواس الحميري هو الذي حارب الأحباش المسنودين بالروم لغزوهم اليمن وهو الذي خاض بحصانه البحر الأحمر ومات غرقاً فيه . وقد أوردنا هذه الرواية للتأكيد أن مرحلة الاحتلال الحبشي والصراع اليمنيالروماني ظل حاضراً في المخيلة الشعبية حتى انعكس ذلك على شكل روايات بعضها يستند إلى وقائع حدثت بالفعل ثم دخلت عليها التعديلات والزيادة والإضافة غير أنها تحمل مدلولات وطنية وسياسية، فنلاحظ كيف أن هذه الرواية بغض النظر عن صحتها من عدمه تكشف لنا عن الموقف من الفئات التي تقاعست عن حرب الغزاة حتى أن القبائل خلعت كل متقاعس أو جبان والأهم من ذلك أن هذا الشعب يخلِّد القادة الذين ضحوا من أجله وتصدروا معارك الدفاع عن الأرض اليمنية ويضفي عليهم صفات خارقة للعادة وأفعال خرافية. الخلاصة : من خلال تتبع ما كتب عن التواجد الحبشي في اليمن والعلاقة بين اليمن والحبشة في القرون الأولى بعد الميلاد يمكن تقسيم مراحل هذا التواجد أو بالأصح الاحتلال والنفوذ إلى ثلاث مراحل : الأولى : مرحلة ظهور مملكة أكسوم وتوسعها وأطماعها في مد نفوذها إلى اليمن (الجهة الشرقية من البحر الأحمر) وكانت هذه المرحلة في نهاية القرن الأول الميلادي والنصف الأول من القرن الثاني الميلادي وتحضر في هذه المرحلة قصة الصراع المحتدم بين مراكز النفوذ في اليمن أو بين الدويلات اليمنية والممالك وسعي مراكز بعينها للسيطرة على الحكم وكيف أن هذا الصراع مكن الأحباش من التدخل في الشأن اليمني بتغذية تلك الخلافات والوقوف لجانب طرف ضد آخر وذكرت المصادر التاريخية قصة علهان بن نهفان واستعانته بالأحباش والصراع بين سبأ وحضرموت من جهة والريدانيين من جهة أخرى وكيف أن الأحباش تحالفوا فيما بعد مع الحميريين ضد الهمدانيين السبئيين، وشهدت هذه الفترة مقاومة للتواجد الحبشي بدرجات متفاوتة وذلك عبر الغزوات والهجمات على المناطق الغربية وتميزت هذه المرحلة بأن الاحتلال الحبشي كان يركز على السواحل الغربية فكانت السيطرة الحبشية تتسع تارة وتتقلص تارة أخرى غير أن السواحل الغربية بحكم أهميتها التجارية ظلت خارج سيطرة نفوذ الدولة اليمنية أو الحميرية وقتها واتسعت السيطرة الحبشية في أوجها لتشمل سواحل جيزان شمالاً وحتى عدن جنوباً. الثانية : مرحلة ممتدة من النصف الثاني للقرن الرابع الميلادي وحتى الربع الأول من القرن السادس الميلادي وفيها استمر النفوذ الحبشي خلال هذه المرحلة وبمستويات مختلفة في المنطقة الساحلية الغربية لليمن غير أن الدولة الحميرية تمكنت من استعادة قوتها وحضورها في الإقليم والعالم ونشطت الحركة التجارية والعلاقات السياسية ، وقد أدى التسامح الذي أبدته الدولة الحميرية لأغراض اقتصادية بحتة إلى بروز جالية مسيحية حبشية ورومانية إضافة إلى اعتناق يمنيين للمسيحية كل ذلك أدى إلى نفوذ كبير للأحباش والرومان على حساب حضور الدولة اليمنية وقوتها. عادت الغزوات الحبشية للساحل الغربي مستفيدة من تعاون المسيحيين اليمنيين ومن الخلافات اليمنية اليمنية وبدأت المقاومة اليمنية لتلك الغزوات وتطهير البلاد من الطابور الخامس سيما على يد الملك يوسف أسأر يثأر وبعد تلقي الأحباش وأتباعهم خسائر كبيرة في ثورة يوسف أسأر أثأر تؤكد الكثير من المصادر منها الغربية والعربية أن قضاء الملك الحميري على أتباع الحبشة كان وراء تحرك بيزنطه التي دفعت بالحبشة إلى تجهيز حملة عسكرية كبيرة قدمت عبر البحر ووصلت إلى المناطق الساحلية بين المخا وباب المندب. المرحلة الثالثة : منذ هزيمة ذي نواس 525م ودخول الحملة الحبشية الكبيرة والتي تمكنت من السيطرة على عدد من المدن وتدمير القصور والقلاع وإشاعة الخراب وبث الفوضى واستمرا المقاومة اليمنية واشتعالها حتى 575م حين تمكن اليمنيون من طرد الأحباش وهزيمتهم لتدخل اليمن في مرحلة جديدة. وخلال المرحلة الثالثة التي يطلق عليها الكثير من المؤرخين الاحتلال الثاني حدثت ثورات أهمها ثورة الأقيال بقيادة يزيد بن كبشة وثورة ضد أبرهة في مأرب الذي تمكن من الإطاحة بالملك اليمني الصوري التابع للأحباش وكذلك القضاء على قائد قوات الحبشة أرياط ونصَّب نفسه ملكاً على اليمن وتلقب بلقب الملوك الحميريين وحدثت قصة الحملة العسكرية المتجهة صوب مكة حتى قُتل أبرهة وتولى بعده ابنه يكسوم فمسروق وفي عهد الأخير طُرد الأحباش من اليمن. ومما يمكن الاستفادة منه من خلال قراءة تلك المراحل الثلاث وما كتب عنها استنادا إلى النقوش والآثار وما نقل عبر الإخباريين ما يلي : خلافات اليمنيين أو بالأصح الممالك والدويلات كانت من أهم العوامل المساعدة للأجنبي في تحقيق أهدافه وبلوغ الأرض اليمنية وإدارة الصراع بين تلك الممالك فقد كان الخلاف بين سبأ وحضرموت من جهة والقوة الصاعدة وقتها الريدانيين وهم حمير من جهة ثانية إضافة إلى تطلع مراكز نفوذ أخرى للحكم كهمدان هذا في المرحلة الأولى وتكررت بقوى أخرى في المرحلة الثانية. إن كل تلك المراكز سرعان ما اتحدت ضد الأحباش بعد أن تأكد لها أن مملكة أكسوم تعمل على إدارة واستغلال الصراع بين كل تلك القوى فتارة تتحالف مع سبأ ضد حمير وتارة مع حمير ضد سبأ ومع أقيال ضد آخرين وهكذا . إن الممالك أو الدويلات اليمنية وقتها انشغلت بالصراعات فيما بينها فتركت أمر البحر وتخلت عن مهامها في تعزيز القوة العسكرية البحرية إذ يرى بعض المؤرخين أن عدم امتلاك الدولة الحميرية وقتها أسطولا بحرياً كان من أهم العوامل المساعدة للأحباش في السيطرة على الساحل الغربي ... والإهمال هنا لا يعود بحسب ما نعتقد إلى قصور في الرؤية بل إلى أولويات أخرى رأت مراكز الحكم وقتها أنها أكثر أهمية من غيرها، فالصراع الداخلي والغزوات وإخضاع المناطق وبسط السيطرة تصدر قائمة الأولويات يليه الوضع العمراني والزراعي.. ثم إن تاريخ الممالك اليمنية القديمة يؤكد أنها كانت المسيطرة على طرق التجارة البحرية وكان اليمنيون من يتحكمون بالبحرين الأحمر والعربي وأجزاء من المحيط الهندي وكانت السفن والبضائع لا تمر من باب المندب إلا بعد أن تأخذ موافقة اليمنيين وهذا الاهتمام بالبحر تضاءل بعد الميلاد سيما بعد الحملة الرومانية وضعف الممالك القديمة. إن اليمنيين لم يتوقفوا عن الثورة ضد الاحتلال حتى في تلك اللحظة التي حاول فيها المحتل أن يصور لهم أن هناك روابط تجمعهم ،فها هو أبرهة رغم ادعائه أنه ملك اليمن وتلقب بلقب الملوك الحميريين وأعاد بناء سد مأرب وأعلن انفصاله عن مملكة أكسوم إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى توقف الثورة ضده ،ويقول بعض المؤرخين إن الأحباش القادمين إلى اليمن ادعوا أن أصولهم يمنية وذلك لتبرير حكمهم لليمن وسيطرتهم عليه ثم إن محاولة أبرهه الانفصال باليمن عن مملكة أكسوم يعود إلى أن خيرات اليمن كانت تكفي لإقامة إمبراطورية مستقلة فاليمن وقتها كان يمتلك الثروات والعوامل والأسباب المؤهلة لنشوء دولة قوية كالزراعة والموقع الجغرافي والشعب. فتح المجال للتبشير الديني أو الغزو الثقافي كارثة كبيرة على الكيان الوطني ومقدمة للاحتلال العسكري فنشر الدين أمر ثانوي في جميع الحركات التبشيرية ولا غرو فالمبشر يسبق الجيش إلى كل مكان . بقاء الاحتلال الحبشي واستمراره لسنوات لا يعود إلى قوة الأحباش بل إلى وقوف جزء من اليمنيين مع المحتل الذي كان يستخدم عملاءه وأتباعه في القضاء على الثوار وتبرير بقائه وشرعنة حكمه وهو ما ساهم في إضعاف الروح المعنوية للثوار ودفعهم للبحث عن وسائل تضمن حسم المعركة بشكل سريع.