شكل الإنسان والعقل البشري على مر التاريخ مركزا لهذا الكون على اعتبار أن الإنسان هو "الكائن المقدس" الذي أقيمت له السماوات والأرض وسجدت له الملائكة وأسند بالآيات المشهودة والمقروءة وسخرت له كل الثروات حيث قال الله سبحانه وتعالى" ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات والأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة"-سورة لقمان19- وكان أول ما خلق الله فيه هو العقل فكان الإنسان بسداد عقله وسمو أخلاقه ثروة يسمو عن باقي الثروات الأخرى لأنه الأصل. وما يلفت الانتباه اليوم داخل المشهد العراقي المعقد والمتداخل المتغيرات هو تنامي ظاهرة اغتيال العقول والكفاءات العراقية من كل التخصصات، إذ بلغ عدد الأطر العليا من الأساتذة العراقيين المنتمين لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي الذين تم اغتيالهم منذ بداية احتلال العراق 169 أستاذ دون الحديث عن خبراء النفط والطب والهندسة الذين يحاضرون في الجامعات ويشرفون على بحوت الدراسات العليا حسب الإحصاء الأخير لرابطة الأساتذة العراقيين، بالإضافة إلى تصفية 426 طبيب من بينهم 108 أطباء ذوي الكفاءات العالية ليصبح مجموع الكفاءات والعقول العراقية التي تم اغتيالها 595 عراقي. وحسب التقرير الذي صدر عن الرابطة فإن عمليات الاغتيال استهدفت بالأساس العقول العلمية وذوي التخصصات الدقيقة حيث اغتيل قبل أيام قليلة عالم الذرة العراقي الدكتور"ماجد الجنادي" في المحمودية، وقد تركزت هذه العمليات على أساتذة وأطر متخصصة في الفيزياء النووي والكيمياء والهندسة والعلوم السياسية والإسلامية والاقتصاد والميكانيكا والجيولوجيا والزراعة وغيرها. وإذا كانت بعض المؤشرات الثانوية تشير إلى تورط عصابات الجريمة التي لا تهدف إلا إلى جلب الربح والتي يقتصر عملها في غالب الأحيان على أصحاب المحلات التجارية "السوبرماركت" بالإضافة إلى حضور الاعتبار الطائفي المتمركز في غالب الأحيان داخل جامعة البصرة والمستنصرية والموصل، فإن دراسة استطلاعية قامت بها بعض الجامعات العراقية نظمت من طرف"منظمة حمورابي" ومنظمة التنمية المستديمة في بغداد والمعهد العالي للإدارة كشفت عن تورط الموساد الإسرائيلي بتعاون مع الاحتلال الأمريكي الأمر الذي تم تأكيده من طرف اللواء" رشيد افليح" قائد قوات المغاوير في وزارة الداخلية العراقية حيث كشف في تقرير قدمه للداخلية العراقية مطلع العام الجاري أن عناصر أجنبية دخيلة سهلت لعناصر الاحتلال عملياتها باستهداف أساتذة وكفاءات عراقية ليصبح بذلك مؤشر اغتيال واستهداف الكفاءات والطاقات العلمية أحد المتغيرات الأساسية في المعادلة السياسية والحضارية داخل المشهد العراقي. أما الأطر التي لم تطلها يد التصفية والقتل فقد انتظمت في حركة الهجرة القسرية بسبب تهديدها عن طريق المكالمات الهاتفية المطالبة لها بمغادرتها للعراق أو عن طريق إرسال رسائل مصحوبة برصاصة الشئ الذي جعل حركة هجرة الأساتذة العراقيين نحو الدول العربية تتسارع في الآونة الخيرة، حيث بلغت حتى الآن نسبة الأساتذة المهاجرين قسريا حوالي 7000 من الأساتذة من العراق بحثا عن الأمن والأمان ولقمة العيش. لكن الأمر الذي يخلق التساؤل ويثير الاستغراب هو لماذا تستهدف هذه الثروات والطاقات البشرية العلمية البعيدة في أغلبها عن الانتماء المذهبي والتوجه السياسي ميزتها الوحيدة هي التميز العلمي والنبوغ المعرفي والانتماء الوطني؟. فالتهمة بذلك وإن كانت تتوزع على أكثر من طرف وأن الكل أصبح ضد الكل والبعض منهم يتهم أطرافا داخلية مرتبطة بالخارج لتصفية حسابات قديمة وآخرون يتهمون أطرافا خارجية معارضة لتطور العراق العلمي والحضاري من دون استبعاد عصابات الجريمة المنظمة ناهيك عن من يتهم عناصر من النظام السابق بتدبير ما يحدث لطمس أسرار كثيرة أو شل آلة النظام الجديد، لكن يبقى الواقع مؤلم والأرقام مخيفة والمستقبل مجهول ينتظر عقولا يطاردها أشباح، فالجريمة مستمرة والضحايا لا حول ولا قوة والفاعل حر طليق والأسئلة حائرة. عزيز العطاتري المغرب [email protected]