يثير الباحثون في تاريخ الحضارات الإنسانية كثيراً من الجدل حول طبيعة الحروب والصراعات التي عاشتها الحضارات القديمة فيما إذا كانت من أجل الثروة أم المعرفة، فالشواهد الأثرية التي وصلتنا تؤكد ما كانت عليه تلك الحضارات من رقي وعظمة في العمران والفنون والصناعات، وحتى التشريعات القانونية كما هو حال «مسلة حمورابي» في بابل، أو بعض الشرائع الفرعونية. وحين تقف البشرية اليوم أمام الأهرامات أو الجنائن المعلّقة فإنها تعدها من «عجائب الدنيا السبع»ومازالت تجد نفسها عاجزة عن حل ألغازها.. لذلك يرجح الباحثون أن تكون «المعرفة» هي المحور الذي دارت حوله معظم الصراعات القديمة، ويحاججون بما فعله «هولاكو» حين غزا بغداد وأحرق جميع مكتباتها، وبما فعله الاحتلال الأمريكي للعراق حين أطلق أبواب متاحفها للنهب، وسلط على الجامعات من يحرق مكتباتها، ومراكز بحوثها، بل ويغتال كبار العلماء وأساتذة الجامعات والعقول العراقية. ورغم ما يدعيه الباحثون بأن صراعات القرون الوسطى كانت من أجل «الثروة» إلا أنهم في نفس الوقت لا ينكرون أن العالم العربي والإسلامي تعرض لأوسع نهب لمؤلفاته وعلومه، وأن كثيراً مما وصلت إليه أوروبا مبني أساساً على ما توصلت إليه تلك المؤلفات. ولكن السؤال المثار اليوم هو : هل يعيش عصرنا الحالي حروب «معرفة» رغم ثورة تقنية المعلومات ؟ وأين نحن من هذه الثورة ؟ في الأعوام الأخيرة ظهر توجه في اليمن بالاهتمام بالنوع وليس الكم في مخرجات التعليم العالي، بقصد مواكبة عصر الحداثة.. كما باشرت وزارة التعليم العالي ربط جامعاتها بشبكة الكترونية واسعة، وبدأت تتوجه لأول مرة نحو التبادل المعرفي الإلكتروني، في نفس الوقت الذي دخلت تقنية المعلومات مختلف المؤسسات الحكومية والأهلية، وشاعت صحافة الانترنت، ومختلف التقنيات المعرفية. لا شك أن فضاء المعلومة المفتوح بدأ بالتفاعل مع الحياة اليمنية بقوة، وبات أثره ملموساً في اجتثاث كثير من الموروثات البالية.. لكن هذا لا يبدو كافياً أبداً في زمن الحروب الالكترونية.. إذ إن من الغريب أن يتزامن الرهان النوعي للجامعات اليمنية مع الاستغناء عن العقول العربية والأجنبية العاملة في الجامعات خاصة العلمية. لا نختلف أن ظروف البلد الاقتصادية، والأزمة المالية العالمية تدفع الحكومة للتسريع بسياسة «اليمننة» إلا أننا نختلف كثيراً حين تبقى العمالة غير اليمنية تزداد في مختلف القطاعات الخدمية بينما تتقلص وتقترب من التلاشي في المجالات الأكاديمية الدقيقة التي هي أصلاً مصانع العقول العلمية، وبالتالي فإن من المهم جداً الالتفات إلى أن «المعرفة» هي مضمار حروب العصر، واننا بحاجة إلى صناعة عقول يمنية متفوقة على حاضرها سواء من خلال الإعداد الجامعي النوعي، أو الابتعاث الخارجي للمتميزين في الحقول العلمية خاصة وأن المجلس الأعلى للجامعات سبق أن أقر تقليص المبتعثين مقابل التركيز على ايفاد الأوائل لكبرى الجامعات العالمية. لا بأس ان نستفيد من بعض العقول العربية في الجامعات طالما وأن رهان الاقتصاد بات مقترناً بحسابات المعرفة، ولا يمكن تجاوز أي أزمة اقتصادية بغير عقول وطنية.