إذا كان قد تصدر مبررات احتلال العراق عام 2003 امتلاك نظام "صدام حسين" أسلحة كيميائية محرمة، فقد كان من المبررات التي دُغدغت بها مشاعر شعوب العالم سعي الولاياتالمتحدة إلى تخليص الطوائف والقوميات العراقية ممَّا يقع على كواهلها من مظالم، لكن الحقيقة المرَّة أن ظلم حامية حمى الحرية أمريكا كان أشد وأنكى، فقد ارتكبت قواتها ضد الشعب العراقي من المجازر البشعة ما لم يرتكب عبر الحقب، وقد قضى على أيدي تلك القوات الغازية أكثر من مليون ونصف المليون من العراقيين جُلُّهم من المدنيين، بالإضافة إلى الكثير من الجرحى الذين بلغت أعداهم الملايين. تواطؤات أمريكية مع الفئة الكردية لقد كانت مدة ثلاثة عشر عامًا من الاحتلال الأمريكي للعراق كفيلة ببذر بذور الشقاق إلى مستوى لا يطاق، فقد عملت عبر فرق اغتيالات على توسيع الهوة بين السنة والشيعة حتى بلغت بينهما العداوة والبغضاء مستويات فظيعة. وما أن اطمأنت على إيصال الطائفتين إلى حافة الاقتتال حتى انصرفت باهتمامها إلى التحالف مع الفئة الكردية بذريعة أنها أقلية عددية، وفي غمرة انهماك النخب السنية والشيعية في استنبات ما بذر بينهما من بذور الشقاق دفعت أمريكا بالنخب الكردية لإطلاق الشعارات المطالبة باستقلال (كردستان العراق)، ولم تزل جغرافية ذلك الإقليم الغني بالثروة النفطية تحظى بالمساندة الأمريكية حتى مُنحت حق الحكم الذاتي الكامل الصلاحية، بل لقد فازت -في ظل خضوع عملية تقاسم المناصب المركزية لنظام المحاصصة- بمنصب الرئاسة. وفي تجاوز من الإدارة الأمريكية لشروط أنظمة الحكم الفدرالية سعت أمريكا لدعم أكراد العراق عسكريًّا إلى درجة مذهلة كما لو كان إقليم (كردستان العراق) دولة مستقلة، فقد أورد المحلل السياسي "عماد عنان" -في فبراير 2017م- ضمن تقرير له عن تبني الأكراد من قبل الأمريكان: (تم الكشف عن أكبر صفقة تسليح تقدمها أمريكا للقوات الكردية بالعراق، وذلك حين وافقت على بيع أسلحة ومعدات بقيمة 295.6 مليون دولار لوحدات البيشمركة الكردية التابعة لإقليم كردستان العراق)، (وهو ما اعتبره سياسيون عراقيون في بغداد تجاوزاً على السيادة العراقية، لا سيما أن تسليح قوات "البشمركة" يفترض أن يصدر عن بغداد، فيما أشار آخرون إلى أن القوات الأميركية قد تتخذ من إقليم كردستان منطلقاً لعملياتها واستقرارها ودعم نفوذها في المنطقة). ومن ناحية ثانية (فقد أفاد عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي "كاطع الركابي" -في حديثٍ ل"العربي الجديد"- أن كل الإجراءات الأمنية التي تتخذها حكومة إقليم كردستان، وقوات البشمركة، وما يرتبط بالقوات العسكرية التي توجد فيها القوات الأجنبية وتحديداً الأميركية، تجرى من دون علم الحكومة العراقية). وبحسب المعطيات الميدانية فقد أسهمت تلك الصفقة وما سبقها وما لحقها من صفقات تسليحية في تمكين الإقليم من بناء قوات مسلحة (البشمركة الكردية) التي باتت على قدر من الندية مع القوات المسلحة المركزية للجمهورية العراقية التي لم تكن نخبها السياسية لتقبل بحصول هذه الإجراءات التي تتعارض مع المصلحة الوطنية لولا ما تُدين به للهيمنة الأمريكية من التبعية. وقد كانت المُحاباة الأمريكية لذلك الحليف الضعيف وراء ما كان من تطاوله على هيبة الدولة، فقد جاء في تقرير "عنان" ما يؤكد استقواء حكومة أربيل بالأمريكان: (وتأتي حادثة رفع العلم الكردي على كركوكالعراقية لتجسد سياسة الاستحواذ بالاعتماد على منطق القوة، ورغم الانتقادات الداخلية والخارجية التي قوبلت بها، فإن حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" وحكومة إقليم كردستان رفضوا إنزال العلم أو التفاوض حول تلك القضية)، على اعتبار أن كردية "كركوك" مسألة منتهية. وقد أقدمت حكومة كردستان -بالاستقواء بالأمريكان- على هذا الإجراء استباقًا لما كان قد تقرر من عملية استفتاء تتحدد على ضوء نتائجه هوية المحافظة التي تقطنها أقليات من القوميات والطوائف العراقية بنسب متفاوتة تصدرتها -على مرِّ الأزمنة- طائفة العرب السنة. دور كردستان الآن في تهديد إيران على الرغم ممَّا يكتنف العلاقات العراقيةالأمريكية -في الوقت الراهن- من الضبابية، إلاَّ أن من الواضح أن الإدارات الأمريكية بما فيها الإدارة الترمبية قد اكتفت بإغراق محافظاته الوسطى والجنوبية بمستنقع الخلافات المذهبية التي لا تفتأ تسهم في استمرار شحذ الأسنَّة بين الشيعة والسنَّة، حتى تتفرغ -بدورها- لتدبُّر أمرها في شمال البلاد مع حلفائها الأكراد الذين حازوا -في حساباتها الكلية- على قدر من أفضلية، كونهم الفئة الأكثر قابلية لتنفيذ بعض مشاريعهم الإقليمية الحالية والمستقبلية، إذ لا يستبعد أن تضم جغرافية كردستان أكثر القواعد العسكرية الأمريكية المكلفة برصد وقصف أهداف استراتيجية داخل أراضي عدوة أمريكا الحميمة إيران، فقد (كشفت مصادر عسكرية عراقية في العاصمة بغداد - بحسب موقع العربي الجديد- معلومات عن إجراء القوات الأميركية في قاعدة حرير، شمالي أربيل، في إقليم كردستان العراق، أعمال توسيع داخل القاعدة في الشهرين الماضيين، هي الأولى من نوعها منذ سنوات، وتضمنت الأعمال زيادة السعة الاستيعابية، فضلاً عن إجراء تحصينات داخل القاعدة، في خطوة قد تثير توتراً جديداً بين الأكراد والإيرانيين الذين يضغطون بشكلٍ جاد باتجاه إخراج القوات الأميركية من البلاد. ووفقاً لأحد ضباط مديرية الاستخبارات العسكرية بوزارة الدفاع في بغداد، فإن الأعمال شملت تشييد ملاجئ تحت الأرض ومستودعات وأماكن مبيت داخل الحرم الرئيسي للقاعدة). وكأني بهذه القاعدة العسكرية المهمة تهيأ لتنفيذ مهمة في الأيام أو الأسابيع أو الشهور القليلة القادمة. فهل يمكن أن تكون كردستان للأمريكان ضد إيران -كما بات واضحا- بمثابة (مسمار جحا)؟! وهل يمكن أن تتخذ إدارة "بايدن" من القواعد العسكرية الأمريكية في إقليم كردستان وسيلة لإقلاق حاضر ومستقبل طهران التي لم تتضح سياستها إزاءها إلى حدٍّ الآن؟!