كان اغلاق مضيق باب المندب الضربة الاستراتيجية المحكمة التي قطع بها الطريق على احلام التوسعات الصهيونية في اتجاه جنوب البحر الاحمر وفي اتجاه الجزر والشواطئ اليمنية لإقامة قواعد عسكرية تمكنه من السيطرة على باب المندب وتعطيل القدرة اليمنية على التحكم فيه . لقد احتلت عملية حصار واغلاق مضيق باب المندب بوجه الملاحة الصهيونية موقعا بارزا في ساحة حرب 1973م . ودخلت تلك العملية تاريخ الحرب الرابعة العربية - الصهيونية من أوسع الابواب . فإغلاقه الغى أهمية خليج العقبة وميناء إيلات الصهيوني جملة وتفصيلا وأثر تأثيرا بالغا وخطير على الوجود الصهيوني نفسه . حيث أصبح الكيان كله محاصر بحريا الأمر الذى سبب له أكبر الخسائر اقتصاديا ومعنويا وسياسيا وأدى الحصار الى حرمانه من تصدير منتجاته إلى آسيا وأفريقيا وأستراليا وتم عزله عن العالم مما جعله يستخدم طريق رأس الرجاء الصالح. الموقف اليمني يعتبر باب المندب كواحد من الشواهد الطبيعية والمادية الصلبة على وحدة اليمن التي لا تقبل التجزئة أو التقسيم . وتأتي أهمية ودور الموقف اليمني - بشطريه آنذاك - بالوقوف والمساندة بحرب 6 أكتوبر 1973م إلى جانب الاشقاء العرب . فقد بعث الرئيس القاضي عبدالرحمن الأرياني مذكرة إلى الحكومة المصرية قال فيها : ( أن الجمهورية العربية اليمنية تعتبر باب المندب جزءاً من المعركة وأنها تضع كل سيطرتها على الموقع تحت تصرف القيادة المصرية ) وأثناء زيارة رئيس مجلس القيادة في صنعاء المقدم إبراهيم الحمدي للقاهرة في مطلع مارس 1976م ذكر دور صنعاء في حصار باب المندب بقوله : ( أن دور اليمن في حرب أكتوبر معروف ويكفى أننا ساهمنا في فرض حصار على مرور السفن الصهيونية عبر باب المندب كما قمنا بكل ما نستطيع في حدود قدراتنا المتواضعة ) . وفيما جاء في خطاب الرئيس سالم ربيع علي ( نحن بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مستعدون للدعم والمساعدة حسب الامكانيات التي لدينا ... وأن هذه المعركة هي معركة مصيرية وأنها ليست معركة البلدان التي احتلت اراضيها بقدر ما هي معركة الأمة العربية كلها ونحن جزء من الأمة العربية ... وعلى استعداد لتقديم المقاتلين الذين سيقدمون دمائهم فداء لمعركة التحرير ). وبمناسبة الذكرى العاشرة لثورة 14 أكتوبر المجيدة أكد عبدالفتاح اسماعيل (أن تحركات الكيان لاحتلال الجزر اليمنية تؤكد طبيعته العدوانية والتوسعية كأداة للإمبريالية والصهيونية العالمية في الوطن العربي وتؤكد أيضا أن عدوانه الغاشم على الأراضي المصرية والسورية لا ينفصل عن أطماعه لاحتلال جزرنا اليمنية في جنوب البحر الأحمر ... فلقد أكدت التحركات الصهيونية في جنوب البحر الأحمر أن أسرائيل في مخططها ترمي المساس بسيادة الشعب اليمني واستقلال الوطن ). فيما صرح رئيس وزراء عدن علي ناصر محمد أن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية اذ تعرب عن تضامنها الكامل مع الجماهير العربية في مصر وسوريا والمقاومة الفلسطينية فأنها انطلاقا من واجبها القومي قد أكدت عن وضع أمكانياتها المتواضعة في معركة المصير العربي ضد العدو الصهيوني ) . وفي تصريح وزير خارجية اليمن الشعبية محمد صالح مطيع الذي ادلى به في بيروت في 14 نوفمبر 1973م عن مشاركة اليمن الديمقراطية في عملية الحصار من خلال قواتها المتواجدة في جزيرة بريم . ورقة قوية شكل إغلاق باب المندب ورقة قوية بيد مصر والذي كان أحد المواضيع الهامة التي تناولها حديث أنور السادات وهنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا خلال زيارته للقاهرة بين 7- 8 نوفمبر 1973م . فالاتفاق على النقاط الست لوقف إطلاق النار الذي اسفرت عن رحلة كيسنجر إلى القاهرة والتي قبلت به مصر والكيان ووقعتا عليه تحت أشراف الأممالمتحدة في 11 نوفمبر 1973م لم يشر على الاطلاق إلى موضوع باب المندب الذي يشكل قبضة خانقة على ميناء إيلات الصهيوني ومتنفس إسرائيل على الشرق الاوسط والاقصى ومن ذلك ما نشرته ( لوموند ) الفرنسية من أن ( القلق الذى يسيطر على إسرائيل بشأن الاتفاق على ترتيبات وقف إطلاق النار يرجع إلى أن هذه الترتيبات لا تشمل أي نص يشير من قريب أو بعيد إلى الحصار المصري المفروض على باب المندب ) . فيما صرح عبدالعزيز حسين وزير الدولة الكويتي أن إعادة فتح مضيق باب المندب يدخل في نطاق الوسائل الناجحة التي يمتلكها الجانب العربي من أجل اقرار السلام العادل الذى ينشده ) . وكانت حكومة مائير قد طلبت من الولاياتالمتحدة ان ينص الاتفاق على انهاء الحصار المصري لباب المندب غير أن مصر لم توافق على ذلك ) ولذلك فان النقاط الست كما ذكرت وكالة الاسوشيتدبرس لا تتضمن أي تنازل من جانب مصر فيما يتعلق برفع الحصار البحري الذي تفرضه على مضيق باب المندب ) ولهذا السبب كان الكيان يرغب في آخر لحظة قبل اعلان الاتفاق تغيير موقفه من موضوع الاتفاق لأنه لم يتضمن النص على انهاء الحصار البحري الذي فرضه الاسطول المصري على باب المندب ) واوضحت مصادر الحكومة الصهيونية أن مجلس الوزراء الصهيوني بعد اجتماعه (ابدى عددا من التحفظات التي تسبب له قلقا بالغا اولها ان الاتفاق لم يشر من قريب أو بعيد لموضوع الحصار البحري الذي يفرضه الاسطول المصري عند مضيق باب المندب وهو الحصار الذي اصاب الملاحة الاسرائيلية من والي ايلات بالشلل التام ) وبعد ان فقدت مائير الأمل مع السفير الامريكي في احتمال انهاء حصار باب المندب قبل التقدم في طريق التسوية فأعلنت (ان القضية الملحة ليست قضية باب المندب بقدر ما هي قضية الانسحاب إلى خطوط 22 اكتوبر ) . ومع ذلك ظلت مجموعة الليكود الصهيونية المعارضة عند رأيها بالتصويت ضد قبول الاتفاق الخاص بترتيب وقف اطلاق النار لأنه خلا من التزام مصري بإنهاء حصار مضيق باب المندب , كما سارت في نفس الوقت مظاهرة في تل ابيب حاملة عريضة وقع عليها ثلاثة آلاف شخص تنتقد ايضا قبول حكومتهم الاتفاق لأنه لم يتضمن من جملة ما كان ينبغي ان يتضمنه (رفع مصر حصارها لباب المندب) واثناء مؤتمرها الصحفي في لندن طالبت مائير مصر (برفع الحصار عن باب المندب تعبيرا عن حسن النية !!) . ولهذا وصفت بعض المصادر الغربية بقولها اذا ما مضت الامور في طريق الحل الشامل للمشكلة فان مصر تكون قد أجادت اللعب بورقة باب المندب إلى اقصى حد . قبضة خانقة وبدأ صراخ الكيان الصهيوني ومطالبة حلفائه واصدقائه بضرورة انهاء الحصار المصري المفروض على مضيق باب المندب ومن تلك التصريحات المتشنجة التي ادلت بها جولدا مائير رئيسة وزراء الكيان في أمريكا أن اغلاق باب المندب يشكل مشكلة صعبة جدا . ولقد كانت عملية اغلاق باب المندب من الخطورة الى حد أن الاوساط الاستعمارية طالبت برفع ما يسمى بالحصار الصهيوني للجيش المصري الثالث مقابل رفع الحصار المضروب فعلا على باب المندب وان يكون ذلك ضمن عملية انسحاب الكيان من الضفة الغربية لقناة السويس. وما نشرته صحيفة معاريف الصهيونية من (ان كيسنجر لم يكف طوال محادثاته مع جولدا مائير عن الاصرار على رضوخ اسرائيل لمسألة الانسحاب الى خطوط 22 اكتوبر مقابل حدوث اتفاق على موضوع الاسرى ورفع حصار باب المندب). كما وصف ابا ابيان وزير خارجية الكيان (حصار القوات المصرية لباب المندب بأنه خطير جدا اذا لم يتم حل ازمة الشرق الاوسط فورا حلا سياسيا) . فلقد كانت القفزة العملاقة التي رسخت بها مصر اقدامها في سيناء بسبب قبضتها على عنق البحر الاحمر في باب المندب وفي هذا لعب ايضا حصار باب المندب دورا بارزا يفوق مجرد كونه عنصر ضغط على الملاحة الصهيونية لقد لعب دورا عسكريا واقتصاديا وسياسيا في وقت واحد لقد اسهم بقسط وافر في تحريك القضية برمتها حتي ارتبط رفع الحصار عنه بتنفيذ الشروط الممهدة لمعالجة المعضلة من اساساها. حيث يترتب على أي اخلال او تهرب الكيان الصهيوني من السير نحو حل حقيقي كامل لمشكلة الشرق الاوسط بما فيها القضية الفلسطينية تشديد عملية الحصار على باب المندب وجعلها اكثر شمولية واحكاما . خسائر فادحة وقد ظهرت أثار الحصار على الفور حيث اعلنت سلطات ميناء ايلات أن 13 سفينة شحن قد احتجزت في ميناء ايلات بسبب الحصار المصري على مضيق باب المندب عند مدخل البحر الاحمر الجنوبي وأن أجمالي خسائر الكيان الصهيوني نتيجة اغلاق باب المندب تمثلت في توقف العمل التام في ميناء ايلات وخسرت ملايين الدولارات وتعطل أكثر من 30 ألف عامل وفني وان صناعة وتكرير البترول تدر على الكيان حوالي 714 مليون دولار وتحصل الكيان على 100 مليون كضرائب على البترول المار عبر الانبوب الممتد من ايلات على البحر الاحمر إلى اشدود الاسرائيلي على البحر المتوسط ونتيجة لإغلاق باب المندب توقفت مصفاتان لتكرير البترول وتصديره لأوروبا الاولى في حيفا والثانية في اشدود وثالثة كانت تحت الانشاء في سيناءالمحتلة , وتوقفت الطريق البري السريع والمزدوج الممتد من ايلات إلى عسقلان على البحر المتوسط ومنعت 500 ناقلة بترول حمولة كل منها 80 ألف طن الوصول ايلات وكذلك 400 باخرة شحن بضائع ومنع 30 % من صادرات اسرائيل من الحمضيات المصدرة للشرق الاقصى وتوقفت 50% من الانتاج الصهيوني من الفوسفات والنحاس والاسمنت المصدر لليابان وبعض دول الشرق الاقصى والدول الافريقية . وكانت اسرائيل بعد اغلاق قناة السويس قد انشأت خط أنابيب ليحمل البترول من مصادره في الجنوب إلى الشمال على البحر المتوسط ثم يعاد شحنه بناقلات البترول إلى اوروبا وإلى مناطق اخرى وهذا الخط الذي ينقل 40 مليون طن سنويا من البترول الخام القادم من إيران والذى سيرتفع إلى 60 مليون طن حسب التقديرات لذلك العام يدر على الكيان مبلغ 100 مليون دولار سنويا. ونتيجة للحصار المضروب حول باب المندب فأن ذلك الأنبوب قد جف منه البترول. ان هذا الوضع الحرج الذي وجد الكيان نفسه فيه يفسر موقف هولندا التي قامت بمد الكيان الصهيوني بالبترول المكرر لسد العجز لديها نتيجة حصار باب المندب الذي بدأ مع اليوم الأول للمعارك . ولو لم يكن البترول القادم من هولندا – ومن المفارقات انه بترول عربي في الاساس – وكذلك البترول الذى امد به الاسطول السادس الامريكي في البحر المتوسط لتوقفت آلة الحرب للكيان الصهيوني بعد اسبوع من القتال لعدم وجود الوقود الكافي لتسييرها ). مفتاح النصر ولأول مرة في تاريخ المنطقة يتصدر مضيق باب المندب نشرات واذاعات العالم العربي والخارجي منذ غدا بعملية الحصار الجريئة والناجحة التي تمت فيه , وبذلك فانه يكون قد لعب دورا بالغ القيمة والاهمية والاثر الكبير في تلك الحرب فان عملية اغلاق باب المندب كانت من انجح العمليات العسكرية وتصحيح لمحاولة 1967م غير الناجحة في اغلاق خليج العقبة , فإغلاق باب المندب في اكتوبر 1973م اقفل ايضا خليج العقبة وبطلت اهمية تواجد شرم الشيخ في يد الصهاينة وفقد ميناء ايلات قيمته وعزل الكيان الصهيوني عن افريقيا وآسيا واستراليا وسدت احدى رئاته التي كان يتنفس بها هواء الشرق وقطع شريان اتصاله التجاري بالعالم القديم وحرم من كل قطرة بترول من الشرق الاوسط وحكم عليها بالعزلة والاختناق واضطرت سفنه إلى الدوران حول رأس الرجاء الصالح كما كان يحدث ذلك لسفن الدول الاوروبية قبل حفر قناة السويس . فقد صرح موشى كاشتى مدير شركة (زيم ) الصهيونية للملاحة بان حكومته اضطرت لتحويل السفن المتجهة إلى ايلات حول رأس الرجاء الصالح إلى موانئ اسرائيل على البحر المتوسط . وان الحصار المصري على مضيق باب المندب ادى إلى تكدس البضائع في ميناء حيفا). كما صرح الجنرال بيبيد قائد الامداد الصهيوني السابق في حرب 1967م بان ( اغلاق البحرية المصرية لباب المندب يؤكد ان وجود اسرائيل في شرم الشيخ ليس هو الضمان لحرية الملاحة من وإلى ايلات ) اما جولد مائير رئيسة الوزراء فإنها عدته هدفا استراتيجيا بعد اتمام تبادل اسرى الحرب ينبغي التركيز عليه من أجل وضع النهاية السريعة لحصار باب المندب ) . وهكذا اصبح مضيق باب المندب جزأ لا يتجزأ من مشكلة الشرق الاوسط كما أصبح احدى ساحات المعركة القومية الشاملة واحد ميادين العمليات الحربية التي لا يمكن الاقتراب منها بالنسبة للطرف الداخل في حالة حرب مع العرب واحد الممرات العربية التي يمكن التحكم فيها في أي وقت . وقد اشار لتلك الأهمية وزير الحربية المصري والقائد العام للجبهة المصرية – السورية ابان الحرب الفريق أول احمد اسماعيل بقوله ( ان الحرب اثبتت بطريقة قاطعة ان شرم الشيخ ليست لها الاهمية الكبرى التي كانت اسرائيل تظنها وتبنى عليها مطامعها في سيناء , ان شرم الشيخ لم تعد مفتاح ايلات وانما نزل المفتاح إلى أقصى الجنوب عندما اكتشفنا استراتيجية عربية للبحر الاحمر قررنا بمقتضاها قفل باب المندب ) حتى ان الأوساط الصهيونية الخبيرة لم تستطع تجاهل ذلك والتي لم تملك الا الاقرار بخطورة ما غدت تمثله عملية باب المندب حتى بالنسبة لما يسمى نظرية الأمن الصهيوني وما يسمى الحدود الآمنة حيث يقول بعض الاستراتيجيين الإسرائيليين ( ان نجاح المصريين في تقييد الملاحة في ميناء ايلات بحصار باب المندب في الطرف الجنوبي للبحر الاحمر يثبت أن شرم الشيخ لم تعد تعتبر حيوية بالنسبة لأمننا كما كان يعتقد من قبل ).