اخطر مخططات استعمارية كشفتها الوثائق البريطانية، فالمحتلون لم يكتفوا بتقسيم اليمن وتجزئتها فحسب بل ذهبوا إلى ما هو ابعد من ذلك . حيث اظهرت تلك الوثائق مشروع استعماري مستقبلي تتعرض له اليمن بدا من احتلال جنوبها ومن ثم مرورا بالسيطرة على كافة المناطق الساحلية لحرمانها من منافذ للبحر وجعلها دولة داخلية جبلية وتغيير مفهومها الجغرافي والتاريخي والثقافي . ناقوس الخطر مجموعة من الوثائق البريطانية والمراسلات الدبلوماسية ذات السرية المتعلقة بالسياسة الاستعمارية البريطانية في اليمن منذ مطلع القرن العشرين نشرها الأرشيف الوطني في الهند بعد رفع السرية عنها. وتنقسم تلك الوثائق الخاصة باليمن الى مجموعتين " الاولي تشير لصراع الانجلو عثماني في اليمن ورسم الحدود بينهما مطلع القرن العشرين و تضمنت ايضا معلومات تفصيلية عن اللجنة الحدودية البريطانية المكلفة برسم الحدود وعن المقاومة التى ابتدها القبائل اليمنية التي مر عليها خط التقسيم والرافضة لتقسيم اليمن . كم توجد في تلك الوثائق خرائط الحدود ونصوص البروتوكولات التي صادقت على نتائج رسم الحدود عام 1905م . وتضم المجموعة الثانية من تلك الوثائق على نية المستعمرين البريطانيين لحرمان اليمن من أي منفذ. على البحر وقطع كل الصلات الاقتصادية والتجارية بين الساحل اليمني والمناطق الداخلية وتشير هذه الوثائق الارشيفية إلى اخطر المخططات الاستعمار البريطاني المستقبلية والمتمثلة في حصر اليمن في حدود المقاطعات الجبلية وتحويلها لدولة داخلية وتحويل تجارتها الخارجية كلها صوب ميناء عدن وهذا ما سعت له بريطانيا في تنفيذه خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم . فتلك الوثائق تتسم بقيمة تاريخية كبيرة في فضح الطابع الاستعماري للسياسة البريطانية في اليمن وفي نفس الوقت تدق ناقوس الخطر لهذا المشروع الاستعماري بوقتنا الحالي فالمشروع مازالت اهدافه قائمة وماثلة للعيان من خلال عدوان 2015 م . خط وهان في اواخر القرن الثامن عشر تقوضت اليمن الموحد التي كانت قد وحدت مساحات شاسعة في جنوب وجنوب غربي شبة الجزيرة العربية واحتفظ الائمة بسلطتهم في صنعاء والمناطقة المتاخمة لها فقط وفي فترة تصاعد الصراع بين الدول الاستعمارية تعرض حوض البحر الاحمر للغزو الاستعماري وابدى البريطانيون نشاطا محموما في هذه المنطقة حيث احتلوا مدينة عدن سنة 1839م واستخدموها مرتكزا للسياسة الاستعمارية ليس في اليمن فحسب بل بشبه الجزيرة العربية وشرق افريقيا وبعد ان حولت عدن قاعدة حربية اخذت بريطانيا تبسط نفوذها في اعماق جنوباليمن وفرض معاهدات حماية مع سلاطين جنوباليمن. وبعد فترة وجيزة من احتلال بريطاني لعدن استأنف العثمانيون العودة لليمن حيث استولوا عام 1849م على الشريط الساحلي للبحر الاحمر وعسير ولم يتمكنوا من التغلغل نحو الداخل بسبب مقاومة القبائل اليمنية لهم . لكنه وبسبب الصراعات بين الأئمة على السلطة في صنعاء تمكنوا عام 1872م من الاستيلاء عليها وبذلك سيطر العثمانيون على اليمن الشمالي . وبعد احتلالهم لصنعاء قرروا استعادة سيطرتهم السابقة على جنوباليمن لذلك ادى توسع المستعمرين البريطانيين في اليمن من الجنوب والتوسع العثماني من الشمال في وقت واحد الى اصطدام مصالحهم في اليمن وخلال ثلاثين عاما منذ عام 1872م حتى مطلع القرن العشرين كانت الدولة العثمانيون تدعى بالسيطرة على اليمن كله وفي عام 1891م كلف المستعمر البريطاني احد ضباطه بعمل مسح طبوغرافي ما بين حدود محمية عدن والمناطق المحادة لها فامتد ذلك المسح حتى منطقة الشيخ سعيد المطلة على مضيق باب المندب مار نحو الداخل بمناطق جبلية وقد واجه العقيد عبدالوهاب مقاومة شرسة من قبائل الصبيحة وغيرهم مما اجبره على المغادرة عام 1892م وسمى ذلك المسح (بخط وهان) نسبه لذلك الضابط وقد اتخذ البريطانيين ذلك المسح كخط حدود اولي خلال مفاوضاتهم مع العثمانيون . تقسيم اليمن وفي مطلع القرن العشرين استفاد البريطانيون من صعوبات الوضع الدولي بالنسبة للعثمانيين وفي سبيل السيطرة على اليمن ارغم المستعمر البريطاني الباب العالي على الاعتراف بأن امارات جنوباليمن المحميات ليست جزءا من اليمن ورسم الحدود بين عدنواليمن بعد مفاوضات استمرت من 1903- 1905م مما ادى الى تقسيم اليمن الى شطرين جنوبي وشمالي وتم التوقيع على تلك الحدود رسميا عام 1914م وبذلك نجحت السياسة الاستعمارية البريطانية في تحقيق احد اهدافها الاستعمارية في اليمن .فكان رسم الحدود حصيلة للصراع بينهما من اجل السيطرة على جنوب شبة الجزيرة العربية فالدولة العثمانية رفضت امدا طويلا الاعتراف بحق المستعمرين البريطانيين في جنوباليمن وبذلك اوجد المحتل البريطاني له اعتراف بشرعية وجوده بالجنوب وايضا وجد له منفذ وموضع قدم في منطقة الشيخ سعيد المطلة على مضيق باب المندب وايضا حدود على سلسلة جبلية تحمى محمية عدن من اي هجوم من شمال اليمن واسفرت هذه الحدود التي تميز رسمها بكون بريطانيا والعثمانيين قد تقاسما ارضا ليست عائدة لهم عن تقسيم اليمن رسميا الى شطرين بعد ان كان موحدا وهكذا ظهر اليمن الشمالي (العثماني ) واليمنالجنوبي ( البريطاني ) ولما كانت الحدود قد رسمت بنتيجة صراع انكلوا عثماني شديد من اجل كسب اكبر مساحة من الاراضي فقد غدت بالطبع حدود مشتعلة ولم يراع الطرفان اثناء رسمهما كون السكان المقيمين على كلا جانبيها مترابطين ترابطا وثيقا بالأواصر الاقتصادية والاجتماعية والقبلية والثقافية والتقليدية وبينت دراسة الوثائق الارشيفية ان السكان المحليين ابدوا مقاومة شديدة لتقسيم اليمن . أخطر المخططات وبعد الحرب العالمية الاولى 1914- 1918م غدت شبة الجزيرة العربية تقريبا تحت سيطرة بريطانيا بصورة مباشرة او غير مباشرة ولم يتخلص من تلك السيطرة الا اليمن الشمالي لكن ذلك لا يعنى بأنه كسب الاستقلال السياسي التام فالمستعمر البريطاني عزل اليمن عن منافذ البحر وحاول وضع حكومة صنعاء آنذاك في تبعية اقتصادية وسياسية لبريطانيا . بعد ان احتلت مدينة الحديدة نهاية الحرب واصبحت مسيطرة على الساحل الغربي من باب المندب حتى جزيرة كمران وبذلك صارت سواحل اليمنالجنوبية والشرقية والغربية تحت سيطرة المحتل وعزلت حكومة صنعاء تماما عن البحر . فقد كشفت تلك الوثائق عن مخططات بريطانية ازاء اليمن والجزيرة العربية بأسرها وهي مخططات تهدف الى عزلهما عن منافذ البحر وتقطيع الصلات الاقتصادية والتجارية والتقليدية وتجزئتها وتحويلها الى ضيعة من ضياع بريطانيا وتحويلها المستعمرون البريطانيون ان يبدلوا حتى المفهوم الجغرافي والتاريخي لليمن وحصره في اطار المناطق الزيدية أي انهم سعوا الى تجزئة اليمن وتقطيع اوصاله على اساس طائفي . وكانت تأمل بريطانيا ان يسحب الامام يحيى قواته من بعض محميات عدن ويوافق على استئناف حدود 1905م في مقابل اعادة الحديدة اليه في حين كانوا يوافقون على التنازل عن قسم كبير من اراضي المحميات وهو القسم الذي كانت قوات الامام يحيى قد احتلته. لكنهم اصروا على عزل اليمن عن منافذ البحر الاساسية أي انهم لم يوافقوا على تسليم ميناء الحديدة وكانوا يؤملون في توجيه التجارة الخارجية اليمنية كلها بصورة مفتعلة صوب عدن وجعل هذا الميناء المنفذ التجاري الخارجي الوحيد لليمن - وما زال هذا المخطط الاستعماري ينفذ باليمن بوقتنا الحاضر عبر عدوان 2015م بل هو امتداد لما خطط لليمن من قبل قرن من الزمن -. تسليم الحديدة لذا كانت سياسة بريطانيا في العشرينات من القرن الماضي تستهدف اخضاع اليمن الشمالي لنفوذها وعزلة عن الدول الاخرى وكان من عناصر سياسة عزل اليمن تسليم الحديدة اهم ميناء في شمال اليمن الى الادريسي المتحالف مع الانجليز آنذاك وتم ذلك وفقا لقرار الحكومة البريطانية في يناير 1921م. وقررت سحب قواتها من الحديدة وتسليمها الي الإدريسي وبذلك ظلت مسيطرة على ساحل البحر الاحمر عن طريق الادارسة وابقت على عزلة اليمن الداخلي وحرمانه من أي منفذ الى البحر مما مكنهم من استخدام ميناء الحديدة كوسيلة للضغط على الأمام يحيى لذلك بذل الانجليز جهودهم لجر الإمام يحيى الى فلك نفوذهم وعزلة وقطع اتصالاته مع العالم الخارجي وكان ذلك هو الهدف الرئيسي الذى اجتمعت عليه مختلف الكتل داخل الجهاز الاستعماري البريطاني والضغط على حكومة صنعاء اثناء المفاوضات باستخدام ميناء الحديدة بمثابة ورقة ضغط ليحصلوا على اعتراف الأمام يحيى بالتقسيم الانكلو عثماني وان الجنوب ليست جزء من اليمن معركة الانتصار الا أن القول الفصل في تقرير مصير اليمن كان بيد اليمنيين أنفسهم خلافا لشتى مخططات واهداف المستعمرين البريطانيين فقد ادركت حكومة صنعاء ذلك وحطمت السلاسل والمخططات التي وضعها المحتل البريطاني بشق الانفس عبر المنطقة الاكثر حساسية من الناحية الاستراتيجية في مخرج البحر الاحمر ففي عام 1925م اخترقت قوات صنعاء الحصار البحري المفروض عليها ووصلت الى البحر وحررت ميناء الحديدة حتى ميدي من الادارسة واتجهت جنوبا وتوغلت في اراضي محميات عدن ولم يتمكن المستعمرون البريطانيون من الحيلولة دون تعزيز وتوسيع الدولة اليمنية المستقلة رغم وسائل الضغط المختلفة التي استخدموها ابتداء من المحاولات الدبلوماسية وانتهاء بتدبير الفتن والمشاكل وتزويد المعارضين لحكومة صنعاء بالمال والسلاح . لذلك فقد ادركت الاستراتيجية العسكرية اليمنية آنذاك ان خوض اي معركة خارج المناطق الساحلية هي معارك ثانوية و استنزاف وهدر للطاقات والموارد والامكانيات وخدمة لأهداف المحتل البريطاني وخطته باستكمال سيطرته على كافة السواحل والموانئ والجزر وتحويل اليمن الى دولة داخلية سرعان ما سوف تموت ببطيء سياسيا واقتصاديا .