ظلت تونس مثالاً متفرداً من بين الدول العربية التي اجتاحتها رياح التغيير في ثورات الربيع العربي في 2011م ونجاحها في تأمين الانتقال السلمي للسلطة لكنها دخلت في دوامة من الصراعات والأزمات السياسية الأكثر تشعباً منذ الإطاحة بالنظام السابق وهي الآن من أكثر القنابل السياسية الموقوتة في البلاد القابلة للانفجار. عشر سنوات لم تخرج تونس إلى بر الأمان ظل طوفان الصراع السياسي هو الهائج على مفاصل الدولة وإدارة البلد حتى أوصلها إلى حافية الانهيار الاقتصادي وزيادة نسبة البطالة بأرقام مخيفة وتردي الحالة المعيشية وتفاقم الأوضاع الأكثر سوءا أمام الأبواب المغلقة في الحلول كان السخط الشعبي والتذمر هو الذي يطفو على السطح دون اهتزاز الطبقة السياسية الحاكمة في الاستجابة لمعاناة المجتمع الذي تطحنه الأزمة الاقتصادية الخانقة إلى جانب أزمة وبائية خطيرة تسببت في أعداد قياسية من الوفيات والمرضى في مستشفيات مكتظة ومتداعية. الحلقة الأبرز تونس الدولة التي كانت مستقرة من جميع النواحي رغم فساد حكومة ابن علي لكنها كانت تمثل نموذجا في الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وفي مستوى التعليم والتأهيل للكفاءات عالية المستوى التي كان لها دور كبير في أوروبا ودول العالم ويمثل الصراع السياسي الذي اتسع بين فرقاء العملية السياسية الحلقة الأبرز الذي قصم ظهر تونس وتركها تغرق بالمديونية وبمزيد من التدهور الاقتصادي ذلك ما جعل الشارع التونسي ينتفض غاضبا يوم 25 يوليو والتقط الرئيس التونسي هذه اللحظة التاريخية باتخاذ قرارات عاجلة لإنقاذ البلد مما هو فيه وقد وصف المحلل السياسي سفيان بن فرحات قرارات الرئيس ب"بوادر إنقاذ". من بين الخطوات الأكثر إثارة التي أعلن عنها الرئيس التونسي إضافة إلى إقالة الحكومة وتعليق عمل البرلمان لمدة شهر ورفع الحصانة عن النواب وتوليه رئاسة النيابة العامة لتحريك دعاوى ضد عدد من المتورطين في قضايا مالية يحقق القضاء التونسي مع عدد من الشخصيات المتهمين في نهب المال العام كما دعا الرئيس التونسي رجال الأعمال الفاسدين إلى إعادة الأموال المنهوبة والاستثمار في البلاد واتخذ قرارات بإقالة عدد من المسؤولين من بينهم إقالة مدير المخابرات وتعيين وزير دفاع جديد وكلف مستشاره الأمني رضا غرسلاوي بتسيير وزارة الداخلية بشكل مؤقت لكن ما علاقة هذه الخطوات بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية وكوفيد- 19 إن لم يكن لها أهداف سياسية أخرى؟. مسار الانتقال السياسي خطوة الرئيس التونسي غالبا ما تعبر عن رغبته العلنية في تعديل النظام السياسي والذهاب إلى نظام رئاسي جديد في مسار الانتقال السياسي الذي بدأ في تونس إبان سقوط حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في 2011م إثر انتفاضة شعبية وعرف هذا المسار الكثير من المطبات من بينها اغتيالين سياسيين في 2013م وهجمات إرهابية دامية واضطرابات اجتماعية متواترة ضد الفقر والبطالة إلى جانب موجات هجرة غير شرعية مكثفة عبر البحر. وفي الوقت الذي أعلن فيه الرئيس قيس سعيد عن بداية تطبيق قراراته على الفور بعد اجتماع مع قيادات من الجيش والأمن ليل الأحد 25 يوليو فإن رئاسة البرلمان وحركة النهضة الإسلامية بالأساس وحليفها "ائتلاف الكرامة" اليميني يرفضان خطوة سعيد بشكل قطعي. ويستند الرئيس التونسي إلى مضمون الفصل 80 من الدستور الذي يتيح له اتخاذ تدابير استثنائية في أوضاع محددة مستفيدا من الاحتجاجات وأعمال الشغب التي اجتاحت عددا من المدن التونسية يوم الأحد 25 يونيو 2021م حيث ينص الفصل 80 من الدستور على أن "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية" حيث قالت الرئاسة التونسية إن التدابير التي أعلنها الرئيس ستستمر لمدة شهر في خطوة وصفها خصومه بأنها انقلاب. إدارة الأزمة منذ فجر الاثنين 26 يوليو2021م منع جنود من الجيش رئيس البرلمان راشد الغنوشي ونائبه الأول وعددا آخر من النواب من دخول مقر البرلمان حيث تحيط قوات الأمن التي انتشرت بشكل مكثف حول البرلمان وعدد من المؤسسات والمقرات الحكومية وسط تحذيرات من نشوب اضطرابات محتملة وإلى ذلك اجتمع مجلس شورى حركة النهضة لتدارس الوضع السياسي في البلاد الذي انعقد وسط خلافات داخل حركة النهضة حول كيفية التعاطي مع قرارات الرئيس كما قال مصدر من حركة النهضة أن عددا من مجلس الشورى يتهمون المكتب التنفيذي لحركة النهضة بعدم القدرة على إدارة الأزمة. أزمة تونس تطور الأزمة السياسية التونسية الناجمة عن الخلافات السياسية على الصلاحيات بين الرئاسة والبرلمان تُهدِّد بتقويض مؤسسات الدولة وتعطيل الحياة وتهديد السِّلْم الأهلي حيث لم يكن الوضع خارج البرلمان بعيدا عن حال الصراع فالتونسيون باتوا يعانون أوضاعا اقتصادية إلى درجة غير مسبوقة فيما نتج عنها من انهيار للخدمات العامة بالتزامن مع الركود الاقتصادي وارتفاع نِسَب البطالة وصعود معدلات الفقر حيث كان الجميع يدرك أن الوضع أصبح أكثر تعقيدا من الوضع الذي أدَّى إلى اندلاع الثورة التونسية قبل أكثر من عشر سنوات إذ لم تعرف تونس حينها مؤسسات مفتوحة وحكومة وبرلمان منتخبَين كما لم تعرف مسارا ديمقراطيا مرتبكا لهذه الدرجة. فعلى خلفية الأزمة السياسية الممتدة منذ عدة أشهر كان الرئيس التونسي قد هاجم في تصريحات نارية خصومه السياسيين وصارت نهجا خاصا به خلال الفترة الأخيرة إذ اعتاد الرئيس بعد كل حادثة سياسية تمر بها البلاد الخروج للتصريح بكلمات تزيد الوضع احتقانا لا أكثر فهو تارة يتهم أطرافا سياسية تونسية بالسعي إلى "إزاحته من الحكم ولو بالاغتيال" وتارة أخرى يُهدِّد باستخدام الدستور لوضع حد لكل ما يعتبره تجاوزا يُنذر بسقوط الدولة. جذور الأزمة التونسية تعود جذور الأزمة التونسية الحالية إلى العام 2019م الذي شهد انتخابات رئاسية أوصلت الرئيس قيس سعيد إلى دفة الحكم. وفي أكتوبر من العام نفسه حاول حزب النهضة الإسلامي الأكبر في البرلمان تمرير حكومة الحبيب الجملي ولم ينجح في ذلك لتظهر إلى السطح خلافات بين موقعَي الثقل السياسي في تونس "البرلمان" الذي على رأسه حزب النهضة و"الرئاسة" التي يُمثِّلها الرئيس وهي خلافات كانت تُنذر بصراع محتدم على تحديد نفوذ المؤسسات الديمقراطية الوليدة. وقد عادت الكرة إلى ملعب الرئيس لاختيار بديل للحبيب الجملي من أجل تشكيل الحكومة وهو ما خلق مناخا سياسيا تفاقمت فيه السجالات حول مسألة الصلاحيات على وجه التحديد لكن تلك التجاذبات لم تكن جديدة من نوعها على كل حال التي عرفتها تونس بشكل متكرر بعد ثورتها عام 2011م فكثيرا ما أُثيرت مسألة ضبط صلاحيات الرئاسات الثلاث: رئاسة (البرلمان) ورئاسة (الحكومة) ورئاسة (الجمهورية) ومع ذلك عادت أزمة الصلاحيات لتطل برأسها من جديد بشكل أعنف مع حكومة هشام المشيشي التي أدَّت اليمين الدستورية في سبتمبر 2020م وهو ما كانت حركة النهضة ترغب في تعيين رئيس حكومة موال للأغلبية البرلمانية. بمعنى آخر أن حزب النهضة منح المزيد من السلطات للحكومة في الوقت الذي يستمد فيه رئيس الوزراء ثقته من البرلمان وهو خلاف سياسي يريد الرئيس التونسي استبداله بتأسيس نظام رئاسي بدلا عن النظام الحالي المختلط الذي يضع معظم الصلاحيات بيد رئيس الوزراء الذي يُعينه الائتلاف الحاكم اما الصدام الأبرز فقد بدأ في منتصف يناير 2021م حين رفض الرئيس المصادقة على تعديل وزاري اقترحه المشيشي وصادق عليه البرلمان التونسي رافضا دعوة الوزراء الجدد إلى أداء اليمين الدستورية أمامه مُعتبِرا أن التعديل شابته "خروقات" وهو ما لم يقبله المشيشي وبالتزامن مع ذلك تسبَّبت تصريحات الرئيس حول صلاحياته بوصفه قائدا أعلى للقوات المسلحة تشمل أيضا قوات الأمن الداخلي وليس الجيش فقط في تصعيد خلافه مع حكومة المشيشي بشأن الصلاحيات. الحوار الوطني منذ اشتعال الأزمة السياسية تعدَّدت المبادرات الساعية لتخفيف الاحتقان والخروج من الخلاف حول الصلاحيات بين الرئيس قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي وكانت أولها مبادرة التهدئة والوساطة بين الفرقاء السياسيين الذي قام بها "الاتحاد العام التونسي للشغل" وهو أكبر منظمة نقابية في تونس إذ أطلق الاتحاد مطلع ديسمبر 2020م مبادرة "الحوار الوطني" بغية الخروج من الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية في البلاد ومن أهم بنودها إرساء "هيئة حكماء تقودها شخصيات وطنية مُستقلِّة للخروج من الأزمة" وكان الرئيس التونسي قد أعلن في مارس 2020م باقتراحه تنظيم حوار وطني بمشاركة واسعة من الشباب لبلورة مقترحات ومطالب تنطلق من المستوى المحلي إلى الوطني وهو اقتراح اعتبرته النخبة السياسية التفافا على مبادرة الحوار التي تقدَّم بها اتحاد الشغل ومحاولة الرئيس إطالة أمد الأزمة وإحراج منافسيه في السلطة والاستئثار بدفة العملية السياسية. الأمل الأخير أقدم عدد من الضباط المتقاعدين من الجيش التونسي على طرح مبادرة سياسية باسم "الأمل الأخير" اقترح فيها الضباط الخروج من الأزمة السياسية بأن يدعو الرئيس "كلًّا من السادة رئيسَي مجلس النواب والحكومة لاجتماع عاجل بقصر الجمهورية يُخصَّص لِطي صفحة القطيعة واستعادة الاتصالات الطبيعية بين الرئاسات الثلاث وتدارس رهانات المرحلة ومتطلباتها" وقد اقترح الضباط أيضا على الرئيس "إلقاء خطاب تجميعي في مجلس النواب يحضره كل الفرقاء السياسيين ويعقبه إيقاف فوري لكل حملات تبادل العنف والتشويه واحترام الأطراف السياسية والتزام الجميع بتأجيل الخوض في المسائل السياسية الخلافية إلى حين حيث أحدثت تلك المبادرة جدلا واسعا في تونس بسبب تحسس المجتمع التونسي من تدخل القيادات العسكرية في الشأن السياسي.. وفي منتصف يونيو الماضي دعا الرئيس التونس الجميع مجددا إلى حوار للاتفاق على نظام سياسي جديد وتعديل دستور 2014م -المُنبثق عن المجلس الوطني التأسيسي- الذي قال إنه مليء بالأقفال والعراقيل لكن الدعوة التي ظهرت بادرةً نحو الحل جاءت بنتائج عكسية وعادت بالأزمة إلى نقطة الصفر إذ بدا واضحا من كلمات الرئيس أنه يُمهِّد لتغيير الدستور وتعديل النظام السياسي في البلاد بعد أن شكَّك في الحوار الوطني الذي جرى عام 2013م واصفا إياه بأنه "لم يكن حوارا ولم يكن وطنيا على الإطلاق" مع طول أمد الأزمة في تونس بدأت الدعوات المطالبة باستبعاد أصحاب الخلافات المتصاعدة على رأسها إعلان مجموعة من الأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات والشخصيات الوطنية عن تشكيل "جبهة الاستفتاء" من أجل تغيير النظام السياسي والانتخابي في البلاد. مجمل تلك الرؤى كانت تتطلب ضرورة تدارك الوضع وأن ثمة حاجة إلى تنظيم استفتاء شعبي يُسأل فيه الشعب التونسي عن نوع النظام السياسي الذي يجب اتباعه ذلك على اعتبار أن الشعب هو "صاحب السلطة الأصلي" في نهاية المطاف.. وقد أكَّد أصحاب المبادرة خلال مؤتمر صحافي في 28 يونيو 2020م أنهم "في جبهة موحَّدة ستكون مفتوحة لكل التونسيين وللشخصيات الوطنية ومكونات المجتمع المدني والسياسي كافة وهدفها استفتاء الشعب حول شكل النظام السياسي رئاسي أو برلماني وحول النظام الانتخابي نسبي أو مطلق في دورتين" لكن هناك مَن ذهب إلى ما هو أبعد من الاستفتاء حول النظام السياسي بالدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة باعتبارها مخرجا من الأزمة وقد تصدَّر الرئيس الأسبق منصف المرزوقي قائمة الشخصيات السياسية التي طالبت بضرورة إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة بما يضمن حلا للأزمة السياسية والدستورية التي تعيشها البلاد. توافق جديد ورغم أن كلًّا من الرئيس التونسي وحزب النهضة قد أبديا تأييدهما لمقترح إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة إذا ما تعطَّل إجراء حوار وطني للخروج من الأزمة السياسية حيث وبحسب رأي القانونيين التونسيين فأنه لا حل للأزمة الراهنة في تونس إلا من داخل الدستور ذلك أن منافذ الذهاب إلى استفتاء أو انتخابات مبكرة محدودة جدا بالدستور تستلزم توافقا بين فرقاء الأزمة ولا يمكن الذهاب إلى استفتاء على النظام السياسي أو تعديل الدستور دون وجود المحكمة الدستورية التي لا تزال مُعطَّلة حتى اليوم كما يرى هؤلاء أن الانتخابات التشريعية والرئاسية المبكرة بغض النظر عن الإمكانية القانونية لإجرائها لن تُخرج تونس من دائرة الصراع الصفرية تلك وبحسب رأى مشرعين فإن الحل الناجع واللازم هو اتفاق بين الأغلبية البرلمانية ورئاسة الجمهورية على حكومة جديدة مدعومة من كلتيهما أو على الأقل قادرة على العمل مع البرلمان والرئاسة لضمان الحد الأدنى من الاستقرار الحكومي والسياسي من خلال التوافق فقط على خارطة طريق وليس إعادة إنتاج عجلة الانتخابات. وفي ظل صعوبة التكهُّن لما سيؤول إليه الوضع السياسي حيث لا يملك الرئيس أي صلاحيات مباشرة لتغيير الدستور ومن ثمَّ تغيير النظام السياسي في البلاد ولا يملك أي حزب في البرلمان أيضا أدوات التغيير نفسها ربما يكون الذهاب إلى انتخابات مبكرة خيارا إجباريا يُفضي إلى ظهور توافق جديد كما يقول أنصاره أما المعارضون لإجرائها فيُشيرون إلى كلفتها السياسية والاقتصادية في بلد يشهد أزمة مالية حادة ما قد يتسبب بمزيد من التشتُّت الحزبي والسياسي في بلد لم يعد شعبه يُطيق انتظار ثمار السياسة أكثر من ذلك.