وكنا قد أشرنا من قبل إلى أن المزج والتزاوج والإنسجام التام الذي حدث بين المسيحية والصهيونية في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا ، قد جعل من الحركتين العنصريتين تبدوان وكأنهما حركة واحدة وقامت لأغراض معينة ومحددة عملت خلال تاريخها الطويل على تحقيقها ومنها إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وتبني الغرب دعم هذا الكيان والمحافظة على وجوده وتفوقه على الدوام . وهُناك تفسير أُعتمد تاريخياً في العقيدة المسيحية التي عُرفت في أمريكا بعد استعمارها من قبل الأوروبيين الغربيين وانتقالهم إليها قبل عدة قرون ، ينص على : " أن الأمة اليهودية انتهت بمجيئ المسيح وأن خروج اليهود من فلسطين كان عقاباً لهم على صلب السيد المسيح ، وأن فلسطين هي إرث المسيح للمسيحيين ، إلا أن ظهور حركة الإصلاح الديني في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي تبنت المقولة التي تزعم ( أن اليهود هم شعب الله المختار ، وأنهم الأمة المُفضلة عند الرب) ، وأن هناك وعداً إلهياً يربط اليهود بفلسطين " . وعلى ضوء هذا الزعم والمفهوم الخاطئ الذي ترسخ في أذهان أتباع تلك الحركة ارتبط الإيمان المسيحي البروتستانتي بعد حركة الإصلاح الديني التي شهدتها أوروبا قبل خمسة قرون بعودة المسيح الثانية بشرط قيام دولة الكيان الصهيوني على كل أرض فلسطين . وبحسب دراسة مستفيضة أعدتها قناة الجزيرة عن حركة المسيحية الصهيونية ومن خلال تتبع ورصد المراحل التي مرت بها منذ التأسيس حتى اللحظة ، فقد "حدث انقسام بين منظري المسيحية الصهيونية في القرن ال19، وظهرت مدرستان، البريطانية الداعمة لنظرية تحول اليهود للمسيحية قبل عودتهم لفلسطين كمسيحيين، والأميركية التي آمنت بأن اليهود سيعودون إلى فلسطين كيهود قبل تحولهم للمسيحية". وأوضحت تلك الدراسة أن رأس فكر المدرسة الأميركية هو القس الأيرلندي جون نيلسون داربي الذي يعتبر بمثابة الأب الروحي لحركة المسيحية الصهيونية الأميركية . وقالت أنه :" خلال 60 عاما بشر داربي لنظريته بكتابة العديد من المؤلفات التي فصلت رؤيته لنظرية عودة المسيح الثانية، ونظرية الألفية ، إلى جانب قيام داربي هذا بست زيارات تبشيرية للولايات المتحدة، وقد أصبح في وقت لاحق داعية مشهورا ومدرسا له أتباع كثيرون " . ووفقًا لنفس المصدر حمل لواء الحركة بعد داربي عدة قساوسة أشهرهم داويت مودي الذي عرف بترويجه لنظرية "شعب الله المختار"، وويليام يوجين بلاكستون الذي ألف كتاب "المسيح آت" عام 1887 وأكد فيه على نظرية حق اليهودي طبقا لقراءته للتوراة في فلسطين. إلا أن أكثر المنظرين تطرفا كان القس سايروس سكوفيلد الذي ألف كتابا عنوانه "إنجيل سكوفيلد المرجعي" عام 1917، وهو الكتاب الذي أصبح بمثابة المرجع الأول لحركة المسيحية الصهيونية . وتشير مصادر تاريخية أخرى أرخت لتلك الحركة إلى أن من أشهر السياسيين الذين أسهموا في نمو حركة المسيحية الصهيونية عضو البرلمان البريطاني اللورد شافتسبري، الذي كان مسيحيا محافظا وعلى علاقة جيدة بصانعي السياسة البريطانيين في منتصف القرن ال19 الميلادي . وبينت أنه في العام 1839 ذكر شافتسبري في مقال نشر في دورية شهيرة أنه يجب تشجيع عودة اليهود إلى فلسطين بأعداد كبيرة، حتى يستطيعوا مرة أخرى من القيام بالرعي في سامراء والجليل"، وكان ذلك قبل 57 عاما من ظهور الحركة الصهيونية العالمية، وكان اللورد شافتسبري هو أول من وصف اليهود وفلسطين قائلا "شعب بلا وطن.. لوطن بلا شعب". بينما يعد تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية الحديثة أول من استخدم مصطلح "الصهيونية المسيحية"، وعرف المسيحي المتصهين بأنه "المسيحي الذي يدعم الصهيونية"، ولاحقًا تطور المصطلح ليأخذ بعدا دينيا، وأصبح المسيحي المتصهين هو "الإنسان الذي يساعد الله لتحقيق نبوءته من خلال دعم الوجود العضوي لإسرائيل، بدلا من مساعدته على تحقيق برنامجه الإنجيلي من خلال جسد المسيح". وتيودور هرتزل نفسه آمن وطرح فكرة الدولة اليهودية ولم تكن دوافعه دينية بالأساس، فهو قومي علماني، وأعلن استعداده لقبول استيطان اليهود في أوغندا أو العراق أو كندا أو حتى الأرجنتين . أما المسيحيون المتصهينون فقد آمنوا بأن فلسطين هي وطن اليهود، واعتبروا ذلك شرطا لعودة المسيح، وهذا ماجعلهم ينتقدون الموقف المتساهل من قبل تيودور هرتزل بهذا الشأن . وتلتقي كلا الحركتين الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية حول "مشروع إعادة بناء الهيكل اليهودي المزعوم في الموقع الذي يقوم عليه المسجد الأقصى اليوم في القدسالمحتلة ". و يتمحور الهدف الذي تعمل الحركتان على تحقيقه حول فرض سيادة يهودية كاملة على كل فلسطين بزعم أنها "أرض اليهود الموعودة" . وقد ترجمت معتقدات الحركة المسيحية الصهيونية بداية عام 1917 م مع صدور وعد بلفور الذي أيد فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، حيث وافق أغلب البروتستانت الأميركيين على هذه الفكرة واعتبروا تنفيذها واجبا دينيا راسخا . يذكر أن أتباع الحركة المسيحية الصهيونية يقرب من 40 مليون شخص داخل الولاياتالمتحدة وحدها، ويزداد أتباع تلك الحركة خاصة بعدما أصبح لها حضور بارز في كل قطاعات المجتمع الأميركي اليوم . فيما يشهد الإعلام الأميركي بدوره حضورا متزايدا لهم حيث إن هناك ما يقرب من 100 محطة تلفزيونية، إضافة إلى أكثر من 1000 محطة إذاعية ويعمل في مجال التبشير ما يقرب من 80 ألف قسيس ، فضلاً عن انتماء الكثير من الساسة الأمريكان لهذه الحركة من بينهم رؤساء وإيمانهم بمعتقداتها الباطلة . ...... يتبع ....ِِ...