ولأن هذه الأمة بمسلميها وعربها تبدو وكأنها لاتزال تتعامل مع مجمل الحقائق والأحداث والوقائع والأخطار العظيمة المُحدقة بها بنوعٍ من الإستهتار واللامبالاة ، وتتعاطى معها بذلك العمى والجهل والغباء الذي جُبِلت عليه . ولأن أبنائها مع الأسف الشديد استمر أو النظر إلى أهم الأمور نظرة قاصرة لاتتعدى أحيانًا موضع أقدامهم ، فقد كان من الطبيعي في المقابل أن نقع فريسة سهلة لأعدائها ونكون لقمة سائغة لهم بل وتكون لعبة ودمية بين أيديهم يحركونها كيفما شاءوا . ولأن هذه الأمة كانت ولا زالت أمة صماء بكماء عمياء لا تقوم بأي ردة فعل مناسب على ما يُفعل بها من أفاعيل سواء من قبل أعدائها الغربيين أو طغاتها المحليين ، فلا غروى أن تشكو ماتشكوه من ذل وضعف وهوان وتخلف وانحطاط في كل شيء . وكأنه قُدر على هذه الأمة أن تظل لعهود ومراحل طويلة من التاريخ تلك الأمة الضعيفة الوانية التي أرغمت ارغامًا على أن تدفع غاليًا ثمن : سقوطها الحضاري وإندحارها العسكري وتأزمها الفكري وتصحرها الثقافي وخوائها الروحي ، وتستجدي المنافع من ألد أعدائها التاريخيين . والمضحك المبكي أن يتوهم الكثير من قادة شعوبها أن الغرب صديقًا حميماً للعرب والمسلمين وينظرون إليه كحليف وهو ألد الخصام ويناصب أمتهم أشد العداء . ولأنها هي ذات الأمة التي ظلت رهن الغشاوة وحالة اللاوعي وعدم الإستيعاب لما يدور حولها وفي محيطها ، ولم تستفد من الدروس الكثيرة والقاسية التي أتيحت لها وتلقنتها على مر التاريخ ، فقد رأى الغرب الصليبي ممثلاً بدوله الإستعمارية الشريرة ، ووجد في كل ذلك أو حتى بعضه ضالته المنشودة وفرصته الثمينة المواتية ليواصل استهدافه لها بشتى أنواع الشرور والويلات وبمنتهى الوحشية والفجور والقسوة . وقد شجعت حالة الإنبطاح العربي والإسلامي الطويل للغرب دوله الإستعمارية الفاجرة كبريطانيا وأمريكا ، ودفعته أكثر لأن يتمادى بكل بغي وخسة في التآمر على هذه الأمة الخائرة القوى . وكان الخواء الروحي الذي تعاني منه الأمة منذ زمن بعيد دافعًا قويًا للغرب ليقصد شعوب هذه الأمة ودولها وقضاياها العادلة بشروره ، ويستمر مدفوعًا بأحقاده عليها في شن حربه المفتوحة عليها على كافة الصعد والجبهات ، وغايته الإجهاز عليها وضمان تطويعها وخضوعها التام له حتى لا تشكل عليه أي تهديد أو خطر في المُستقبل . وتأكيداً على ماتقدم ذكره والذي يشير صراحةً إلى أن العرب أمة جاهلة مُستغفلة فضلت العزوف عن قراءة مابين السطور وثنايا الحروف ، فليس بمستغربٍ أبدا على سبيل المثال أن تكون أمتنا هذه أبعد ماتكون عن فهم مقاصد وثيقة خطيرة كوثيقة جامبل - بنرمان 1907م " تلك التي لاتقل خطورة عن وعد بلفور واتفاقية سايكس - بيكو . والأغرب أن وثيقة بنرمان هذه التي رسمت الخطوط العريضة لإستهداف العالم العربي والإسلامي لقرنين قادمين لم يأت ذكرها في مناهجنا الدراسية ، ولم تسلط عليها وسائل الإعلام العربية والأسلامية أي نوع من الأضواء رغم خطورتها وأهميتها . وتكمن خطورة هذه الوثيقة المُسماة وثيقة بنرمان بأنها جاءت بمثابة ورقة عمل وخطة استراتيجية أعتمدتها دول الغرب الإستعمارية وعلى رأسها بريطانيا الملعونة في مطلع القرن العشرين ، لتقسيم العالم العربي وتمزيقه وتفتيته وتقزيمه وإضعافه وفرض الوصاية عليه والتدخل في شؤونه بشكل دائم تحت حجج وذرائع كثيرة . ومما يُؤلم أكثر أن العرب الغُفَل لم يكلفوا أنفسهم أن يسألوا مُجرد سؤال من باب العلم بالشيء ، عن سر مؤتمر لندن الذي عقد في العام 1907م بلندن حاضرة الإستعمار الغربي ورأس حربته آنذاك ، ولم يحاولوا كذلك معرفة سبب اختفاء وثيقة بنرمان هذه ، وسر التكتم والتحفظ عليها من قبل الغرب ومعه الصهيونية العالمية على حدٍ سواء ! . ومما يجدر ذكره أن رئيس الوزراء البريطاني جامبل بنرمان ، وهو من حزب المحافظين كان قد دعا في عام 1905م بعض الدول الإستعمارية الغربية كفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وأسبانيا إلى المشاركة في مؤتمر عاجل في لندن ، لبحث سبل القضاء على أي نهضة عربية أو اسلامية مستقبلية تهدد حضارة الغرب ووجوده . وبعد سلسلة اجتماعات ومشاورات عديدة مكثفة مع خبراء من كل المجالات ومناقشات مُستفيضة دامت لعامين كاملين ، أصدر المجتمعون بلندن وثيقة عمل اسموها " وثيقة بنرمان" ، وأقروا تنفيذ مضامينها على مدى قرنين متتابعين من الزمن بغية تحطيم مقومات قيام حضارة المسلمين من جديد . وبعد تحليلهم لوضع العرب والمسلمين في تلك الفترة ، خرج المشاركون في اجتماعات لندن بتصور عام لوضع العرب والمسلمين عامةً كأمة حينها . وأشار التصور الذي اعتمدوه كخطة لوضع العرب آنذاك إلى جملة من النقاط الهامة ، من بينها : أن العرب يملكون كل عوامل التفوق الحضاري ، ولهم دين واحد ، ولغة واحدة ، وأن من أراد أن يمشي في جميع المدن العربية فلا يحتاج إلى أي مترجم . ولفتت بنود وثيقة بنرمان سيئة الذكر إلى وجود العرب في حوض بحري مُتقارب ، وأن معظم ثروات العالم تحت أيدي العرب . وحذرت الوثيقة المذكورة من أن تعلم العرب للقرآن يزيد من نسبة وعيهم ، حيث إن الطفل العربي في سن الثامنة يدخل قاموسه أزيد من 100،000مصطلح بفضل حفظ القرآن ماينمي عنده مايُسمى بالوعي المُبكر وغيرها من أدوات التقدم . وبحسب تلك الوثيقة الخطيرة التي كانت فكرة ومقترح بريطاني بإمتياز ، فإن حالة استقرار الإسلام بعقيدته المحمدية ، من شأنه أن يتيح للإسلام التمدد والإنتشار بسرعة في أوروبا ، كونه دين عدالة وتسامح ومساواة ، وهذا ما يشكل تهديد وخطر مباشر على الغرب وحضارته لايمكن السماح به و السكوت عليه . ...... يتبع ......