منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، ونتنياهو لا يملّ من اجترار نبوءته الشيطانية عن "تغيير وجه الشرق الأوسط" وكأنه قيصر زمانه ممسكٌ بمفاتيح مصائر الشعوب لكنه، كعادته، ينسى – أو يتناسى – أن "التغيير" الذي يتشدّق به ليس سوى إعادة بثّ رديء لمشاريع الإذلال القديمة، التي حاولت القوى الاستعمارية فرضها على المنطقة لعقود، قبل أن تتحطم على صخرة الواقع وتُطوى صفحتها في سجلات الفشل الذريع. كتب: بشير القاز نتنياهو والشرق الأوسط الجديد بنيامين نتنياهو، عرّاب الفوضى وصانع الخراب، في منطقة الشرق الأوسط لم يكتفِ بحروبه المتسلسلة في فلسطين، فقرر أن مشروعه "للشرق الأوسط الجديد" لا يكتمل إلا بتحويل المنطقة إلى رقعة شطرنج إسرائيلية، حيث تتحرك الدول العربية وفق أوامر التاج الصهيوني منذ أن نشر كتابه "مكان بين الأمم" ثم عدّله إلى "مكان تحت الشمس"، ونتنياهو لا يخفي أطماعه في المنطقة رؤيته قائمة على معادلة بسيطة: "إسرائيل قوية = العرب في حالة ضعف دائم" لذا الحقيقة الواضحة أمام الجميع هي أنه لا يعدو كونه مشروعًا استعماريًا معدّلًا، يرتدي قناع الحداثة والسلام بينما يحمل في طياته مخططات توسعية تقوض استقرار المنطقة لصالح كيانه السفاح فعندما يتحدث نتنياهو عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط، فهو لا يقصد تنمية اقتصادية أو سلامًا إقليميًا، بل يقصد خريطة جديدة مرسومة بحبر العدوان والتوسع الصهيوني الذي لا يتوقف عند فلسطين، بل يمتد ليشمل كل الدول العربية التي يراها قادرة على تشكيل تهديد مستقبلي لكيانه المصطنع. أمن إسرائيل.. الكذبة الكبرى يروج نتنياهو لرواية أن "الكيان الصهيوني" دولة مسالمة محاطة بأعداء يسعون لتدميرها، وكأن جرافات المستوطنات وقذائف الاحتلال تُطلق ورودًا بدلًا من الموت والدمار وفقًا لهذا المنطق المعكوس، فإن ضمان "أمن الكيان السفاح" يتطلب تحويل المنطقة إلى ساحة حرب دائمة، حيث تُستنزف الدول العربية عبر النزاعات الطائفية والتقسيمات الداخلية فنتنياهو يدرك بأن فرض الهيمنة الإسرائيلية لا يتم فقط بالقوة العسكرية، بل يحتاج أيضًا إلى شبكة من التحالفات مع أنظمة عربية متواطئة، بحجة "التصدي لإيران" و"محاربة الإرهاب"هكذا يتم تسويق التطبيع على أنه "شراكة استراتيجية"، بينما هو في الحقيقة بيعٌ علنيٌ للقضية الفلسطينية، وفتح الأبواب لإسرائيل لتكون السيد الجديد في المنطقة.. ففي قاموس نتنياهو، التفاوض هو مجرد وسيلة لخداع الرأي العام، أما الحقيقة فهي أن "السلام" لا يأتي إلا عبر فوهة البندقية لذا، فإن الضفة الغربية بحسب اهداف الاحتلال يجب أن تُضم بالكامل، والقدس يجب أن تُبتلع، وغزة يجب أن تظل ساحة للدماء والمعاناة، تمهيدًا لترحيل الفلسطينيين قسرًا وتغيير التركيبة الديمغرافية لصالح المشروع الصهيوني. تفكيك الدول العربية منذ "خطة عوديد ينون" عام 1982م، وكيان العدو الصهيوني يضع نصب عينيه هدفًا واحدًا (تفتيت الدول العربية) وها هو نتنياهو يواصل هذا المخطط بذكاء استعماري جديد، عبر إذكاء النزاعات الطائفية ودعم الأقليات غير العربية وغير المسلمة كأدوات لتفكيك سورياوالعراق ومصر وبعض الدول العربية، وتحويلها إلى دويلات ضعيفة عاجزة عن مقاومة الهيمنة الصهيونية فبينما كان شمعون بيريز يروّج لفكرة "الشرق الأوسط الجديد" عبر التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، جاء نتنياهو ليؤكد أن القوة هي الحل الوحيد، وأن إسرائيل لا يمكن أن تعيش بسلام إلا إذا كانت مهيمنة بلا منازع هذه الرؤية العدوانية تُحتم على العرب أن يستيقظوا قبل أن يجدوا أنفسهم قطعًا متناثرة في رقعة الشطرنج الإسرائيلية. العرب في قائمة الانتظار في سبتمبر 2023م، اعتلى بنيامين نتنياهو منصة الأممالمتحدة، نافخًا صدره كديك على مزبلة التاريخ، ليبشّر العالم- مجددًا- ب"شرق أوسط جديد"، لكن وفق معاييره الصهيونية الخاصة(إسرائيل في المركز..العرب في طابور التطبيع، والفلسطينيون مجرد "عقبة تقنية" ينبغي إزالتها من الطريق) حيث كان الخطاب مزيجًا من أوهام العظمة وإعادة تدوير لنبوءات شمعون بيريز من عام 1992م، لكن بنكهة نتنياهو الخاصة التي تجمع بين التهديد والوعود الزائفة.. وكعادته، لم يضيع الفرصة ليشرح للعالم كيف أن محاولات السلام السابقة كانت مجرد أخطاء فادحة، لأنها- بحسب عبقريته الفذة- افترضت أن إنهاء الاحتلال هو شرط لتحقيق السلام.. لكن الحل من وجهة نظره بسيط: تجاهل الفلسطينيين و قضيتهم تمامًا، والتفاهم مباشرة مع الحكام العرب، لأن الفلسطينيين عندما يجدون أنفسهم معزولين تمامًا، سيتخلون عن "وهم" مقاومة الاحتلال ويتحولون إلى مواطنين صالحين في "الشرق الأوسط الجديد".. نتنياهو مضى في خطابه ليستعرض إنجازاته المسمومة وكأنه في مؤتمر تسويقي لشركة ناشئة، متفاخرًا بمعاهدات التطبيع الغادرة للقضية الفلسطينية لعام 2020م لكن نجم العرض الحقيقي بالنسبة له كان اقتراب التطبيع مع السعودية، الذي قدّمه كأنه "المفتاح السحري" لإنهاء الصراع العربي مع الكيان الصهيوني وبالطبع، تناسى أن المشكلة لم تكن يومًا في العلاقات العامة، بل في الاستعمار الاستيطاني والاحتلال الذي يواصل ابادة الشعب الفلسطيني وابتلاع أرضه وحقوقه بلا هوادة .. وكجزء من عرضه الترويجي ل"رؤية المستقبل بعيون الصهاينة" أعلن نتنياهو في خطابه ايضاً بأن الرئيس بايدن، ورئيس وزراء الهند مودي، وقادة أوروبا والعرب، قد اتفقوا في مجموعة العشرين على مشروع "عبقري" (ممر يعبر شبه الجزيرة العربية، مرورًا بإسرائيل – طبعًا – ليصل الهند بأوروبا، مزوّدًا بكل وسائل الحداثة من سكك حديدية وأنابيب طاقة وألياف ضوئية) وكأنه مشروع اقتصادي خالص، وليس مخططًا جيوسياسيًا جديدًا لفرض الكيان الصهيوني كهمزة وصل إجبارية بين الشرق والغرب بحيث لا يتحرك قطار الاقتصاد أو السياسة إلا عبر بواباته المحتلة في حين لم يوضح نتنياهو أين يقف الفلسطينيون في هذا "الممر السحري"، لكن من الواضح أنهم مجرد حفنة من العوائق التي يجب دهسها على سكة الحديد الجديدة، لضمان انسيابية البضائع... والهيمنة وما العدوان الصهيوني على غزة والضفة إلا بروفة دموية لتمهيد الطريق أمام "الممر الصهيوني" الذي يحلم به الكيان الصهيوني، حيث يعبَّد السكك الحديدية بدماء الفلسطينيين، ويرسَم خرائط الهيمنة على أنقاض بيوتهم. نتنياهو ورسوماته المفضلة بعد عام من نبوءاته المستوحاة من أوهام كان يتهامس بها في ليالي "تل أبيب" المظلمة بقيام "شرق أوسط جديد" تحت رعاية "السلام الصهيوني"- أي الهيمنة المطلقة للكيان الصهيوني- عاد بنيامين نتنياهو ليكرر خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولكن هذه المرة بصفته رئيس وزراء حكومة حرب، وليس زعيمًا للسلام كما يدّعي وفي 27 سبتمبر 2024م، ألقى خطابه أمام قاعة بدت شبه خاوية، بعد انسحاب بعض المندوبين وبدلاً من الحديث عن فرص السلام، كان الخطاب مليئًا بالوعيد، إذ اشتكى نتنياهو أن "لعنة السابع من أكتوبر"- أي عملية طوفان الأقصى المباركة الذي أفسدت حساباته وسحقت غطرسة كيانه– قد أوقفت قطار التطبيع السريع مع السعودية، وأجبرت إسرائيل على "الدفاع عن نفسها"، وهو المصطلح الذي يستخدم عادة لتبرير الحروب المتواصلة التي تشنها دولة الاجرام الصهيونية على الشعب الفلسطيني وجيرانها ولتكتمل القصة الدرامية، أكد أنه يخوض حربًا على ست جبهات، وفي استعراض أصبح طقسًا سنويًا، رفع نتنياهو خريطتين، الأولى سماها "خريطة النعمة"، التي ضمت الدول التي "تباركت" بالتطبيع مع كيانه السفاح وهي (مصر، السودان، الإمارات، البحرين، السعودية، والأردن، مع الضفة الغربية وقطاع غزة الملحقين بالكيان الصهيوني) وكأنهما مجرد أحياء جديدة في تل أبيب أما الخريطة الثانية، التي سماها "خريطة اللعنة"، فقد شملت (إيرانوسوريا ولبنان والعراق واليمن) وكأن التاريخ والجغرافيا بأكملهما يُعاد رسمهما على هوى رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني. الخريطة العجيبة قبل أن نرمي خريطة نتنياهو في سلة المهملات، دعونا ننظر إلى بعض "فوائدها العظيمة" فهذه التحفة الفنية لم تكن مجرد عبث جغرافي، بل وثيقة رسمية تعرّي المخطط الصهيوني بأدق تفاصيله لقد قرر نتنياهو، وبكل بساطة، أن فلسطين "غير موجودة"، وكأن الضفة الغربية وقطاع غزة مجرد بقع حبر يمكن مسحها بسهولة وكأن الرجل يقول للعالم: "حل الدولتين" الذي يتغنّى به بعض الساسة ليس إلا نكتة سمجة لم تنجح حتى بإضحاكنا" أما "محور النعمة" الذي تبجّح به، فلا يتعدى كونه محور "الخضوع الاقتصادي"، حيث يُراد لهذه الدول أن تتحول إلى أسواق استهلاكية لمنتجات الاحتلال، وممرات تجارية تعزز اقتصاده، بينما هي تكتفي بالمشاهدة وكم كان مضحكًا أن يتجاهل قناة السويس في خطته المزعومة، ليحرم مصر من أحد أهم مصادر دخلها، وكأنه يقول لها: "سيدتي، النعمة هنا في تل أبيب، أما أنتِ فاستعدّي لتلقي الفُتات" ثم يأتي السودان، الذي كان أخضر بالفعل قبل أن تمتد إليه الأيادي الصهيونية فتحيله إلى رماد من الفوضى والصراعات الأهلية وها هو اليوم، بعد أن أُنهك ودُمر، يُسأل: هل سيتمتع بالنعمة التي وعد بها نتنياهو، أم أنه مجرد منجم موارد سيتم نهبه لصالح "المعجزة الاقتصادية" الإسرائيلية...؟ خبير الخرائط التوراتية بنيامين نتنياهو لم يعد بحاجة إلى الحكومة ليقرر مصير المنطقة، فالرجل ببساطة هو "النسخة السياسية من التطبيق الشامل": موجود في كل مكان، يوجه القرارات، ويحدد من يستحق العيش ومن يستحق التهجير سواء كان في السلطة أم خارجها، يبقى المهندس الأكبر للأحلام التوسعية، والزعيم الذي يرى نفسه وريث بن غوريون، ولكن مع لمسة ليكودية أكثر جرأة... أو لنقل، أكثر غطرسة فمنذ أن أصدر كتابه "مكان بين الأمم"، وهو لا يتوقف عن رسم الخرائط، ولكن ليس تلك التي نعرفها، بل خرائط تتغير وفقاً لمصالح كيانه السفاح فالرجل لا يرى فلسطين بقدر ما يرى فيها عائقًا يجب إزالته، وتفاصيل سكانية يجب إعادة ترتيبها مشروعه واضح: "إسرائيل الكبرى" الممتدة من النيل إلى الفرات. الضفة الغربية في كتابه "مكان بين الأمم"، يتحدث نتنياهو عن الضفة الغربية وكأنها الحديقة الخلفية لبيته، لا يراها كأرض محتلة، بل كدرع واقٍ من "الأعداء" الذين يريدون ابتلاع إسرائيل فالرجل لديه منطق بسيط: "نحن هنا، وهم هناك، ولكن هناك هو أيضًا هنا"، أي أن الفلسطينيين قد يسكنون في الضفة، ولكن السيادة المطلقة يجب أن تكون بيد إسرائيل وكي يكون كلامه أكثر إقناعًا، يقتبس من مؤتمر فرساي قائلاً: "لقد تم التعهد لليهود بإقامة دولة في فلسطين، وشمل الوطن القومي آنذاك ضفتي نهر الأردن" والأكثر طرافة أنه يرى أن التخلي عن المستوطنات يعني أن إسرائيل ستُمحى من الوجود، فهو يحذر: "إذا وافقت إسرائيل على هذه المطالب، فلن يكون بمقدورها العيش طويلاً". السلام وفق مفهوم نتنياهو لا يحتاج القارئ العادي إلى ذكاء خارق ليفهم رؤية نتنياهو عن "السلام" فالرجل ينظر إلى الفلسطينيين وكأنهم مجرد مجموعة من السكان العابرين الذين على العالم العربي أن يجد لهم مأوى بعيدًا عن إسرائيل، إذ يقول في كتابة مكان بين الأمم: "الدول العربية هي التي خلقت مشكلة اللاجئين، وهي المسؤولة عن عدم حلها حتى اليوم" لكن المفارقة أن هذا الرجل نفسه يؤمن بأن من حق أي يهودي في العالم العودة إلى "أرض الآباء"، التي لاوجود تاريخي لهم اصلاً في أرض فلسطين أما الفلسطيني الذي يعيش هناك منذ فجر التاريخ، فعليه أن يبحث عن دولة أخرى وكي يقطع أي أمل في التفاوض، يصرّ: "يجب أن لا يُطلب من إسرائيل التفاوض بشأن أي جزء من القدس، ولا بأي ظرف من الظروف" ف نتنياهو لا يرى أن الفلسطينيين شعب يستحق دولة، بل يعتبر مطالبتهم بذلك خطراً على العالم كله فهو يقول بكل ثقة: "تطبيق المبدأ الفلسطيني سيلحق الضرر بحقوق الأقليات في العالم كله". أي أن الاعتراف بدولة فلسطينية قد يفتح الباب أمام كل أقلية في العالم للمطالبة بحقوقها، وكأن حقوق الإنسان أصبحت عدوى يجب مكافحتها. الطريق السريع نحو العزلة وتصفية القضية يراهن نتنياهو على توسيع التطبيع، معتقدًا أن التقاط الصور مع الزعماء العرب يمكن أن يعزل المقاومة الفلسطينية دبلوماسيًا وينسف قضيتها لكن بعد السابع من أكتوبر 2023م، لم يعد الموقف العربي كما كان فأغلب الحسابات العربية تغيرت بشكل جذري، مع عودة القضية الفلسطينية إلى قلب اهتمامات الشارع العربي والدولي بشكل أقوى من أي وقت مضى فمنذ بداية أكتوبر، ومع التصعيد الصهيوني في غزةوالضفة الغربية، تعرضت العلاقات العربية-مع الكيان الصهيوني لاختبار حقيقي ولعل ما حدث في هذا التاريخ كان بمثابة جرس إنذار للجميع، حيث ظهرت مشاعر غاضبة في الشارع العربي جراء استمرار العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، وهو ما جعل التطبيع مع العدو الصهيوني أمرًا مرفوضا وغير مرغوب فيه في العديد من الدول التي كانت في السابق تستعد لمثل هذه الخطوات وبالرجوع إلى استراتيجية نتنياهو في التطبيع، نجد أن إدارته كانت تركز بشكل كبير على أن هذه الاتفاقيات ستسهم في عزل الفلسطينيين وحركات المقاومة الفلسطينية وتصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي فبحسب هذا المنطق، كان الكيان الصهيوني يأمل بأن تضعف العزلة الدولية والعربية للمقاومة الفلسطينية، وبالتالي تمنحها مساحة أكبر للتوسع في الأراضي المحتلة واستكمال عمليات التهجير القسري للفلسطينيين وتعزيز مكانتها في المنطقة ومع ذلك، أدرك نتنياهو بعد السابع من أكتوبر أن العوامل الإقليمية والدولية قد تغيرت بشكل دراماتيكي وأن استراتيجيته قد اصبحت قديمة ولا تتماشى مع الواقع المتغير.. باختصار، فإن القطار الذي كان نتنياهو يركض للحاق به في طريق التطبيع قد غيّر مساره بشكل جذري بعد السابع من أكتوبر 2023م فلم يعد الموقف العربي كما كان، حيث أصبح من الواضح أن التطبيع مع الكيان الصهيوني لم يعد أولوية في العديد من العواصم العربية، بل أصبح يشكل عبئًا سياسيًا وفي الوقت الذي كان يراهن فيه نتنياهو على تسريع مسار التطبيع لعزل المقاومة الفلسطينية وتعزيز الهيمنة الصهيونية أصبح العكس هو الواقع، حيث عاد التركيز العربي والدولي على القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية في المنطقة. مشروع أمريكي بنكهة صهيونية مشروع "الشرق الأوسط الجديد" ليس فكرة عبقرية خرج بها بنيامين نتنياهو بعد جلسة تأمل عميقة، بل هو مسلسل طويل بدأ عرضه منذ التسعينيات، ونتنياهو مجرد ممثل في إحدى حلقاته الكاتب الأصلي الرئيس الصهيوني شمعون بيريز، الذي قرر في عام 1993م أن يبيع لنا حلمًا ورديًا عن شرق أوسط قائم على التنمية والرفاهية، حيث يعيش الجميع في سعادة أبدية، ولكن بشرط واحد (أن ننسى تمامًا أننا عرب ومسلمون، ونتعامل مع الصهاينة وكأن شيئًا لم يكن) ثم جاء الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في 2004م، وألقى على مجموعة الثمانية خطابًا مرعبًا عن "انفجار وشيك" في الشرق الأوسط بسبب الفقر والاستبداد وبالطبع، الحل كان جاهزًا (مشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث تتفضل واشنطن علينا بدروس في الديمقراطية، وتعلمنا كيف ننتخب زعماءنا- بشرط أن يكونوا خاضعين للبيت الأبيض) فكانت الفكرة ببساطة: إما أن تفتحوا حدودكم وأسواقكم لشركاتنا العابرة للقارات، أو تفتحوا بلادكم لصواريخنا العابرة للقارات. العرب.. بين المتفرج والمصفق وكما جرت العادة، عندما تُكتب سيناريوهات "إعادة تشكيل الشرق الأوسط"، لا يكون للعرب سوى أدوار هامشية بين الصامت والمصفق، تمامًا كما حدث بعد غزو العراق عام 2003 حتى الإمارات، التي تُعتبر رائدة محور التطبيع، لم تستطع إخفاء حماستها، فجاء تصريح أنور قرقاش ليؤكد على "أهمية استعادة مفهوم الدولة الوطنية"، وهو تصريح يمكن ترجمته عمليًا إلى: "انتهى زمن المقاومة، ولتبدأ حقبة التسويات المريحة"أما بقية الأنظمة العربية، ف شعار المرحلة لها هو: "المراقبة بصمت"، في انتظار أن يتضح المشهد، تمامًا كما حدث في كل محطة مصيرية من تاريخ المنطقة متناسين بأن التاريخ سيُثبت مجددًا أن كل محاولات إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط هي مجرد أوهام ستتلاشى مع أول اختبار حقيقي على الأرض. مهمة مستحيلة نتنياهو قرر مؤخراً أن يصبح "المهندس المعماري" للشرق الأوسط الجديد حيث لم يعد كيانه الشاذ وفق منطقه، مجرد كيان يسعى للاندماج، بل بات يعتبر نفسه "المقاول الرئيسي" الذي سيعيد تفكيك المنطقة وتركيبها وفق مخططاته لكن المشكلة ليست في تصريح نتنياهو بحد ذاته، فالرجل معروف بحبه للمبالغات الدرامية، بل في أن هناك من قد يأخذ كلامه على محمل الجد فبينما يحلم بتغيير وجه الشرق الأوسط حسب الشهية الصهيونية، فإن العالم الغربي الذي يمنحه الدعم المطلق بدأ يفقد هيمنته، وأصبح يعاني من "تقلص النفوذ الحاد"، حيث تلتهم الصين الأسواق، وتعيد روسيا ترتيب قواعد اللعبة العسكرية، فيما تقرر إفريقيا أخيرًا أن تقول "كفى" لفرنسا فنتنياهو الذي يتحدث عن إعادة تشكيل المنطقة يتناسى أن العالم الذي كان يُدار بضغطة زر من البيت الأبيض لم يعد كما كان، وأن واشنطن نفسها مشغولة بمشاكلها الداخلية أكثر من قدرتها على تمويل أحلامه التوسعية. الكيان العابر إذا كان هناك طرف يملك الحق في "تغيير الشرق الأوسط"، فهو بالتأكيد ليس نتنياهو، الذي يتقمص دور المهندس وهو في الحقيقة مجرد سمسار استعمار، ولا جوقة الاحتلال التي تتخيل أنها تستطيع رسم خرائط المنطقة، كما يحلو لها فالتاريخ لم يُسجل يومًا أن كيانًا استعماريًا استطاع الاستمرار إلى الأبد، مهما تفنن في القتل والتدمير والتآمر.. فإسرائيل، التي تحاول تسويق نفسها كقوة عظمى، ليست أكثر من كذبة صنعتها المصالح الغربية، ومجرد مشروع استعماري مؤقت، يسير بخطى ثابتة نحو المصير المحتوم الذي لاقته كل المشاريع المشابهة: السقوط المدوي في مزبلة التاريخ، أما نتنياهو، الذي يرى نفسه بطلًا للشرق الأوسط الجديد، فلا يبدو أنه يدرك أن المهندسين الحقيقيين لهذا المستقبل هم الشعوب الحرة، التي رغم كل الحروب والمجازر والتآمر، تظل تقاوم، وتظل تكتب بدمائها فصول الحرية القادمة، فلتبقَ إسرائيل اللقيطة تحلم بقيادة المنطقة، تمامًا كما يحلم اللص بأن يصبح شرطيًا، وكما يتخيل الفأر أنه ملك الغابة أما الحقيقة، فهي أن الشعوب التي ترفض الاحتلال والاستبداد هي وحدها القادرة على صناعة التاريخ، بينما الكيانات المصطنعة، مهما ادّعت القوة والتفوق، ستنتهي إلى مجرد فقاعات تختفي عند أول عاصفة من الإرادة الحقيقية .