لقد انتصر الدم على السيف، وانتصرت غزة، لتكشف عن حقيقة مرة: لقد انهزم العرب الذين حسبوا النصر والهزيمة بلغة الخنوع والانبطاح. هذه هي الحقيقة المزلزلة التي لا يعترف بها إلا من عاش الألم والوجع في غزة. أما القاعدون والمخدرون بترياق الاستسلام، فسينكرونها ويشككون بها بالطبع. لا تُعيروا اهتماماً لحساباتهم الباردة. هم يحسبونها بلغة الأرقام، وحسابات الأرباح والخسائر المادية، كأنها صفقة تجارية. أما نحن، فنحسبها بلغة الثبات الأسطوري، وحسابات الصمود الذي يكتب التاريخ. هم ينظرون إليها من واقع الاستسلام والخنوع المُذِلّ. أما نحن، فننظر إليها من واقع الشموخ والعزة والكرامة. المستجدات الدولية تثبت النصر: تصريح ترامب وما بعده إنّ الإقرار بالانتصار لا يأتي فقط من ميدان القتال، بل من صدى هذا الميدان في عواصم العالم. أما وأننا نتحدث عن المستجدات، فقد جاء تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليؤكد هذه الحقيقة: "لقد تحوّل الرأي العام العالمي ضد إسرائيل، وأصبحت المقاومة هي القوة المهيمنة على السرد العالمي". هذا الاعتراف، الصادر من أعلى مستوى سياسي مؤثر عالمياً، هو بحد ذاته صك نصر للمقاومة، وشهادة دولية على أن الرواية قد انقلبت لصالح صمود غزة. لكن الإقرار تجاوز تصريح ترامب إلى أبعاد أعمق: * اعتراف المحتل نفسه بالعجز: الهزيمة ليست فقط في الفشل بتحقيق الأهداف المعلنة (القضاء على المقاومة واستعادة الأسرى بالقوة)، بل في الاستنزاف الداخلي غير المسبوق: استقالات سياسية متتالية، انقسام عميق في مجلس الحرب، تدهور حاد في الاقتصاد، وصدمة نفسية واجتماعية تتجلى في رفض مئات الآلاف من الشباب للخدمة العسكرية أو محاولات الهجرة. * انهيار الجبهة الدبلوماسية: ظهور دول أوروبية كبرى تعترف بدولة فلسطين رغم التهديدات، إضافة إلى ملاحقة قادة الكيان في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. هذه الملاحقة ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي نزع لشرعية "حق الدفاع عن النفس" الذي كان المظلة الدائمة للاحتلال. * إيقاظ "العمق العربي والإسلامي" المكبوت: المستجد الأهم هو عودة القضية الفلسطينية لتكون البوصلة الحقيقية للشعوب، وتحريك الشارع الغربي والأمريكي نفسه في مظاهرات غير مسبوقة تندد بالاحتلال وتدعم المقاومة. وهذا دليل على أن الدم أيقظ السيف الصدئ في قلوب أمة ظُن أنها ماتت. تعريف الهزيمة.. وتدنيس شرف المواقف ما هي الهزيمة أصلاً؟ الهزيمة هي أن تُسلّم كلياً بانتصار العدو، وتُخضع خياراتك لكافة شروطه دون قيد أو شرط، مع دفن أي نية لاستئناف المقاومة. فهل حلت المقاومة نفسها؟ هل سلمت بإرادة المحتل؟ أم أنها لا تزال تفرض شروطاً وترفض شروطاً، وهي من يحدد التكتيك الآن والمستقبل؟ ما لكم كيف تحكمون؟ إن انتزاع المقاومة لقرار وقف إطلاق النار - ولو مؤقتاً - من هذا العدو المُحتار والمُتعجرف، بعد كل هذا الصمود الأسطوري الذي تجاوز العامين، هو انتصار استراتيجي لا يمكن تجاهله. المقاومة هي وحدها من يحق له أن يعلن النصر أو يقر بالهزيمة، وليس بعض القاعدين والمُفسبكين والمغردين الذين لا يرون أبعد من شاشاتهم. الهزيمة الحقيقية: هزيمة العواصم المتخاذلة الهزيمة الكبرى هي هزيمة العواصم العربية التي اختارت الصمت أو التطبيع، وهي تتفرج على تدمير غزة. هذه العواصم هي من ارتضت أن تكون جزءاً من "الشرق الأوسط الجديد" الذي تحدثنا عنه في كتابنا، المُراد به أجندة صهيونية تهدف إلى تصفية القضية وتفتيت المنطقة. * هزيمتهم كانت في العجز: عجزوا عن إدخال الغذاء والدواء بكرامة، وعجزوا عن استخدام ورقة النفط أو التهديد السياسي، بل والأدهى أنهم عجزوا عن إصدار بيانات قوية موحدة! * هزيمتهم كانت في الرؤية: حينما تخلوا عن خيار المقاومة كخيار وحيد لاسترداد الحقوق، واعتبروا أن الطريق إلى الاستقرار يمر عبر الرضوخ لإملاءات الغرب. غزة، بدمها وصمودها، كشفت هذا العفن، وأثبتت أن الكرامة أغلى من كل صفقات التطبيع، وأن الصمود قادر على إسقاط مشاريع بأكملها. النصر اليوم يُقاس بمدى صمود الإرادة، ومدى قدرة غزة على تغيير الخارطة السياسية العالمية، وهذا ما تحقق بامتياز. استمعوا إلى صوت الميدان، فهو الحَكم. وأعيرونا صمتكم.