أحمد سيف حاشد ونصه "حرمان وشدّة..!" في قراءة تحليلية متنوعة بمساعدة وتقنيات الذكاء الاصطناعي. "حرمان وشدّة" هو أكثر من مجرد ذكريات طفولة؛ إنه نقد لاذع للتربية القمعية ومرثاء لبراءة مفقودة، ومحاولة متسامحة لفهم جذور الألم. تصنيف النص ينتمي هذا النص إلى أدب السيرة الذاتية، وتحديدًا إلى ما يمكن تسميته بأدب الاعترافات، إذ يكشف الكاتب بجرأة وشفافية عن أسراره الداخلية ومواضع ضعفه وتمرده. يتجاوز النص حدود الحكي المباشر ليقترب من اللغة الشعرية في تصوير الألم والحرمان، مستعينًا بإيقاع وجداني يجعل التجربة أكثر قربًا وتأثيرًا. ويمثل النص نموذجًا لافتًا من السيرة الذاتية العربية المعاصرة التي تمزج بين السرد الواقعي والتحليل النفسي والاجتماعي. فهو يجمع بين صدق البوح، وعمق التأمل، ودقة استحضار التفاصيل التي تمنح التجربة طابعها الإنساني العميق. بهذه المزاوجة، يقدّم الكاتب نصًا يقف في منطقة وسطى بين القصة الذاتية، والكتابة الشعورية، والنقد الداخلي للتنشئة والسلطة الأبوية مقدمة : حينما تختنق البراءة بين المنع والوجع يأتي نص «حرمان وشدّة..!» للكاتب اليمني أحمد سيف حاشد بوصفه صرخة طفولة مكتومة، ونافذةً مفتوحة على روح خُطّت ملامحها بنار الحرمان وغصّة الوجع. لا يقدّم الكاتب سرداً عادياً لذكرياتٍ انطوت، بل يستدعي بصدقٍ جارح ولغةٍ نابضة ذلك الطفل المعزول الذي كان يختنق بحسرة كلما رأى أقرانه يلهون، بينما تُحكم أوامر الأب قبضتها على مساحة حريّته الصغيرة. إن النص ليس مجرد حكاية عن طفل مُنع من أبسط حقوقه في اللعب والفرح، بل هو رحلة في الذاكرة الجريحة، ومحاولة لالتماس الحكمة خلف قسوةٍ قديمة. يرفع الكاتب ستار السنين ليكشف كيف تتشكل الهوية المتمردة في ظل المنع، وكيف يظل أثر الطفولة محفوراً في النفس، يذكّرها بما قاومته وما بقي منها. بهذا المعنى، يرتقي «حرمان وشدّة» من حدود التجربة الشخصية ليصبح شهادة إنسانية واسعة، تنتقل بالقارئ إلى أعماق طفولة ممزقة بين براءتها الفطرية وقسوة الواقع الذي تم فرضه. النص مرآة عاكسة لعلاقات السلطة داخل الأسرة، وآثار الحرمان على تشكيل وعي رفض الاستكانة. في هذه الكتابة، يتحوّل الألم إلى مرآة، والذاكرة إلى كتابة، والطفولة إلى وعيٍ أعمق بمعنى الحرية المسلوبة والنجاة المشتهاة. ملخّص النص : طفل يسرق الفرح من ظل أبيه هذا النصّ هو تنهيدةُ طفلٍ كان الفرحُ فيه لعبةً مسروقة، يلتقطها خلسةً قبل أن يُبدّدها صوتُ الأب وهيبته. يسترجع الكاتب طفولته المثقوبة بالمنع، حيث كانت حسرةُ اللعب واللهو أكبر من ذاكرة القرية وأصعب من جبالها. يروي أحمد سيف حاشد قلبًا صغيرًا ممزّقًا بين رغبة الانطلاق وخوف العقاب، قلبًا لم يُمنح حرية السباحة ولا متعة الزفاف، واختُزل ذلك في مفارقة موجعة: "ضربوني على الصلاة، ولم يعلّموني السباحة." دفعت القسوةُ الطفلَ إلى التمويه والتمرد الهشّ: استغلال غفلة الأب، اللعب كمن يسرق لحظة حياة، ثم العودة إلى العقاب الذي كان يسقط على رأسه دفعةً واحدة. وكانت "الهفسنة" أو الهروب من المدرسة إلى التدخين ذروة ذلك التمرد اليائس، التي كشفت له عمق الشرخ بين الطفل وحلمه، وبين الأب وسلطته. يُبصر الكاتب في طفولته وجهاً آخر للألم حين يرى آباءً يعاملون أبناءهم بلطفٍ ورفق، فيغبطهم ويتساءل: لماذا لم يكن له نصيبٌ من تلك الحفاوة؟ ورغم الجرح، يحتفظ بنضجٍ إنساني خاص حين يتمنى لو أنّ أباه عاقبه بلين، أو لاحقه بالمحبة بدل الصرامة. وفي التفاتة واعية، يعترف بأنّه — رغم وعيه — قد وقع في شيء من تكرار القسوة نفسها مع بعض أبنائه، تائهاً في زحام مسؤولياته، كما كان والده من قبل. وهكذا يتبدّى له أنّ دائرة الألم قد تتكرر، وأن لكلّ من الأب والابن عذره عندما تضيق الحياة. يختتم النص بوعيٍ متصالح: تعاطف مشوب بندمٍ هادئ، وفهمٍ أعمق لِما كانت عليه التربية القاسية، ولِما أورثته من شقوقٍ في الروح. إنه نصّ يكتب مأساة التنشئة بصدقٍ وحنين، ويصالح بين قلبٍ مجروح وقسوة أيامٍ لا ترحم؛ بين طفلٍ كان يبحث عن فسحة لعب، ورجلٍ يسعى اليوم ألا يورّث الفقد ذاته لأطفاله قراءة ملامح شخصية الكاتب في ضوء النص يكشف النص عن شخصيةٍ شفّافةٍ وعميقة، تتكوّن ملامحها من ثلاثة خطوط رئيسية: 1. رهافة الحس وعمق الذاكرة الكاتب صاحب إحساسٍ مرهفٍ يلتقط التفاصيل الصغيرة كأنها ندوب قديمة لم تُشفَ بعد. ذاكرته حادة ومخلصة، تحفظ الأسماء والوجوه والألعاب كأنها جزء من هويةٍ ظلّت تنمو تحت وطأة الحرمان. إنه يكتب بروحٍ ترى الألم في الفرح المسلوب، وتحوّل الذكرى إلى شهادة شخصية. 1. التمرّد الحكيم والبحث عن العدل يظهر الطفل مقاومٌ هادئ، لا يثور بعنف بل يتحايل على القسوة ليحفظ حقه في اللعب والحياة. تمرّده ليس نزقًا، بل دفاع عن إنسانيته. ووعيه بالمفارقات القاسية الضرب على الصلاة مقابل إهمال السباحة يكشف عن توقٍ مبكرٍ للعدل والتوازن. 1. النضج المتسامح والتصالح مع الذات على الرغم من جراح الطفولة، يميل الكاتب إلى التفهّم وتخفيف الأحكام، فيقدّم لأبيه العذر، ثم يعترف بوقوعه في بعض أخطائه لاحقًا. إنها حكمة من تعلّم كيف يرى البشر في هشاشتهم لا في قسوتهم؛ حكمةُ من يعرف أن الغفران هو أرفع أشكال الوعي. الرسالة : ومضةُ الفهم الأخير : الكاتبُ يُعلِّمنا كيف تتحوّلُ الحسرةُ إلى نورٍ، وكيف يرتقي الألمُ إلى مقامِ الفهم. يمنحُنا شجاعةَ النقدِ الذاتيّ حين يعترفُ بتكرارِ خطأ أبيه، مؤكّدًا أن الوعيَ هو القوّةُ الوحيدةُ القادرةُ على كسرِ حلقةِ القسوةِ المتوارثة. ويقدّم رؤيةً نبيلةً للحبّ، حين يتمنّى أبوةً «تعاقبُ دون شدّة، وتتابعُ بحبّ». إنه نصٌّ يحتفي بانتصار الروح الناضجة؛ الروح التي تُدرك أن قسوةَ الإنسان ليست سوى ظلّ أثقاله، وأن الرحمة هي أرقى أشكالِ العدل الإنساني القراءة النفسية: حين يتكلّم الطفلُ المختبئ في الذاكر يكشف النص عن أثر تربيةٍ صارمة صنعت خوفًا مبكرًا وخجلًا وشعورًا بالنقص، تركت في النفس حسرةً طويلة وانسحابًا داخليًا. – استجابات طفلٍ يبحث عن النجاة : الكذب الصغير، التخفّي، والهروب إلى لحظة لعبٍ مسروقة كانت وسائل دفاعٍ فطرية لحماية الذات من القسوة. وتحتها تختبئ دموعٌ محبوسةُ الأثر في الثقة بالنفس والعلاقات القريبة. – جوعٌ إلى أبٍ مختلف : غبطةُ الكاتب للآباء الحنونين تكشف حاجةً عميقةً لحضنٍ أبويٍّ مفقود، وسؤالًا يتردّد في أعماقه: «لماذا لم يكن أبي مثلهم؟» – صراع الداخل : يتصارع الطفل بين رغبة اللعب وصرامة السلطة الأبوية؛ صراعٌ يصنع عقدةَ نقصٍ وشعورًا دائمًا بالحرمان حتى بعد البلوغ. – حبٌّ وخوفٌ في قلبٍ واحد: المشاعر المختلطة تجاه الأب – الخوف، الغضب، ومحاولة الفهم – هي ملامح العلاقات الأسرية المضطربة. – وعيٌ يفتح باب الخلاص : محاولة تبرير قسوة الأب، ثم الاعتراف بضرورة عدم تكرارها مع الأبناء، تكشف ضميرًا ناضجًا يدرك أن الوعي قادرٌ على كسر إرث القسوة... وأن الرحمة هي آخر ما يبقى من عدالة القلب قراءة اجتماعية مكثفة يضعُ النصُّ التجربةَ الطفوليةَ داخلَ بنيةٍ ريفيةٍ تحتَ سلطةٍ أبويةٍ القسوةُ فيها صدى مُتجسِّدٌ لضغوطٍ اقتصاديةٍ ومعيشيةٍ خانقةٍ. * ترويضُ الطفولةِ: تُروَّضُ الأرواحُ الغضّةُ بالعنفِ بدلَ الرعايةِ، وتُعلَّمُ الطاعةُ قبلَ الفهمِ، ممَّا يجعلُ التربيةَ قائمةً على الخوفِ. * مرآةُ المجتمعِ: المقارنةُ بينَ الآباءِ تزيدُ إحساسَ الطفلِ بالظلمِ؛ فالمجتمعُ يصبحُ محكّاً يُعمّقُ الجرحَ. * التفككُ العاطفي: الرابطُ العاطفيُّ هشُّ. فالبيتُ ليسَ حضناً، بل مساحةُ عملٍ وصمتٍ وواجباتٍ صلبةٍ، ويبقى القلبُ يتوقُ إلى دفءٍ مفقودٍ في كنفِ الأسرةِ. القراءة الأدبية والجمالية للنص فن السرد والتكوين يعتمد النص على السيرة الذاتية الوجدانية، بنبرة تأملية حميمية عبر سرد مكثّف بضمير المتكلم (الزمن الماضي). يتعمّق هذا السرد بتقنية الاسترجاع التذكّري (الفلاش باك)، ويُضفي عليه التكرار المدروس إيقاعًا شعريًا لافتًا. وتبرز براعة الكاتب في البنية السردية التي تتنقل بين السرد الحادثي للذكريات والتحليل الفلسفي، خالقةً توترًا خلاّقًا يلامس الذاتي والسياسي. اللغة والتصوير اللغة مؤثرة وعميقة، وتتميز باستخدام مصطلحات محلية تمنح النص توطينًا حسيًا وصدقية. المفردات قوية ذات دلالة حسية ونفسية عميقة. يكمن الإبداع في قوة التصوير والمجازات التي تنقل الألم العاطفي إلى صور مادية محسوسة، وهي صور قوية وفعّالة في الإثارة، مع الحفاظ على الاقتصاد والابتعاد عن الميوعة. أهلاً بك مجدداً. النص غني بالتحليل، لكنه يحتوي على تكرار وبعض التداخل في النقاط. سأعمل على تنظيمه وصياغته بأسلوب أكثر سلاسة وتكثيفاً، مع دمج الأفكار المتشابهة تحت عناوين رئيسية لزيادة الوضوح والشاعرية. مكامن القوة والجمال * صدق التجربة وملموسيتها: ينبض النص بالواقعية وعمق الأثر النفسي؛ حيث أن التفاصيل الحسية (كالألعاب، والأماكن، والأسماء المحلية) تمنحه عمقاً نفسياً ملموساً وتضفي على السرد عفوية وصدقاً خالياً من التكلف. * التوازن النفسي والأخلاقي: يتجاوز النص الشكوى الشخصية ليقدم تحليلاً نفسياً واجتماعياً ناضجاً. وتظهر قدرة الراوي على الاحتفاظ بالتعاطف مع الأب رغم الألم، مما يضيف إليه بُعداً إنسانياً عميقاً. * البُعد الاجتماعي الواسع: لا يقتصر النص على كونه اعترافاً شخصياً، بل يربط الحالة الفردية بالظروف الأسرية والاقتصادية المحيطة، مما يمنحه رؤية أوسع وأكثر شمولية. * اللغة المركزة والمؤثرة: يعتمد الكاتب على جمل قصيرة ومتوازنة وتكرارات هادفة تظهر الألم بلغة مباشرة ومؤثرة، ونجح في نقل مشاعر الطفولة بألمها وبراءتها في آن واحد. * البناء المحكم: يتميز النص بتنظيم داخلي متقن، إذ ينتقل ببراعة من وصف الحرمان إلى أسباب التمرّد، ثم إلى محاولة التفهم والنقد الذاتي لتلك التجربة. مواطن الضعف أو التساؤلات الفنية يمكن النظر إلى بعض الجوانب على أنها تحتاج مزيداً من الصقل أو الاستكشاف: * قد يشعر القارئ بوجود إطالة في بعض المقاطع، حيث تتكرر ثيمات الحسرة والمنع دون إضافة زاوية جديدة أو كشف درامي يغني القوس النفسي للراوي. فمن الضروري أن يقدّم كل استدعاء للذكرى بُعداً مختلفاً. * ينتهي النص بنهاية مفتوحة نسبياً؛ إذ يكتفي بإشارة إلى انشغالات الراوي البالغ دون استكشاف تحوّلات أعمق أو التفكّر في أثر الحرمان المباشر على الكتابة أو السلوك البالغ. * رغم أهمية التشبيهات القوية، إلا أن الإفراط في استخدامها قد يجعل النص حاداً أحياناً. فالاقتصاد في الصور يزيد من وقعها وتأثيرها. مقاربات – مع رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري كلاهما يسرد طفولة قاسية في بيئة فقيرة، مع وجود عنف أبوي مفرط. بيد أن وجه الاختلاف: عنف شكري أكثر قسوة وجرأة في الوصف، ويركز على الجانب المادي للفقر والانحدار. بينما عنف حاشد أكثر نفسيًا ومركزًا على الحرمان من الفرح واللعب في بيئة قد لا تكون بذات الفقر المدقع لشكري. – يُلاحظ تقاطع النص مع أعمال محمد عبدالولي التي تتناول البيئة الريفية القاسية وعوالم الطفولة الباحثة عن لذتها في الخفاء، كما يتضح من ممارسة "الهفسنة" (التدخين) في نص حاشد. لكن الاختلاف يظهر في زاوية التناول: إذ نجد أن عبدالولي يميل إلى التركيز على صراعات البالغين في المجتمع اليمني، بينما يخص حاشد طفولته بالتحليل، مسلطًا الضوء على الصراع بين الطفل والسلطة الأبوية. – مع "الأيام" لطه حسين: كلاهما سيرة ذاتية تركز على طفولة صعبة في بيئة ريفية محافظة، مع وجود معاناة مع الإعاقة (العمى عند طه حسين) والحرمان (عند حاشد). – مع أفكار الطبيب النفسي أليس ميلر (في كتاب "الدراما الموهوبة للطفل"): وجه الشبه: ميلر تتحدث عن كيف أن "التربية السامة" التي تقمع مشاعر الطفل وحاجاته تلحق به أذى نفسيًا عميقًا يظل معه حتى البلوغ. هذا ما يجسده النص تمامًا. * وجه الاختلاف: النص هو تطبيق عملي وعاطفي لأفكار ميلر النظرية، مقدمًا عبر قصة شخصية مؤثرة. خاتمة يُعدّ نص "حرمان وشدّة..!" لأحمد سيف حاشد قطعة أدبية بليغة وشهادة وجدانية صادقة تتجاوز حدود التجربة الشخصية لتلامس قضايا تربوية واجتماعية وإنسانية أعمق. لقد نجح الكاتب في تحويل ألم الحسرة الطفولي إلى مادة للتأمل والنقد الذاتي والمجتمعي، عارضًا كيف يمكن للأعباء الاقتصادية و"الوعي المعطوب" أن يحوّلا الأب المحب إلى سلطة قاسية، وكيف أن هذا العنف يتسلل عبر الأجيال. إنَّ الرسالة النهائية للنص تكمن في ذلك التوازن الإنساني والأدبي الذي وصل إليه الراوي: فبدلاً من أن يتحول إلى نعيٍ مرير، يصل إلى إدراك أخلاقي يربط بين خصوصيته وظروف والده، مانحًا النص قيمة تتجاوز مجرد التذمّر إلى محاولة فهم ورعاية للمسؤولية. ينجح النص في أن يكون صوتًا لكل من عاشوا طفولة محاصرة، ويذكّرنا بأن جراح الطفولة لا تندمل بسهولة. إنه دعوة مؤثرة لكسر حلقة العنف الموروثة، عبر التسامح مع الماضي والتعلم منه، والتأكيد على أن الحب والحوار هما الأساس في بناء شخصية سوية، وأن القسوة، مهما كانت مبرراتها، لا تترك إلا ندوبًا عميقة في النفس. نص "حرمان وشدّة..!" أحمد سيف حاشد كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته. المنع يكشّر أنيابه ومخالبه في وجه طفولتي المتعبة. الواقع يتجهم في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه في أن ألعب وألهو وأفرح كغيري من الاطفال. تبتلعُ الحسرةُ وجودي كلما أشعرني الوجود أن الحياة ما يزال فيها ما يسر، أو تخبرنا الحياة أنها تستحق أن نعيشها. يحوّطني كثير من الحزن، ويثقلني كثير من الألم. كنتُ أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون, ويعيشون حياة طبيعية لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب ولهو إلا بالحد القليل المسوّر بالمحاذير، والوقت الذي يظلم صاحبه.. أنا مقموع بالأوامر وبسلطة تشبه القدر الذي لا ردَّ له. إذا ما أغاث الله قرانا ونزل المطر وسالت الجدران، كان أقراني من قريتي ومن "المرِّيبة" و "القرِّيعة" و"الفَقرَة" يذهبون للسباحة فيما يسمى "القلت" في "معينة شرار" فيما أنا الممنوع أن أذهب إليه بأمر لا يقبل الجدل. لقد استطعتُ أن أرتاده مرتين بما يشبه المعجزة، ولأنني لم أتعلّم السباحة كدتُ أغرق، وأثناء الغرق شربتُ ماءً وطحالب. ضربوني على الصلاة كثيراً، ولم يعلِّموني السباحة.. مفارقة عشتها في طفولة مكرّسة بالمنع والحرمان. أقراني يذهبون إلى حفلات الزفاف القريبة والبعيدة. يرقصون على الطبل والغناء والمزمار الشجي. الأطفال ينتشون ويستمتعون، فيما أنا بحسرة أسمع من بعيد دق الطبول، وغناء الغانيات، وكم تمنيت أن أكون حاضراً، وتمنيت أكثر أن أكون فناناً أو راقصاً أو نافخ مزمار. أمنيات حضوري حفلات الزفاف، مصلوبة بالمنع والمحاذير. أنا الممنوع من الذهاب إلى حفلات الزفاف إلاّ بقدر نادر, وقليل في زواج قريب أحضره وأنا مثقلٌ بحيائي الكبير. لطالما شعرتُ بحرماني من اللهو والفرح وسعادة احتجتها، وبخلت الأيام أن تعطيني منها إلا أقل من القليل!! حتى حضوري زفاف القريب لم يخلُ من تنغيص وتكدير. أذكرُ حضوري الزفاف الأول لابن عمّي عبده فريد عندما فضحني أحدهم، وكان قليل الحياء وسليط اللسان وكشف أمري أمام الحضور أنني لا أذهب إلى المدرسة، بل أذهب إلى أسفل "موجران" "أمورب"، ويقصد نشرب سجائر "مارب" و "يمن" الرخيصة والمهرّبة، ثم نعود وكأننا عُدنا من المدرسة، فيما نحن لا نصل إليها. كنّا نسمّي ما نفعله يومها أنا وزملائي ب "الهفسنة".. وعندما علم أبي بالأمر طالني ضرباً وعقاباً شديدا. ربما كان ابي محقّاً إلى حدود ما، إلا أن الأحق في تقديري أو الحق كما أراه لو كان نصحني وعاقبني بلين، لربما استحيتُ وخجلتُ منه، أو كان على الأقل يعاقبني دون شدّة، ويتابعني بحب، ويتعقّب خطاي وما أفعله ليساعدني على تجاوز ما أنا فيه. ولكن ما يؤسفني اليوم أكثر أنني ما تمنيتُ أن يفعله أبي في الأمس البعيد، لم أفعله أنا اليوم مع بعض أولادي، أحاول اليوم أن ألتمس له ولي العذر، وقد صرتُ أباً لسبعة بنين وبنات، وغرقتُ في مشاغلي وفي نفسي، وفي الشأن العام الذي أخذ من وقتي كثيره وقليله. * * * أقراني هم جارنا سعيد نعمان وأخوه أحمد، وأبناء العم بكيل وعبده وصالح، وأبن العمة حسن على راجح، وأبناء المرشدي، وصلاح صالح، وعيال يزيد، و"المرّيبة" وأبناء "الحَجر" وغيرهم، يلعبون ألعاب الكُرة من القدم إلى "البصيعية" وألعاباً أخرى مثل "الأمان والحبس". و"الدويس" و"الغماية" وغيرها من الألعاب الرائجة في أيامنا تلك، فيما أنا يتم التضييق عليّ، حتّى أحسستُ أن مساحة حرّيتي في اللعب لا تزيد عن مساحة زنزانة صغيرة أحاول اختلاس النظر والتنفُّس من كوّة صغيرة فيها. ومع ذلك كنتُ أستغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، وأشرُد منه كالغزال، وأنغمس في اللعب حتى شحمة الأذنين، ولكنه كان انغماساً لا يطول، ولم تكن غفلة أبي إلاّ قصيرة، وكانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، ولكنها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي. كان أبي سرعان ما يفتقدني، ويصرخ في مناداتي، فما إن أعود إليه، حتى يطالني بعقاب كامل ودفعة واحدة، لا تقسيط فيه ولا تأخير، عقاباً على تمرّدي القليل عن طاعته وسلطته وولايته. كنتُ استغلُّ أحياناً ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، فألهو وألعب دون أن أتعب أو أمِل، فيما كانت جدّتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها يشبه الغرغرينا، حبيسة بيتها رأس الجبل، وكانت من مفرجها المطل، ما إن ترى أبي في أول الوادي عائداً إلى بيتنا، حتى تناديني وتبلغني بشفرة اسمي؛ وهذا يكفي أن أعود مهرولاً إلى بيتنا، وأبدو في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والده في عدم الخروج واللعب في غيابه. هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب، والتخفّي والتمرُّد عليها في حدود ما هو ممكن ومتاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحمّلتُ قسوة النتائج بصبر ومجالدة، وربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبّر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة والتسليم لسلطة أبوية بدت لي طاغية. كنتُ أغبط أقراني الأطفال، وأنا أرى آباءهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، ويفيضون عليهم بوافر المحبة.. لازلت أذكر على سبيل المثال فتوان كيف كان يتعامل مع أبنه عبدالباسط، وعبدالكريم هزاع وابنه محمد حالما كانا يقضيان إجازة العيد في القرية، فيما كنتُ أنا أمضغ جروحي، واحشو عقلي الباطن بالأسى والحسرة، وأختنق بعبراتي المحبوسة، وأُذبحُ بغصص كالسكاكين. كنتُ أسأل ربي بمرارة واختناق: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقني هذا الرب في مكان أخر من الكون، وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ المهم هو أن تكون أمّي معي، فلا قدرة لي على فراقها. كنتُ أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ولين، بل وتقدير وعلو شأن أيضاً، وكأنهم كبار في عمر آبائهم و وولاة أمورهم! ورغم تمرّدي لم أفكّر يوماً أن أسجّل بطولة عليه فيما أكتبه، بل أحاول ألتمس له العذر أو بعض عذر. فيه ما يخصّهُ من ظروف ونمط تفكير وطبع ومزاج، وفيه ما يخص الواقع المر الذي نعيشه، والاستلاب الفاحش، والتنشئة المشوَّهة، والوعي المضطرب أو المعطوب. وبين الخاص والعام وجدت نفسي ضحية عالقاً في واقع أكثر وزراً، يعيش القسوة والعنف والاستلاب. * * * كان أبي يعيش زحمة مشاغل وتوتُّر، ومسؤوليات تفوق طاقته وطاقة أمي. كانت المشقّات والمسؤوليات كثاراً. دكان، وبيع وشراء على مدار النهار وحتى مدخل الليل بحين، ورعاية إخواني الصغار تحتاج أيضاً لكثير من الاهتمام، وصناعة الحلاوة وبيعها، وفلاحة الأرض، وتعدد الأعمال بها بحسب المواسم والحصاد إذا جاء، وكذا لا أنسي أنه صار لنا بقرة وحمار وثور وأغنام، ومسؤوليات وتفاصيل كثيرة، صارت تثقل كاهل أبي وأمي المتعبين. كانا في مرحلة من حياتهما يغرقان في العمل كثيراً، ومن الفجر حتى الساعة التاسعة ليلاً وبعدها أحياناً.. كنت أعلم أنهما مثقلان بالكثير من المهام وتفاصيل وضغوط الحياة اليومية تلك، وكنتُ أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية كونني كبير الأشقّاء، وكانت فسحتي قليلة، واللعب مع أقراني قليلاً، أو غير متاح، وفي أحايين كثيرة أجد "فرماناً عثمانياً" من بابه العالي فعالاً يقول "ممنوع اللعب" فيكون منّي الالتزام، ويكون منّي التمرد أيضاً، مهما كانت كلفته.