أحمد سيف حاشد كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته .. تكسّر أجنحتي، و تطيح بجمجمتي .. تُهشّم أضلاعي حتى تختلط ببعض؛ فتبدو البشاعة مرعبة في وجه طفولتي المتعبة، و يتجهم الواقع في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه، في أن ألعب و ألهو و أفرح، مثل غيري من الاطفال.. تبتلع الحسرة وجودي الحقيقي الذي أحبه، و كلما يشعرني إن الحياة لا تزال رائعة، و أنها تستحق أن نعيشها، فيما تترك بقاياي كعصف مأكول .. و معها كثير من الحزن و الألم و الغصص.. كنت أرى أقراني الأطفال يلهون و يلعبون و يعيشون حياة لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب و لهو، مقموع بالأوامر الصارمة، و بسلطة تشبه القدر الذي لا رد له.. كنت استغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، و أشرد عنه، و أنغمس في اللعب حتى الاذنين، و لكنه كان انغماسا لا يطول، و لم تكن غفلة أبي إلا قصيرة، و كانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، و لكنها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي .. كان أبي سرعان ما يفتقدني، و يصرخ في مناداتي، فما أن أعود إليه، حتى يطالني بعقاب كامل و دفعة واحدة، لا قسط و لا تأخير فيه، على تمردي القليل عن طاعته، و الشارد عن سلطته و ولايته.. كنت استغل أحيانا ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، و ألهو وألعب دون أن أمل أو أتعب، فيما كانت جدتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها، حبيسة بيتها رأس الجبل و مفرجها المطل على الوادي، و ما أن ترى أبي في بداية الوادي عائدا إلى بيتنا، حتى تناديني و تبلغني بشفرة اسمي؛ و هذا يكفي أن أعود مهرولا إلى بيتنا، و أبدوا في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والدة في عدم الخروج و اللعب في غيابه .. هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب و التخفي و التمرد عليها في حدود ما هو ممكن و متاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحملتُ قسوة النتائج بصبر و مجالدة، و ربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة و التسليم.. كنت أغبط أقراني الأطفال، و أنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، و يفيضون عليهم بالمحبة و الرجاء، فيما كنت أنا أمضغ جروحي، و أختنق بالعبر، و أُذبح بغصص كالسكاكين. كنت أسأل ربي: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء..؟! لماذا لم يخلقنِ هذا الرب في مكان آخر من الكون، و في الكون متسع غير بيت أبي..؟ المهم هو أن تكون أمي معي، فلا قدرة لي على فراقها.. كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق و لين، بل و تقدير أيضا و كأنهم كبار في عمر آباؤهم..؟!. كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: "اضرب ابنك و أحسن أدبه، ما يموت إلا من وفي سببه" و كانت الفكرة لدى أبي في التربية "الضرب يشحط" و يجعل الرجال أفذاذا .. كان أبي يعتقد أنها تربية مجربة، و قد أتت أُكلها من قبل، و بما رام و أرتجى.. أنا و أبي – ربما – كل منا كان يقرأ الأمور بطريقته، و كل منّا يرى الحق معه .. و رغم تمردي لم أفكر يوما أن أسجل بطولة عليه، بل ربما التمس له العذر أيضا، أو بالأحرى أحيانا. إن الواقع مر، و الاستلاب فاحش، و التنشئة مشوَّهة، و الوعي معطوب .. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة و العنف و الاستلاب. ربما من أسباب التضييق على حياتي من قبل أبي، ترجع في بعضها إلى كونه يعيش زحمة مشاغل و توتر و مسؤوليات تفوق طاقته و طاقة أمي .. كانت المشقات و المسؤوليات كثار .. دكان، و بيع و شراء على مدار النهار و حتى مدخل الليل بحين، و رعاية أخواني الصغار تحتاج أيضا لكثير من الاهتمام، و صناعة الحلاوة و بيعها، و فلاحة الأرض، و تعدد الأعمال بها بحسب المواسم، من الذري إلى الحصاد، و كذا لا أنسي وجود مواشي لنا، بقرة و حمار و ثور و أغنام، و مسؤوليات و تفاصيل كثيرة، تثقل كاهل أبي و أمي المتعبين.. كانا يغرقان في العمل كثيرا، و من الفجر حتى الساعة التاسعة ليلا .. كنت أعلم أنهم مثقلين بالكثير من المهام و تفاصيل الحياة اليومية تلك، و كنت أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية، و كانت فسحتي قليلة، و اللعب مع أقراني قليل، أو غير متاح، و أحايين كثيرة أجد فرمانا عثمانيا من بابه العالي فعالا يقول "ممنوع اللعب" فيكون مني الالتزام، و يكون مني التمرد أيضا، مهما كانت كلفته.. و رغم كل شيء، كنت أحب أبي، و أجزع إن مرض، أو هدده الموت بسبب .. هو أيضا كان يحبني، و ربما يرى ما يفعله هو لصالحي و بدافع الحب أيضا .. و ربما خرج كلانا في ذروة الغضب قليلا عن هذا و ذاك.. كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، و أنا لازلت صغيرا لا أقوى على حمله، و لا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي و أخوتي .. كنت أرى الأيتام و ما يتجرعوه من معاناة و حرمان و عذاب، و أدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة و الحرمان، و رغم كل ما يفعله أبي من ضرب و قمع و حصار. *** يتبع..