في لحظة فارقة تضع الجبهة الداخلية أمام اختبار حقيقي لصلابتها، لاسيما في مواجهة غضب هدير السيول الجارفة التي اجتاحت عدداً من المناطق اليمنية مطلع أغسطس من العام 2024، جاءت توجيهات السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمثابة "إعلان حالة طوارئ قصوى" تقطع الطريق على أي تباطؤ، وتضع المجلس السياسي الأعلى وحكومة التغيير والبناء أمام استحقاق وطني وإنساني لا يقبل التأجيل؛ إذ انطلقت هذه التوجيهات من استشعار عالٍ للمسؤولية الدينية والوطنية، دافعةً بكل ثقل الدولة نحو المناطق المنكوبة، لترسم ملامح معركة جديدة لا تقل ضراوة عن المعارك العسكرية، قوامها إنقاذ الأرواح وحماية الممتلكات من غضب الطبيعة وتراكمات الإهمال. 26 سبتمبر - يحيى الربيعي وفي سياق مشهدية تلاحمية تعيد تعريف مفهوم الدولة والمجتمع، شدد السيد القائد على ضرورة صهر الجهود الرسمية والشعبية في بوتقة واحدة، مؤكداً أن مواجهة هذه الكارثة لا يمكن أن تتم عبر تحركات معزولة، بل تتطلب "نفيراً عاماً" تتشابك فيه سواعد المواطنين مع إمكانات المؤسسات الرسمية لتقديم العون العاجل للمتضررين؛ حيث يأتي هذا التحرك ليعكس فلسفة "الجسد الواحد" في مواجهة الأزمات، متجاوزاً الأطر البيروقراطية التقليدية إلى فضاء العمل الجمعي المباشر الذي يلامس وجع المواطن ويضمد جراحه، في وقت تسعى فيه القيادة في صنعاء إلى إثبات أن شرعية الشراكة الحكومية- المجتمعية هي المعيار الحقيقي في هذه المرحلة الحساسة. يطرح هذا التحقيق السؤال الأبرز: هل كانت الكارثة حتمية، أم أنها نتيجة متوقعة لإهمال "حكمة الأجداد" في ترويض المياه؟ ثم يسلط هذا التحقيق الضوء على تفاصيل ليلة الرعب التي عاشها السكان، ويكشف عن الأسباب الجذرية التي فاقمت الأضرار، ويرصد ملحمة الإعمار التي أعادت الأمل، متسائلاً عن ضمانات المستقبل. المراوعة.. أرض الخير والتاريخ وليلة الكارثة على امتداد وادي سهام الزراعي، شرق مدينة الحديدة وعلى الطريق الرئيسي الرابط بين صنعاءوالحديدة، تقع مديرية المراوعة التي تُعد واحدة من أبرز مديريات محافظة الحديدة وأكثرها ثراءً بالتاريخ والموارد. يعود ظهور مدينة المراوعة إلى القرن السادس الهجري بعد اندثار مدينة الكدراء التاريخية، لتصبح منذ ذلك الحين مركزاً عمرانياً وعلمياً عامراً، يضم اليوم أكثر من 156 تجمعاً سكانياً، ويبلغ عدد سكانه وفقاً لتعداد 2004م نحو 129 ألف نسمة موزعين بين مدينتي المراوعة والقطيع وعدد من العزل مثل الكتابية والوعارية والشراعية والرقابة والربصى والقطامله والرمانية وبني صلاح والعامرية والدحلي والفلافله. المراوعة ليست مجرد تجمع سكاني، بل هي بيئة زراعية خصبة تجود بإنتاج الحبوب والقطن والتمباك (التبغ)، وتشتهر بتربية المواشي ومناحل العسل، إضافة إلى صناعاتها التقليدية مثل حياكة المنسوجات وعصر زيت السمسم وصناعة الحلويات الشعبية كالمشبك. وقد عُرفت قديماً كمعقل للعلوم الدينية في عهد دولة بني رسول والدولة الطاهرية، وبرز منها علماء أجلاء من آل الأهدل الذين تركوا بصمات علمية وفكرية في تهامة واليمن. وتزخر المديرية بمعالم تاريخية وسياحية بارزة، أبرزها الجامع الكبير بمدينة المراوعة الذي أسسه الشيخ علي بن عمر الأهدل في القرن السابع الهجري وأعيد بناؤه عام 1334ه، حيث تعلوه 15 قبة ضخمة ويحتضن مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم. كما تضم مبنى الحكومة الذي يعود إلى الحقبة العثمانية، وسوق الاثنين الشعبي الذي يُعد من أكبر أسواق المواشي في اليمن ويستقطب المتسوقين من مختلف المحافظات. أما مدينة القطيع، فهي الأخرى مدينة قديمة اختطها السيد عمر بن أبي القاسم الأهدل المعروف بالخزان، وتحتضن ضريحه الشهير وجامعاً تاريخياً أسسه الشيخ أحمد بن سليمان الأهدل عام 777ه. وتشتهر القطيع بمهرجان الخزان الشعبي الذي يقام عقب عيد الأضحى ويجذب آلاف الزوار بعروض الفروسية وسباقات الخيل والهجن والألعاب الشعبية والرقصات التهامية، ليشكل لوحة حية للتراث اليمني الأصيل. في ليلةٍ من ليالي أغسطس 2024م، تحولت منطقة الوعارية إحدى عزل المديرية إلى مسرحٍ لكارثة طبيعية غير مسبوقة، حين اجتاحت السيول القادمة من وادي جاحف القرى والمنازل، لتجرف معها الأراضي الزراعية والمواشي وتترك عشرات الأسر بلا مأوى. لم تصمد العقوم القديمة التي أهملتها الأجيال أمام قوة المياه، فانهارت في لحظة، لتفتح الطريق أمام سيلٍ جارفٍ قلب حياة الناس رأساً على عقب. "لم يدم نومنا سوى سويعات". هكذا يصف الناجون تلك الليلة. مع حلول منتصف الليل، استيقظ السكان على صيحات فزع تدوي في الأرجاء، تحذر من خطر داهم. يقول شهود عيان من أبناء المنطقة: "قمنا مفزوعين، وإذ بنا نشاهد منازلنا مثل أسطول سفن إغريقي تتجاذبه الأمواج العاتية من كل مكان". في لحظات، تحولت البيوت إلى أنقاض، وجرفت المياه المقتنيات، ونفقت المواشي التي تعد عصب الحياة الاقتصادية للسكان. ورغم هول الصدمة، وسرعة السيل التي سبقت الزمن، سطر رجال "الوعارية" ملحمة بطولية في إنقاذ النساء والأطفال والشيوخ، وإجلائهم إلى أماكن آمنة، بينما كانت منازلهم "تسبح في دوامات يتردد في أرجائها خرير السيول المزمجرة". مع بزوغ فجر اليوم التالي، تكشفت الحقيقة المرة: بيوت مهدمة، أراضٍ زراعية جرفت، ومنظومات طاقة شمسية تحطمت، وآبار ردمها الطين. يصف أحد السكان المشهد قائلاً: "لم نشهد من قبل سيولاً بهذه الشدة.. منازل كانت هنا وأصبحت بين ليلة وضحاها كأنها لم تكن". انهيار "خط الدفاع الأول" لم تكن الكارثة وليدة الصدفة البحتة. يكشف يحيى إسماعيل المعافا، المدير التنفيذي لجمعية الاكتفاء التعاونية بالمراوعة أن السبب الجذري لضخامة الأضرار يكمن في تدهور البنية التحتية التقليدية للري. ويؤكد المعافا أن السكان كانوا يعيشون في أمان لظنهم أنهم بمنأى عن مجرى "وادي جاحف"، أحد أكبر أودية المديرية. ويضيف: "كان الآباء على مدار أكثر من مائة عام يتعاونون على صيانة (العقوم) - وهي حواجز وقنوات ترابية تقليدية - لمنع تدفق السيول على مساكنهم وتحويل مساراتها لري المزارع". ويشير إلى أن "شواهد الأجداد باقية تحكي عن حكمتهم"، لكن مع مرور الزمن، "تدهورت حالة تلك القنوات بسبب الإهمال وعدم صيانتها من قبل الأبناء والأحفاد". في تلك الليلة المشؤومة، لم تصمد العقوم القديمة المتهالكة أمام قوة المياه الهائلة، فانهارت في لحظة، لتفتح الطريق أمام السيل الجارف نحو القرى التي بنيت عشوائياً في مناطق كانت سابقاً مسارات محتملة للسيول، مصداقاً للقاعدة التي تقول: "السيل مهما تحول عن مصبه الحقيقي، لابد يوماً أن يعود إلى مجراه". نموذج تكافلي لإعادة الإعمار من وسط الركام، برزت بارقة أمل تجسدت في تكاتف مجتمعي ورسمي سريع. فبعد التدخل الأولي لفرسان التنمية والمجتمع والهلال الأحمر اليمني بمواد الإغاثة العاجلة، انطلق مشروع طموح لإعادة الإعمار. في سياق متصل، أكد المهندس نسيم الخالد، أحد المتطوعين عبر مؤسسة بنيان التنموية: "لقد نجحت الجهود المتضافرة بين مؤسسة بنيان، والاتحاد الزراعي، وجمعية الاكتفاء، والسلطة المحلية، والمجتمع، في تحويل الكارثة إلى قصة نجاح في الإعمار السريع، مقدمين نموذجاً يحتذى به في التكافل". وفي توضيح له عن تفاصيل مشروع إعادة تأهيل المنازل المتضررة، أشار المهندس نسيم إلى أن المشروع استهدف بناء 28 منزلاً جديداً في عزلة الوعارية، كجزء من مشروع أوسع شمل تأهيل 300 منزل في المديريات المتضررة بمحافظات الحديدة. واسترسل الخالد في الايضاح قائلاً: "وفي الميدان، تُرجمت عملية إعادة الإعمار في "الوعارية" على أرض الواقع إلى خطة عمل دقيقة ومدروسة، تجسدت في أرقام وحقائق ملموسة أعادت رسم ملامح المنطقة المنكوبة، حيث بدأت الجدران ترتفع لتشكل ملاذات آمنة للأسر التي فقدت المأوى. فقد صُمم كل منزل جديد بعناية ليوفر أساسيات الحياة الكريمة على مساحة إجمالية قدرها 100 متر مربع، موزعة بذكاء لتضم غرفة معيشة، وحوشاً (فناء) متنفساً للأسرة، إلى جانب مطبخ وحمام، لتعود عجلة الحياة اليومية للدوران من جديد. ولتحويل هذه المخططات إلى واقع، أكد الخالد أن المشروع اعتمد نموذجاً تمويلياً فريداً قام على الشراكة الحقيقية، حيث بلغت التكلفة التقديرية للمنزل الواحد نحو 2.6 مليون ريال يمني. لم تتحمل جهة واحدة هذا العبء، بل تضافرت الجهود في سيمفونية عطاء؛ إذ شكل الدعم الحكومي العمود الفقري للمشروع عبر توفير مواد البناء الأساسية من أحجار، وبلك، وإسمنت، ونيس، وعتب، بالإضافة إلى تغطية أجور الأيدي العاملة التي شيّدت تلك الديار. وفي المقابل، تجلت روح التكافل في أبهى صورها عبر مساهمة مجتمعية فاعلة، حيث تكفل الأهالي بتغطية ما نسبته 20% من إجمالي التكلفة، مؤكدين بذلك إصرارهم على المشاركة في بناء مستقبلهم بأيديهم. وأضاف الخالد "ولأن الدرس الأقسى من الكارثة كان ضرورة الابتعاد عن مجاري السيول، فقد تم حل معضلة "الأرض" عبر تدخل حاسم من هيئتي الأوقاف والزكاة، اللتين تكفلتا بتوفير الأراضي اللازمة للبناء في مواقع آمنة تماماً وبعيدة عن خطر الوادي، بل وتم ترتيب شراء بعض تلك الأراضي بالآجل لضمان سرعة الإنجاز وعدم توقف عجلة البناء". من النزوح إلى هندسة الحياة وفي استطلاع ميداني استقرأ نبض المستفيدين من مشروع إعادة الإعمار، تجلت صورة حية لملحمة إنسانية تجاوزت مجرد تشييد الجدران إلى ترميم الأرواح؛ حيث أكد الأهالي -الذين كانت منازلهم مسرحاً لطوفان جارف- أن بيوتهم التي كانت تقبع في مجرى السيل جرفتها المياه بالكامل في مشهد مأساوي، إلا أن المفاجأة كانت في سرعة الاستجابة التي كسرت طوق اليأس، إذ "لم نكن نتوقع أن نعود ونسكن في بيوت جديدة بهذه السرعة"، في شهادة تعكس كفاءة "مبادرة الاستجابة الطارئة" التي لم تكتفِ بالبناء، بل أحيت روحية التكافل المجتمعي وأيقظت في النفوس مكمن القوة والقدرة على النهوض حين تتشابك الأيادي، مرسخةً درساً بليغاً في المسؤولية مفاده أن "السيول قد تجرف البيوت، لكنها لا تجرف العزيمة، ولا تقتل روح التعاون التي تسكن في قلب كل يمني". وعلى إيقاع هذا الحراك التنموي، أشار المستفيدون إلى أن العلامة الفارقة في هذا المشروع لم تكن محصورة في سرعة التنفيذ فحسب، بل في تلك الروح التشاركية العالية التي سادت بين الجهات المنفذة وأبناء المنطقة؛ إذ تحول المتضررون من مجرد متلقين للمساعدة إلى فاعلين أساسيين شاركوا في أعمال البناء وقدموا الدعم اللوجستي، مساهمين بجهدهم وعرقهم في إعادة رسم ملامح قريتهم، ليضيفوا بذلك بُعداً نضالياً حول الكارثة إلى فرصة ذهبية لإعادة التفكير الجذري في التخطيط العمراني، مؤكدين على محورية بناء المنازل بعيداً عن "أفخاخ الموت" في مجاري السيول، وضرورة إرساء خطط طوارئ مجتمعية قادرة على مواجهة تقلبات الطبيعة. وفي قراءة واعية لدروس الماضي القريب، أوضح الأهالي أن الدرس القاسي الذي خلفته سيول أغسطس 2024، ولا سيما في منطقة "الوعارية"، يفرض حقيقة لا تقبل التجزئة، وهي أن الحل المستدام لا يكمن في إعادة الإعمار المادي فقط، بل يستوجب العودة إلى الجذور عبر "إعادة إحياء حكمة الأجداد" في صيانة الأودية وترميم "العقوم" والقنوات، واعتماد تخطيط عمراني مدروس ينأى بالمساكن عن مسارات السيول؛ مشددين بلغة تحذيرية حازمة على أنه "بدون استعادة خط الدفاع الأول هذا، ستظل القرى مهددة، وستبقى جهود الإعمار مجرد مسكنات مؤقتة تتلاشى أمام أول اختبار لغضب الطبيعة"، وهو ما يضع الجميع أمام استحقاق استراتيجي لحماية المكتسبات وصون الأرواح. خارطة طريق لتأمين المستقبل وهكذا، بين حزم التوجيهات المركزية التي أطلقها السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي، وبين الوعي الشعبي المتجذر الذي تجلى في ميدان العمل بمنطقة "الوعارية" وغيرها، تكتمل ملامح استراتيجية وطنية جديدة تتجاوز منطق "رد الفعل" المؤقت إلى فضاء "التخطيط الوقائي" المستدام؛ إذ أثبتت التجربة العملية أن التناغم بين القرار السياسي والإرادة المجتمعية هو الرهان الرابح في معركة البناء، حيث لم تكن سرعة الإنجاز في تشييد المنازل سوى رأس جبل الجليد لتحول أعمق، يتمثل في استعادة المجتمع اليمني لزمام المبادرة، وإيمانه بأن حماية الأرض والإنسان تبدأ من العودة إلى الجذور، عبر إحياء هندسة الأجداد المائية التي قهرت التضاريس لقرون، ودمجها مع متطلبات التخطيط الحديث. إن ما جرى من استجابة طارئة تحولت إلى ورشة بناء مجتمعية، يؤسس لمرحلة مفصلية في إدارة الأزمات، تؤكد أن اليمن -بقيادته وشعبه- قادر على تحويل المحن الطبيعية إلى منح تنموية، وأن "إعادة الإعمار" ليست مجرد عملية هندسية صماء، بل هي مشروع حياة متكامل يشترط الابتعاد عن مجاري السيول واحترام قوانين الطبيعة لضمان السلامة العامة؛ لتظل الرسالة الأبرز في هذا المشهد هي أن الحصن الحقيقي لليمنيين لا يُبنى فقط بالأحجار والأسمنت، بل بالوعي الجمعي الذي يدرك أن صيانة "العقوم" ومجاري الأودية هي خط الدفاع الأول، وأن التكاتف الرسمي والشعبي هو السد المنيع الذي تتحطم عليه كل التحديات، ليبقى اليمن عصياً على الانكسار، سواء أمام طوفان السيول أو عواصف المؤامرات.