في قلب شبه الجزيرة العربية، حيث تتجذر الحضارات وتتلاقى المصالح، يقع اليمن، أرض الصمود والتاريخ العريق. لكن هذه الأرض الطيبة، التي طالما كانت منارة للوحدة والإباء، تجد نفسها اليوم في صراع تتجاوز أبعاده حدودها الجغرافية وتستهدف عمق وجودها. نتاج تدخلات خارجية ممنهجة، تسعى لتمزيق النسيج الوطني، ونهب الثروات، والتحكم بإرادة شعب عظيم. فمنذ وطأت أقدام المحتل السعودي والإماراتي أجزاء من أرض اليمن، تحولت هذه المساحات إلى مناطق ممزقة، تفتقر إلى السيادة، وتخضع لوكلاء محليين يتبعون أجندات خارجية متضاربة. في الجنوب، فرضت الإمارات ميليشيات انفصالية، وأقامت قواعد عسكرية في سقطرى والمخا ، محكمة قبضتها على الممرات البحرية والمواقع المهمة. بينما عززت السعودية وجودها في المهرة وحضرموت، مستغلة الموقع الجغرافي والثروات الطبيعية. أما الولاياتالمتحدة، فكان حضورها الاستخباراتي والعسكري واضحًا، تحت غطاء مكافحة الإرهاب وتثبيت الأمن والاستقرار، لكنه في الحقيقة يهدف للسيطرة على الممرات البحرية ومصادر الطاقة، وتأمين مصالحها في المنطقة. لقد أصبحت هذه المناطق تعاني من فوضى أمنية عارمة، وتدهور غير مسبوق في الخدمات الأساسية، وغياب تام لمؤسسات الدولة الفاعلة. الأدهى من ذلك، هو التفكك المتعمد في النسيج الاجتماعي، الذي جعلها بيئة خصبة للصراعات والانقسامات، وانتشار المخدرات والفساد المنظم، بهدف تدمير القيم المجتمعية وإضعاف الشباب. في المقابل، بقيت صنعاء، رغم الحصار الخانق والهجمات المتكررة، قوية، صامدة، مستبسلة، تحمل على عاتقها مشروع التحرر الوطني. فتحولت إلى مركز القرار السيادي، ومصدر الأمل الوحيد لليمنيين في استعادة كرامتهم ووحدتهم. فقد حافظت على مؤسسات الدولة، وأدارت شؤون المواطنين بكفاءة رغم شح الموارد وشراسة العدوان. وطورت قدراتها الدفاعية بشكل لافت، ونفذت عمليات ردع أربكت حسابات العدو، وأثبتت أن اليمن ليس ساحة مفتوحة للهيمنة. كما أنها عززت من خطاب السيادة والاستقلال، ورفض التبعية، مما جعلها مركز الثقل الوطني الذي يعوّل عليه في إعادة بناء اليمن. الفرق الجوهري بين المناطق المحتلة والمناطق الحرة يكمن في طبيعة المشروع الذي تحمله كل جهة. فالمحتل يسعى للتفتيت، عبر دعم كيانات انفصالية، وتمكين ميليشيات خارجة عن القانون، ونهب الثروات، كان آخرها تسليم مليشيات المجلس الانتقالي حضرموت والمهرة، في خطوة واضحة لتقسيم البلاد والتحكم بمواردها. فيما صنعاء تسعى للوحدة، عبر خطاب جامع، ومشروع وطني يعيد لليمن استقلاله ومكانته الإقليمية، ويحفظ كرامة شعبه. ورغم كل التضحيات الجسام، تظل صنعاء هي العاصمة الوحيدة التي تتلقى الهجمات والاعتداءات المتكررة، لكنها لم تنكسر. بل بقيت صامدة، مستبسلة، يعوّل عليها في تأديب العدو وأعوانه، وفي إعادة اليمن إلى وحدته وقوته واستقلاله ومكانته الكبيرة. والرهان الحقيقي اليوم هو على وعي الشعب اليمني، وقدرته على التمييز بين من يسعى لتحريره، ومن يسعى لاستعباده. وصنعاء، بما تمثله من صلابة وإرادة، تظل الحصن الأخير في معركة الكرامة . لقد أثبتت الأحداث أن القوى الخارجية لا تتردد في استخدام أي وسيلة، من الشعارات الزائفة إلى الدعم العسكري للميليشيات، ومن تنصيب القادة إلى إزاحتهم، ومن نشر الفساد والمخدرات إلى السيطرة على الثروات، لتحقيق مصالحها على حساب سيادة اليمن ووحدته. أمام هذا الحجم الهائل من التعدي السافر لدول العدوان، الذي يمتد من نهب الثروات وتدمير البنى التحتية إلى تفكيك المجتمع ونشر الفساد والمخدرات، وصولاً إلى التحكم بالإرادة الوطنية، لم يعد هناك خيار أمام الشعب اليمني شمالاً وجنوباً سوى المواجهة الشاملة. مواجهة تمتد إلى عمق أراضي المعتدين، حتى يعلنوا ويلتزموا بكف أيديهم عن أرض اليمن، ويكفوا عن عدوانهم وتدخلهم المباشر وغير المباشر على اليمن. إنها معركة وجودية، لا تقبل أنصاف الحلول، فإما سيادة كاملة أو مواجهة حاسمة. فخلاص اليمن يكمن في توحيد الصفوف، ونبذ الفرقة، والعمل على بناء دولة قوية ومستقلة، قادرة على حماية نفسها وثرواتها من كل الأطماع. فيجب على الشعب اليمني أن يدرك أن سيادته ليست سلعة قابلة للمساومة، وأن مستقبله لا يمكن أن يُرسم في عواصم أجنبية. فليكن صوت اليمن الموحد أعلى من كل دعوات التفتيت، ولتكن إرادة شعبه أقوى من كل المؤامرات، ليعود اليمن سيد قراره، حرًا موحدًا، ومستقلاً.