نعتقد أن تجربة ستة عقود من تدخل النظام السعودي في الشأن اليمني الداخلي، وتجنيده للعملاء والمرتزقة لإحداث البلبلة وعدم الاستقرار داخل اليمن، كافية جدًّا لتجعل اليمنيين يضعون حدًّا لهذا التدخل، ويطلبون من السعودية الكف عن أذاها والتعامل مع الشعب اليمني باحترام وبندية تكفل تبادل المصالح المتكافئة بين البلدين، انطلاقًا من حقوق الجوار التي وردت في القرآن الكريم، والابتعاد عن المراوغة وقلب الحقائق. وقد أشرنا في مقال سابق – بشكل مقتضب – إلى مماطلة النظام السعودي حول الوفاء بالتعهدات وعدم تنفيذ اتفاقاته مع الآخرين، وإن كانت هذه الحالة قد غدت طبيعة متأصلة في هذا النظام، لا سيما ما يتعلق بتعامله مع اليمن قديمًا وحديثًا، حيث ما يقوله يخالف أفعاله، وهو سلوك انفرد به اليهود بشهادة ما ورد في كتاب الله: «كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ»، فلا عهد لهم ولا ميثاق. وإن كنا لا نستبعد أن هذه المماطلة والتنصل من الاتفاقيات قد يعودان إلى ما اعتادت عليه السعودية من القيادات اليمنية خلال العقود السابقة من الخضوع لإرادتها والقبول بشروطها، عملًا بالمثل الشائع: الطبع يغلب التطبع. وفي الوقت نفسه تعبر عن سلوكها المعادي لجارها الشعب اليمني، الذي أثبتت أنها لا تحب الخير له، فلا هي تريد وحدة لليمن أرضًا وإنسانًا، ولا تريد انفصالًا، وإنما تريد إبقاءه ضعيفًا ومجزأً ليسهل لها – بمساعدة عملائها – التدخل وتحريض البعض على البعض الآخر، كما حدث مؤخرًا في حضرموت، الذي ترعاه السعودية والإمارات، وتعملان على نقل هذا السيناريو إلى محافظات أخرى. وعليه، نود أن نلفت نظر قيادات النظام السعودي إلى أن الوضع في اليمن قد تغير بعد قيام ثورة 21 سبتمبر الشعبية عام 2014م، وأن تحالفًا وطنيًّا يتصدره مكون أنصار الله تشكّل عقب قيامها، وأنهى إلى الأبد عهد التبعية والإملاءات، ولا يمكن أن يقبل التعامل مع أي دولة أخرى إلا من خلال الند للند، وبما يكفل حقوق ومصلحة اليمن العليا. وهو الأمر الذي لم يرق لآل سعود رغم ما لقنه لهم الشعب اليمني من دروس منذ أكثر من عشرة أعوام خلال مواجهته – ممثلًا بقواته المسلحة المدعومة شعبيًا – لأقوى دول العالم عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا، بل وتخصصًا في الحرب النفسية وحبك الشائعات التي تحطم إرادة الشعوب. ومع كل ذلك، لم تهتز له شعرة واحدة، بل قاوم وتصدى للعدوان بشجاعة وبسالة شهد له بهما أعداؤه قبل أصدقائه، حيث استطاع أن يغير استراتيجيات الحروب ويقلبها رأسًا على عقب، فوضع مراكز البحوث العسكرية العالمية في ذهول، وجعلها تعيد نظرتها في تقديراتها، خاصة بعد تصدي اليمن بشكل مباشر لأمريكا وبريطانيا وإسرائيل، وإجبارها على الاعتراف بهزيمتها في كل المعارك التي خاضتها معه برًّا وبحرًا وجوًّا، وقد بدأت تتكشف حقائقها على لسان قادة وخبراء أمريكيين وبريطانيين وإسرائيليين. لكن لأن الغرور قد ركب رؤوس بني سعود، فإنهم يكابرون ويغطون على الحقائق بأموال شعب نجد والحجاز التي تُبعثر هنا وهناك بهدف شراء الضمائر الميتة والنفوس الضعيفة على مستوى العالم كله، غير مدركين أن الشعب اليمني بعظمته قادر على تغيير المعادلة لصالحه بتوكله على الله، وبقدراته المتواضعة قياسًا بما يمتلكه تحالف العدوان من قدرات عسكرية ومادية وإعلامية لا يستوعبها عقل. لقد أخطأ النظام السعودي في تقديره حين ظل يتعامل مع الشعب اليمني على أساس أنه أولئك النفر من العملاء والمرتزقة الموجودة أسماؤهم في كشوفات اللجنة الخاصة، التي تدفع لهم موازنات شهرية وفصلية وسنوية من أجل تنفيذ أجندته في اليمن لعرقلة بناء الدولة الوطنية الحديثة القوية والعادلة. وهي أجندة رسمها النظام السعودي قبل أكثر من خمسة عقود، وتحديدًا حينما وضع يده على الملف اليمني الذي استلمه الملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في أكتوبر 1967م بالعاصمة السودانية الخرطوم، وتحت إشراف رئيس وزراء السودان حينها الراحل محمد أحمد محجوب. وحين سقط أولئك النفر عندما قامت الثورة الشعبية يوم 21 سبتمبر 2014م، وتبين للنظام السعودي أنه كان ينفق أمواله على أناس ورطوه أكثر مما أفادوه، عاد ليتعامل مع الشعب اليمني من الصفر، غير مستوعب أن هذه المرحلة الجديدة قد أرست – ولأول مرة في الجزيرة العربية – نظام الشراكة الوطنية، وطالبت برفع الوصاية الخارجية عن القرار السياسي اليمني، وهي خيارات وطنية من حق أي شعب حر أن يتبناها حفاظًا على سيادته واستقلاله. لقد عرّت النظام السعودي وأحرجته أمام شعبه المغلوب على أمره، الذي يخشى من تأثير التجربة الديمقراطية والتطور الحضاري في اليمن المجاور لنظامه، ولذلك لم يكن أمامه خيار – في محاولة منه لإجهاضها – سوى التدخل المباشر من خلال شن عدوان بربري وظالم، معتقدًا أنه بذلك سيعيد اليمن إلى بيت الطاعة. لكنه بعد عشرة أعوام من تجربته المريرة بدأ يشعر بخيبته، وأصبح على يقين تام بأنه سيهزم – بإذن الله – لا محالة، وذلك لسبب بسيط يتمثل في أن إرادة الشعوب المظلومة هي المنتصرة دائمًا لأنها مستمدة أساسًا من إرادة الله الواحد القهار. وكم هو مؤسف أن يستأسد النظام السعودي الوهابي على جيرانه في اليمن، وهو العاجز أصلًا عن الدفاع عن نفسه، حيث إنه في وقت الشدائد يستعين بمرتزقة يستقدمهم من العديد من الدول ليدافعوا عنه ويقاتلوا بالنيابة عن جيشه الضعيف، رغم مليارات الدولارات التي تُنفق عليه من حيث التسليح والتدريب. لكنه أثناء المواجهة أهون من خيط العنكبوت، فيتساقط رجاله في الجبهات أمام رجال الرجال، وهم يتبولون على أنفسهم، وقد حدث ذلك في أكثر من جبهة عندما حاولوا مواجهة أبناء القوات المسلحة اليمنية. إضافة إلى ذلك، فإن السعودية تسارع للاحتماء بسيدتها أمريكا ولا تستغني عنها، فهناك وثائق سرية تؤكد أنه منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي وأمريكا متكفلة بحماية السعودية والدفاع عنها بموجب معاهدات وقعها الجانب الأمريكي مع أول ملك للسعودية، الطاغية عبد العزيز، الذي كان يقتل خصومه ويتوضأ بدمائهم ثم يصلي بأنصاره إمامًا لإرهابهم. وطبقًا لما جاء في بعض الوثائق، فإن أول خطوة راسخة لمساندة وضمانات الرئيس الأمريكي ترومان الأمنية للعربية السعودية كانت عندما اجتمع جورج مَتفي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي، مع الملك عبد العزيز لبحث الدفاع عن مملكته، بما في ذلك مطار الظهران الذي كان في ذلك الوقت مؤجّرًا للولايات المتحدة لفترة غير قصيرة. وقد بدأ سلاح الهندسة التابع للجيش الأمريكي العمل في السعودية عام 1951م، وصمم في نهاية المطاف سبعة مراكز عسكرية كبرى، منها مدينة عسكرية كبيرة تكفي لإيواء خمسمائة ألف من القوات العسكرية لصد أي هجوم محتمل من جيران السعودية العرب. وتلك المدينة – وهي الظهران – أصبحت قاعدة لعمليات قوات التحالف أثناء عملية عاصفة الصحراء ضد العراق، وكذلك ضد اليمن اليوم. وقد واصل خلفاء الرئيس ترومان من الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين الوفاء بالتعهدات طبقًا لما تم الاتفاق عليه مع الملك عبد العزيز، ولا تمر مناسبة تشعر السعودية فيها بالحرج أو الخطر إلا وتلجأ لسيدتها أمريكا لتحميها وتدافع عنها. وها هي اليوم، الإدارة الأمريكية تشكل رأس حربة في العدوان البربري على اليمن، الذي مضى عليه أكثر من عشرة أعوام ويزداد تصعيدًا يومًا بعد يوم. ولكن رجال الرجال من أبناء القوات المسلحة اليمنية لهم بالمرصاد، معتمدين على الله، ومتوكلين عليه، وعلى الباغي تدور الدوائر.