لطالما كان "اليمن الواحد" هو النبض الذي يُحرّك وجدان الأحرار، والحلم الذي كحّل مآقي الآباء والأجداد عبر عقود من النضال والتضحيات المريرة. لم تكن الوحدة في الثاني والعشرين من مايو 1990م مجرد توقيع بروتوكولي سياسي أو دمجٍ إداري للمؤسسات، بل كانت لحظة تجلٍّ تاريخية انصهرت فيها الجغرافيا والتاريخ؛ لتعيد اللُّحمة لجسدٍ واحدٍ مزقته الصراعات الاستعمارية، والأنظمة القاصرة، ومشاريع التشطير. يوم أزهر الحلم في ذلك العام الخالد، استعاد اليمنيون ذاتهم الجماعية، معلنين للعالم أن هذا البلد — الذي كان مهداً للحضارات ومنارة للحق — لا يستقيم حاله ولا يستقر قراره إلا بالوحدة. كانت الآمال عريضة، والتطلعات تلامس عنان السماء لبناء دولة مؤسسات حديثة، تسودها العدالة والمواطنة المتساوية، وتُستثمر فيها خيرات الأرض لرفاهية الإنسان وكرامته. خريف الوحدة.. واقع التفتيت المرير اليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود ونصف على ذلك المنجز العظيم، يجد اليمن نفسه في مهب رياح عاتية، ومخططات حاقدة، ومغامرات طامحة. فبدلاً من التقارب وتعزيز مداميك الوحدة بالعدل والتنمية، تآكلت الأحلام تحت وطأة: * الحروب العبثية: التي استنزفت المقدرات ومزقت النسيج الاجتماعي والديني. * أجندات التفتيت: التي تطل برأسها اليوم لتعيد رسم حدود الدم والفرقة بإيعازات خارجية. * ضياع التضحيات: حيث يشعر جيل اليوم أن نضالات أسلافهم في "سبتمبر" و"أكتوبر" وما تلاهما من حراك وحدوي، أصبحت عرضة للضياع في دهاليز التآمر والصراعات الضيقة. إن المشهد الحالي، بما فيه من انقسام وتشرذم، يدمي القلوب؛ وكأن اليمن يعود القهقرى إلى عصور ما قبل الدولة، حيث تتسيد المشاريع الصغيرة والمناطقية على حساب المشروع الوطني الكبير. حتمية النهوض: اليمن يمرض ولا يموت رغم قتامة المشهد وسوداوية الواقع، إلا أن قراءة تاريخ هذا البلد العظيم تمنحنا بصيصاً من الأمل لا ينطفئ. لقد عوّدتنا هذه الأرض الطيبة أنها تمرض، وقد تبلغ بها الأوجاع حدّ سكرات الموت، لكنها تملك قدرة "الفينيق" على الانبعاث من تحت الرماد. إن روح الوحدة ليست مجرد شعار سياسي، بل هي ضرورة وجودية ومصير مشترك. وكما أكدنا سابقاً في مؤلفاتنا — لا سيما في كتاب "الرسالة الوطنية: مضامينها واتجاهاتها وموجباتها" — فإن الحفاظ على المكتسبات الوطنية يتطلب وعياً جمعياً بموجبات الوحدة الحقيقية القائمة على الشراكة، وحماية الحقوق والحريات التي كفلها الإسلام قبل القوانين الوضعية. الخاتمة إن التحدي اليوم لا يكمن في استعادة "شكل" الوحدة فحسب، بل في استعادة "روحها" القائمة على العدل والمواطنة. إن إرادة الشعب اليمني، التي قهرت المستحيل في 1990، لا تزال كامنة تحت رماد الحرب، وهي الكفيلة بقطع دابر المتطاولين — من دول الإقليم وأدواتهم — وتلفظ مشاريع التفتيت، لينهض اليمن من جديد وطناً يتسع لجميع أبنائه، عزيزاً، مهاباً، وموحداً.