بلير، المحامية السيدة شيري وليس رئيس الوزراء السيد توني، حذّرت من انتهاك الحرّيات المدنية والعامة في غمرة هذه الحمّي التي تجتاح بعض الدوائر السياسية والإعلامية والأمنية البريطانية بصدد الإلحاح علي إصدار أو مراجعة أو تشديد قوانين مكافحة الإرهاب. وضمن سياق محاضرة ألقتها في ماليزيا، وكذلك في مقال وقّعته هذه المرّة باسم شيري بوث ونشرته صحيفة ال غارديان البريطانية يوم أمس، دافعت بلير بحرارة عن القِيَم الحقوقية والمدنية التي تمنح أيّ نظام ديمقراطي شرف أن يكون متمدّناً : من السهل تماماً أن نردّ علي ذلك الإرهاب بطريقة تنسف التزامنا بالقِيَم والقناعات التي نتمسّك بها عمقياً، وتبخس حقّنا في أن نسمّي أنفسنا أمّة متمدّنة ..والحال أنّ أياً من تلك القِيَم لم تكن قد احتُرمت في واقعة مقتل المواطن البرازيلي جان شارل دي مينيزيس في محطة أنفاق ستوكويل في لندن الأسبوع الماضي، ليس علي صعيد أسلوب القتل بالدم البارد، بسبع رصاصات في الرأس وثامنة في الكتف، بعد السيطرة علي الرجل (إذْ لهذا الأمر ملابسات أخري من الحكمة أن يتركها المرء للتحقيقات المختصة)، بل علي صعيد قتل الرجل مدنياً وحقوقياً إذا جاز القول. ذلك لأننا نعرف اليوم، دون أدني ظلّ للشكّ وعلي نقيض من رواية سكوتلنديارد والمفوّض إيان بلير نفسه وتسعة أعشار وسائل الإعلام البريطانية المسموعة والمرئية، أنّ القتيل لم يكن يرتدي سترة ثقيلة يمكن أن تخفي حزمة ناسفة، بل سترة جينز خفيفة؛ وكان يملك بطاقة إقامة قانونية، ولا شيء بالتالي كان يستدعي فراره من وجه الشرطة؛ وكان يحمل بطاقة صالحة لدخول الأنفاق، ولهذا لم يكن مضطراً للقفز فوق حاجز العبور؛ وأنّ مقتله، أخيراً، لم يكن علي صلة من أيّ نوع بالاعمال الإرهابية التي شهدتها لندن في الآونة الاخيرة. وهكذا فإنّ هواجس خسران بعض، أو ربما الكثير من، المكتسبات المدنية والحقوقية التي أنجزها المواطن في ظلّ الأنظمة الديمقراطية العريقة تتضاعف عشرات المرّات حين يجري قياس مقارن من أيّ نوع بين مصير البرازيلي دي مينيزيس، والمصير الذي كان ينتظر البريطاني من أصل صومالي ياسين حسن عمر، أو البريطاني من أصل أريتري مختار محمد سعيد إبراهيم، وكلاهما في دائرة الإشتباه عن أعمال الإرهاب التي كان مقرراً أن تقع يوم 21 الجاري وفشلت لحسن الحظ. وإذا كان الخطأ الإنساني، الممتزج بالتوجس ورهبة المهمّة وضرورة اتخاذ قرار ضمن كسور الثانية الواحدة ربما، هو المسؤول عن مقتل البرازيلي البريء، فإنّ سقوط ياسين (24عاماً) ومختار (27) في حمأة الإرهاب والكراهية والقتل العشوائي وهستيريا الإستشهاد الزائف يضرب بجذوره في أرض أخري مختلفة: من النوع الذي تحرص السيدة بلير علي إبقائه بعيداً عن المزيد من التلوّث بإشعاعات ما يُسمّي الحرب علي الإرهاب ... أياً كانت وسائل تلك الحرب، وحتي إذا كان الثمن خسران العديد من الأسباب الجوهرية التي تبرّر انتساب أيّ نظام ديمقراطي إلي أخلاقية التمدّن ودولة الحقّ وسيادة القانون. طبيعي أن لا نتعجّل الحكم علي الأسباب التي جعلت ياسين ومختار في هذه الحال الفظيعة من الإستعداد لقتل الأبرياء في المجتمع البريطاني ذاته الذي منحهم اللجوء الآمن وجواز السفر أيضاً. غير طبيعي، بل وأشبه بدفن الرؤوس في الرمال، أن لا نستعيد بعض العبرة من وقائع مماثلة عن أعمال إرهابية جرت غير بعيد عن بريطانيا، وانطوت بدورها علي حيثيات شبه متطابقة. أعني، هنا، موجة الأعمال الإرهابية التي طالت فرنسا صيف 1995، وتضمنت أيضاً تفجير محطة مترو سان ميشيل الرئيسية في قلب باريس، وكان أحد أبرز منفّذيها الفرنسي من أصل جزائري خالد قلقال (الذي كان، حين قُتل علي يد الشرطة الفرنسية في 29/9/1995، في سنّ ياسين حسن عمر بالضبط : 24 سنة). بعد نحو أسبوعين وقع الإنفجار الإرهابي الثامن في قلب العاصمة الفرنسية، علي مبعدة أمتار قليلة من موقع العبوة الأولي التي باغتت الباريسيين والعالم صبيحة 25/7/1995، فعاد ملفّ خالد قلقال يرشق كوابيسه الأمنية والأخلاقية علي مشهد الحياة اليومية الفرنسية، وعاد الفتي القتيل ليحتلّ من جديد صورة خالد الغابة ، نسبة إلي روبن الغابة في اللغة الفرنسية أو روبن هود كما هو معروف عالمياً. وزير الداخلية الفرنسي آنذاك ورئيس الجمعية الوطنية اليوم، جان لوي دوبريه، كان في موقف لا يحسده عليه حاسد، ليس لأنه الوزير المعنيّ بهذا الملف فحسب، بل أساساً لأنه الرجل الذي قفز علي الفور إلي استنتاجات خَلاصية. اعتبر دوبريه أنّ موجة التفجيرات تكاد تقترن بشخص خالد الغابة ذاك وحده، وبسقوطه صريع إحدي عشرة رصاصة (خارج ظلمات مكمنه، المادي والمجازي) يكون في وسع الفرنسيين أن يناموا قريري الأعين. أو... بأعين توجّب أن تظلّ نصف قريرة، كما أثبتت الوقائع اللاحقة. ذلك لأن انفجار محطة مترو سان ميشيل في ذروة ازدحامه الصباحي، ممّا أسفر عن مقتل ثمانية وجرح 80، كان قد أعاد الفرنسي العادي أو الفرنسي المتوسط إلي اصطراع جديد واختلاطات أشدّ عسراً علي التفسير، وأدعي إلي أيّ شيء باستثناء النوم علي حرير الخطة الأمنية. وتلك كانت خطة نشرت عشرات الآلاف من رجال الأمن والجيش، واستوقفت ودققت في أوراق أكثر من مليوني شخص، وردّت من الحدود الفرنسية أكثر من عشرة آلاف مسافر، وتلكأت عند مشتبه يقيم في ستوكهولم ترفض العدالة السويدية التسليم بوجوده في مسرح التفجير الإرهابي الأوّل. وتلك ذاتها الخطة التي انتهت إلي متهم ترك بصماته علي عبوة لم تنفجر فوق سكة قطار بعيد، ثم اعتصم في غابة تحوّلت إلي اختزال كثيف للأسرار والإستعارات والرموز، حتي خرج إلي عراء حتشد بآلاف من رجال الأمن، فسقط تحت وابل الرصاص و... المزيد من وابل الألغاز. الفرنسي العادي ظلّ علي قلق، وكان محقاً تماماً في الذهاب بالقلق إلي أقصي مستوياته. وكما في تفجيرات لندن أو أيّ أعمال إرهابية مماثلة، لم يكن ثمة ريب في طبيعة هذا الإرهاب الأسود الصريح العشوائي الأعمي الذي يبصر، مع ذلك، براءة الضحايا ويبصر محتوي ما تبعث تلك الأعمال من رسائل في الكراهية الجماعية والتعصّب والرهاب والترهيب. ولكن الفرنسيّ، كمثل حال البريطاني اليوم علي الأرجح، كان يضيف الأسئلة إلي القلق، ويسعي إلي فهم السياقات الأعلي لموجة الإرهاب، ويتوقف تحديداً عند مسار الوقائع التي أجهزت علي فوز دستوري شرعي صريح ل جبهة الإنقاذ الجزائرية ، بموجب اللعبة الديمقراطية ذاتها التي يعرفها الفرنسي معرفته لراحة اليد. الإعلام الفرنسي تحدث عن تركة شارل باسكوا الثقيلة ، في إشارة إلي وزير الداخلية الأسبق المتشدد، وعن خيارات سياسية أمنية زجّت فرنسا في دوامة جزائرية جديدة أشد ضراوة في شروطها ومعطياتها من الدوامة التي أدارت طاحونة الدماء عشية اختتام حرب التحرير واستقلال الجزائر. ولكن بعيداً عن دائرة الإعلام، التي لم تكن قادرة دائماً علي تمثيل هواجس الفرنسي المتوسط، كان في وسع المرء أن يقرأ ترجمة أوضح للقلق العميق الذي أخذ يتناهب البشر حين وقعت المزيد من الإنفجارات بعد مقتل قلقال. وفي بيانها الرسمي عشية الإنفجار الثامن قالت رابطة الإدارة الذاتية لنقابات الشرطة FASP إن من حقّ المواطنين والشرطة أن يعرفوا جدوي مقتل خالد قلقال الذي كان، في قناعة وزير الداخلية، المسؤول عن جميع الإنفجارات . وأضافت الرابطة وهي تطرق الحديد الحامي: ليس في وسعنا أن نتحمل أكثر مما تحملنا من تصريحات تخديرية تصدر عن رئيس الوزراء أو وزير الداخلية . ذلك لأنّ مقتل قلقال جري بطريقة فريدة رهيبة، علي الهواء مباشرة تقريباً، وفي ذروة نشرة أخبار الثامنة مساء حين تكون نسبة المشاهدة في أوجها. وأتيح للفرنسيين أن يتابعوا (بمشاعر مختلطة دون ريب) السقوط الأخير لجثة مطوّقة كما كان الأديب الجزائري الراحل كاتب ياسين سوف يقول لا تحمل سوي مسدس فردي، وهي التي حُمّلت الكثير حتي باتت عملية الإجهاز عليها بمثابة إشاعة لعنف معلن وموت تنقله أقنية التلفزة ساعة العشاء. ولكنها كانت تنقله مجتزءاً ومراقَباً كما تبيّن فيما بعد، لأنّ القناة السادسة، وتحت ضغط الفضيحة التي فجّرها صحافي سويسري شهد القتل بأمّ عينيه، طمست صوتاً مجهولاً في ظلام الحصار هتف بوضوح تامّ: أجهزْ عليه! Finis-le ، مرّتين، فأجهزوا عليه... رغم أنّ خالد قلقال الحيّ لم يكن في المنطق الأمني السليم البسيط يعادل أي خالد قلقال جثة هامدة. ولهذا كانت رابطة نقابات الشرطة تقول ما معناه: ما جدوي هذا الموت المعلن، الذي سوف يستتبع حالات موت وإماتة معلنة أو خفية؟ وفي طيات بيانها كان يكمن التقرير الدالّ الذي نشرته صحيفة لوموند بعد أربعة أيام علي مقتل خالد قلقال، وتضمن المحضر شبه الحرفي لحوار أجراه السوسيولوجي الألماني ديتمار لوش مع قلقال عام 1992 في سجنه، غير بعيد عن غابة القتل الغامضة إياها. ههنا المعجزة الناقصة للسياسات الفرنسية في دمج الأجانب في الحياة المدنية، وههنا مخلوق ولد صحيحاً في مستغانمالجزائرية، وجاء إلي فرنسا في الثانية من عمره، وتفوّق في دراسته، قبل أن يكتشف العزلة القسرية التي لا يستطيع الفكاك منها، ويدرك أنه لم يجد لنفسه مكاناً في العديد من الميادين، بما في ذلك العدالة والقانون والتمييز العنصري والإجتماعي و"الجدار الهائل الذي يفصل الضاحية الفقيرة عن المدينة الزاهرة الزاخرة. اكتشافه المركزي الأكبر كان الإسلام، وفي زنزانة السجن بالذات (تماماً كما حدث مع البريطاني الإريتري مختار محمد سعيد!). لست جزائرياً ولا عربياً. أنا مسلم فقط ، قال قلقال وهو يروي أن أصفي لحظات حياته كانت تلك التي يقضيها في المسجد، بصحبة أقرانه من الشباب المسلم. وفي جملة صاعقة قال: كل ما أريد القيام به هو مغادرة فرنسا نهائياً. إلي أين؟ إلي وطني، الجزائر. لا مكان لي هنا ...كيف انقلب هذا الكائن إلي آلة إرهابية؟ من الذي أقام الجدار الهائل في وجه فتي في أول عشريناته، يري الباحث الألماني أنه كان ينطق باسم شبيبة مغاربية فرنسية بحثت لنفسها عن الإعتراف والكرامة فلم تعثر علي شيء منهما ؟ هذه هي الأسئلة التي ظلّت تؤرق، في حين أن إجاباتها المتسرّعة كانت من قبل قد تحوّلت إلي تصريحات تخديرية كما يقول بيان رابطة نقابات الشرطة. أجهزْ عليه! لقد أجهزوا عليه، فماذا بعد؟ كيف نستغرب العواقب الكارثية الوخيمة التي تلت عملية قتل خالد قلقال برصاص الشرطة تساءل لوران جوفران في أسبوعية لونوفيل أوبزرفاتور آنذاك، وأضاف: عمّ تتحدث تلك الوصلة الصوتية الآثمة: أجهزْ عليه! عن شهيد أم عن إرهابي ؟ أجهزْ عليه! لقد خرج بغتة من غابة روبن هود، وعاد إليها بعد أقلّ من أسبوعين في هيئة رمز مفتوح مجلل بالغموض والرهبة. إنه القائل: لقد كنت أمتلك كل أسباب النجاح، ولكن لم يكن لي مكان هنا . أم أن مكانه اليوم هناك، وهنا، لا تغادر مشروعَيْ المجرم السجين أو الإرهابيّ القادم، وعبوته الناسفة تدقّ النوافذ وتتسرب إلي الأبراج والحافلات والأنفاق؟ وهل من الإفراط أن تكون أمثولة خالد قلقال قد أعادت إنتاج نفسها في نفوس مطوّقة، من أمثال ياسين حسن عمر ومختار محمد سعيد إبراهيم؟ "القدس"