*- شبوة برس - د. حُسَين لَقْوَّر بَن عِيدان في السنوات الأخيرة، برزت إسبانيا بوصفها من أكثر الدول الأوروبية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني، سواء من خلال المظاهرات الحاشدة أو في خطاب الأحزاب والنخب الفكرية. هذا الميل لا يقتصر على مشاعر إنسانية فحسب، بل ينسج سردًا عميقًا يحمل في طياته تأثرات تاريخية وثقافية وسياسية متجذّرة.
جزء كبير من هذا التضامن ينبع من الذاكرة الأندلسية؛ فإسبانيا عاشت قرونًا طويلة في تماس حضاري مع العرب والمسلمين، وتلك الفترة تركت بصمة في الثقافة واللغة والوجدان الجمعي. عندما ينظر الإسباني اليوم إلى فلسطين، يرى انعكاسًا لذكريات أرضٍ ضاعت وهويةٌ تمزّقت، وهو شعور يخلق رابطًا رمزيًا بين مأساته الخاصة ومأساة الفلسطينيين.
على الصعيد السياسي، لعب اليسار الإسباني دورًا محوريًا في ترسيخ هذا التضامن. منذ التحول نحو الديمقراطية، تبنّت أحزاب مثل "بوديموس" وحركات نقابية وفكرية، خطابًا يرى في فلسطين رمزًا للمقاومة ضد الهيمنة والاستعمار. هذا الخطاب تماهى مع تجارب إسبانية مع العدالة الاجتماعية والحرية، مما أعطى القضية الفلسطينية بعدًا سياسيًا يدمج الأخلاق والسياسة.
من جهة أخرى، تمتلك إسبانيا هامشًا سياسيًا أكبر من بعض الدول الأوروبية الأخرى في مواقفها تجاه إسرائيل. فإسبانيا كانت آخر دولة غربية تعترف رسميًا بإسرائيل، حيث أقامت علاقات دبلوماسية معها عام 1986. هذا التأخر التاريخي يعكس نوعًا من الحذر الدبلوماسي، لكنه أيضًا يفسر سبب وجود مرحلة من المسافة الأيديولوجية التي مهدت لاحقًا لتحالف شعبي واسع مع القضية الفلسطينية.
الحسّ الإنساني في المجتمع الإسباني لا يمكن تجاهله أيضًا. فإسبانيا، بلد عانى من الحروب والهجرة والنزوح، يدرك معنى الفقد واللجوء بعمق؛ ومن ثم يصبح الفلسطيني في نظر بعض الإسبان شخصًا قريبًا من تاريخهم وتجربتهم، وليس غريبًا عنهم.
لهذا، يتشكل التضامن الإسباني مع فلسطين لا كموقف عابر، بل كسردية متكاملة تدمج التاريخ بهوية الشعب، والسياسة بالضمير، والذاكرة بالواقع. فبالنسبة للعديد من الإسبان، فلسطين ليست قضية بعيدة في الجغرافيا، بل مرآة تعكس معاني العدالة والحرية التي ترسخت في وجدان وطن طالما بحث عن هويّته وتاريخه.