الماجستير للباحث النعماني من كلية التجارة بجامعة المستقبل    الدكتور بشير بادة ل " 26 سبتمبر ": الاستخدام الخاطئ للمضاد الحيوي يُضعف المناعة ويسبب مقاومة بكتيرية    مدير المركز الوطني لنقل الدم وأبحاثه ل " 26 سبتمبر " : التداعيات التي فرضها العدوان أثرت بشكل مباشر على خدمات المركز    الكاتب والباحث والصحفي القدير الأستاذ علي سالم اليزيدي    قراءة تحليلية لنص "محاولة انتحار" ل"أحمد سيف حاشد"    التأمل.. قراءة اللامرئي واقتراب من المعنى    ايران: لا يوجد تخصيب لليورانيوم في الوقت الحالي    هزتان أرضيتان جنوب وغرب محافظة تعز    المؤامرات السعودية ووعي اليمنيين    فعالية لمستشفى القدس العسكري بذكرى سنوية الشهيد    بعد فشل المواجهات العسكرية أمام صمود اليمنيين.. الأجهزة الأمنية تطيح بأخطر المخططات التجسسية الأمريكية الإسرائيلية السعودية    مدير فرع هيئة المواصفات وضبط الجودة في محافظة ذمار ل 26 سبتمبر : نخوض معركة حقيقية ضد السلع المهربة والبضائع المقلدة والمغشوشة    "الصراري" شموخ تنهشه الذئاب..!    وللقبائل اليمنية طوفانها الساحق لأعدائها    خلال وقفات شعبية وجماهيرية .. أبناء اليمن يؤكدون: مساعي العدوان للنيل من الجبهة الداخلية باتت مكشوفة ومصيرها الفشل    النرويج تتأهل إلى المونديال    مرض الفشل الكلوي (28)    أمن مأرب يعرض اعترافات خلايا حوثية ويكشف عملية نوعية جلبت مطلوبًا من قلب صنعاء    صلاح ينافس حكيمي وأوسيمين على جائزة الأفضل في افريقيا    قطرات ندية في جوهرية مدارس الكوثر القرآنية    البحسني يهدد باتخاذ قرارات أحادية لتطبيع الأوضاع في حضرموت ويتهم العليمي باستهداف المحافظة    طائرة البرق بتريم تتجاوز تاربة ينعش آماله في المنافسة في البطولة التنشيطية لكرة الطائرة بوادي حضرموت    الشعيب وحالمين تطلقان حملة مجتمعية لتمويل طريق الشهيد الأنعمي    تنامي التحذيرات من محاولات الإخوان جر حضرموت إلى دائرة التوتر    البرتغال إلى نهائيات «المونديال» للمرة السابعة توالياً باكتساحها أرمينيا    حكومة بريك تسجل 140 مشاركًا في مؤتمر البرازيل بينما الموظفون بلا رواتب    ضبط شحنة أدوية مهربة في نقطة مصنع الحديد غرب العاصمة عدن    سياسيون يحذرون مجلس الأمن من تداعيات تجاوز قضية شعب الجنوب ويطلقون وسم #السلام_والاستقرار_بعوده_الجنوب    رئيس تنفيذية انتقالي لحج يطلع على جهود مكتب الزراعة والري بالمحافظة    بلا رونالدو.. البرتغال "مبهرة" تنتصر 9-1 وتصل للمونديال    رئيس لجنة المسابقات: لائحة جديدة ودوري بنظام الذهاب والإياب    العدو الإسرائيلي يسرق 17000 قطعة أثرية من متحف قصر الباشا في غزة    حضرموت.. حكم قضائي يمنح المعلمين زيادة في الحوافز ويحميهم من الفصل التعسفي    افتتاح معرض صور الآثار والمعالم التاريخية اليمنية في إب    نجوم الإرهاب في زمن الإعلام الرمادي    بعثة المنتخب الوطني تصل الكويت لمواجهة بوتان    رئاسة مجلس الشورى تناقش المواضيع ذات الصلة بنشاط اللجان الدائمة    الجوف.. تسيير قافلة من البرتقال دعماً للمرابطين في الجبهات    ولد علي يعلن قائمة المنتخب اليمني النهائية لتحدي آسيا وكأس العرب في نوفمبر الناري    "العسل المجنون" في تركيا..هل لديه القدرة فعلًا على إسقاط جيش كامل؟    الدكتور بن حبتور يعزّي عبدالعزيز البكير في وفاة عمه    رئيس النمسا المحترم وسفهاء سلطة اليمن في مؤتمر المناخ    الأمير الذي يقود بصمت... ويقاتل بعظمة    "وثيقة".. الرئاسي يعتمد قرارات الزبيدي ويوجه الحكومة بتنفيذها    بدء صرف راتب أغسطس لموظفي التربية والتعليم بتعز عبر بنك الكريمي    تسجيل 22 وفاة و380 إصابة بالدفتيريا منذ بداية العام 2025    أفاعي الجمهورية    سفيرٌ يمنيٌّ وطنه الحقيقي بطاقة حزبه.. تحويل السفارة من ممثل للدولة إلى مكتبٍ حزبي    مريم وفطوم.. تسيطران على الطريق البحري في عدن (صور)    قراءة تحليلية لنص "في المرقص" ل"أحمد سيف حاشد"    في رحلة البحث عن المياه.. وفاة طفل غرقا في إب    بوادر تمرد في حضرموت على قرار الرئاسي بإغلاق ميناء الشحر    انتشال أكبر سفينة غارقة في حوض ميناء الإصطياد السمكي بعدن    وزارة الأوقاف تعلن عن تفعيل المنصة الالكترونية لخدمة الحجاج    معهد أسترالي: بسبب الحرب على اليمن.. جيل كامل لا يستطيع القراءة والكتابة    المقالح: من يحكم باسم الله لا يولي الشعب أي اعتبار    الإمام الشيخ محمد الغزالي: "الإسلام دين نظيف في أمه وسخة"    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حرية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية
نشر في شبوه برس يوم 10 - 02 - 2015

( مع تفصيل في أحاديث حد الردة وسياقات الفقهاء وأهل الحديث)
المقدمة
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)، وصلى الله على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى من سار على منهجه إلى يوم الدين.
من يتأمل القرآن الكريم يجد فيه شفاء لمشاكل العصر، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أو الإنساني، هذا كلام يقوله كل المسلمين، والقليل من يوفقه الله للوصول إلى تطبيق أقرب إلى هذا الكلام النظري، ولا يوفق الله من يشرك به شيئاً، فكل شريك يذهب بنصيبه، سواء كان هذا الشريك فرداً أو مذهباً أو دولة أو رأي عام..
فلذلك نسأل الله قبل كل شيء أن يوفقنا في تجنب إشراك غيره في المراقبة، بمعنى ألا يراقب الباحث إلا الله، لا يراقب رضا القريب ولا البعيد، ولا الدنيا العاجلة ولا السمعة والثناء، فحب الناس عبادة والمصلحة عبادة والمذهب عبادة إذا راقبهم الباحث عند كتابة أي بحث أو فتوى، ولا نظن أن تحذير الله من الشرك كان عبثاً أو أنه سيأتي عليه زمن تنتهي صلاحيته، بل ولعل أكثر الناس نهياً عن الشرك هم واقعون في أنواع منه عندما يراقبون الشيخ أو المذهب..الخ، وعندما يهملون شرك الأحبار والرهبان والرأي العام وحب الثناء وتزكية النفس..الخ.
غايات خلق السموات والأرض والإنسان:
وقد خلق الله السموات والأرض والإنسان لأربع غايات كبرى، يترتب بعضها على بعض، وترتيبها منطقياً لمن تأمل القرآن الكريم هي:،
الغاية الأولى: الابتلاء
والثانية: العدل
والثالثة : الإيمان
والرابعة: العبادة
إذن فليس غاية الخلق الوحيدة هو عبادة الله فقط، كما يظن أكثر المسلمين؛ فهذا وهم كبير أوقعهم فيه الواقع السياسي؛ لصرفهم عن فهم حقيقة الابتلاء، وللتنصل من لوازم الإيمان، وفراراً من صعوبة العدل، وأبقى الواقع السياسي على العبادة جافة من أهدافها، عقيمة عن إنتاج ثمرتها، فخرجت عبادتنا عبادة عجيبة، لا تعرف معنى الابتلاء ولا مركزية العدل، ولا حقيقة الإيمان، فهي لا تصبر على بلاء ولا تقاوم ظلماً ولا تستجيب لعادل، وامتلأت الدنيا بالعبّاد الحمقى والسلاطين الظلمة، وخلت ممن يعبد الله حق عبادته.
الابتلاء غاية إلهية أولى:
أما الدليل من كتاب الله على علة الابتلاء واختبار الإنسان في ما أعطاه الله من نعم الحواس والعقل والقلب والمال والصحة ..الخ ففي آيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة المائدة المدنية: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وقال في سورة الأنعام المكية : (( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) / بل ذكر في سورة هود أن الغاية من خلق السموات والأرض هو الابتلاء : (( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ - وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ- لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) / وقال في سورة الكهف المكية (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) / وفي سورة الملك المكية (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) وغير ذلك من الآيات.
إذن فالابتلاء غاية من غايات خلق السموات والأرض والإنسان، وهي الغاية الأولى، التي يترتب عليها التكليف، إذ لولا إرادة الله للابتلاء لما كلف المكلفين، ولجبلهم على الطاعة كما جبل الحيوان والنبات والجماد على التسبيح له، ثم التكليف ينبني عليه الحرية، حرية الاختيار،، فلا ابتلاء في حق غير المكلف من حيوان ونبات وجماد وإنما هم مجبولون على أداء وظائف معينة، وكذا لا ابتلاء في حق المجنون والصغير والنائم لغياب موطن التكليف ألا وهو العقل ، فالابتلاء لا يكون إلا في حق من يمتلك حق الاختيار، ومن هنا تأتي مقدمات النجاح في الابتلاء وهو حسن استخدام الحواس فهي المفتاح الأساس لتحقيق الهدف من الابتلاء ويتوقف عليه الهدى أو الضلال، أعني يتوقف على توظيف الحواس، فمن أساء توظيف الحواس فعطلها أو تبرع بها لرأي عام أو قبيلة أو عادة ورثها عن الآباء والأجداد فلا يستحق إلا الضلال فيكون قد أضل نفسه، لأنه أغلق أبوابها الإبتدائية بنفسه، ومن سمع وأبصر ( أحسن توظيف نعم الحواس) دلته – بتوفيق الله- على الهداية، وهذا المعنى موسع في القرآن الكريم.
إذن فالآيات الكريمة السابقة وأمثالها تقرر أن الابتلاء – ابتلاء المكلفين- غاية كبرى من غايات خلق السموات والأرض والإنسان، ولكن الابتلاء مراحل وليست مرحلة واحدة، مرحلة الحواس ثم العقل والقلب ثم الإيمان، وأعظم الابتلاء بعد تجاوز مرحلة الحواس هو الابتلاء في أعظم نعمة وهبها الله للإنسان المكلف ألا وهو العقل، فالعقل هو الفارق الجوهري بينه وبين سائر الأصناف الأخرى من حيوان ونبات وجمادات.
وقد ربط الله بين الابتلائين في عدة آيات من باب أن الحواس أول العقل، مثل قوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) وقال : ( فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) فالذي لا يسمع البرهان ولا يرى الحجج يكون قد أغلق منافذ العقل، لأنه لا مدخل للعقل إلا عن طريق الحواس ، ، والابتلاء للعقل ومنافذه متقدم على التكليف بما يشمله من اتباع للأوامر واجتناب المناهي، أي من عدل وإيمان وعبادة وتقوى ..الخ، هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ لأن كل مكلف محل للابتلاء بمشيئة كونية قدرية، آمن أو لم يؤمن، عبد الله أو عبد الأصنام، علم بالإسلام أم لم يعلم، بلغته الحجة أو لم تبلغه .. كل مبتلى على قدر ما سمع وما أبصر وما عقل، فقد يكون هناك أقوام لم يسمعوا بدين قط، لكن العاقل منهم يذم مساويء الأخلاق من ظلم وكذب وسرقة ..الخ إذن فهو مبتلى في ما عقله حتى ولو لم تبلغه رسالة، لأن ما وصله من الحث على محاسن الأخلاق وذم مساوئها يكون قد وصله من بقايا النبوات من باب : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر]، فكل هداية في الدنيا فمصدرها من الله، إما من بقايا نبوة وكتاب أو هداية عقل وضمير.
ثم الغاية الثانية هي العدل:
من غايات الله في بعث الرسل وإنزال الكتب هو العدل وهي غاية قبل الإيمان والعبادة لما سبق أن ذكرنا ولما سيأتي، فقال تعالى في سورة الحديد المدنية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ .. الآية (25 من سورة الحديد)، فهنا يخبر الله أن من الغايات الكبرى التي من أجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب هو أن يقوم الناس بالقسط، ومنها ما سبق من كون العقل حجة في ذم الرذائل الإنسانية المعروفة، فكل أمم الأرض قبل الإسلام وبعده تذم الظلم وتمدح العدل، بل حتى الظالمين يذمون الظلم ولو نظرياً ويمدحون العدل ولو نظرياً، ففطرية العدل مقدمة على فطرية الإيمان، ولما أتى الإسلام جعل الإيمان اختيارياً وجعل العدل لزاماً ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) بينما لم يجعل العدل اختيارياً، أي لم يقل ( فمن شاء فليعدل ومن شاء فليظلم) ولم يعلل أو يقرر حرية العدل والظلم كما قرر حرية الإيمان والكفر.
الغاية الثالثة : الإيمان:
رأينا أنه في الغاية الأولى ( الابتلاء) هي واقعة اضطراراً وقدراً، وقد علل الله بها سبب خلق السموات والأرض والإنسان، ورأينا أن الغاية الثانية (العدل) قد علل الله بها إنزال الكتب وإرسال الرسل، وقد قدمناها على غاية الإيمان لأنه لا خيار بين العدل والظلم، ولا حرية للظالم أن يظلم بل هو ملزم بالعدل – والظلم هنا الظلم الحقوقي أو الاعتداء المباشر- بينما الإيمان اختياري (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
وقضية الإيمان قضية مركزية في الرسالات السماوية، والإيمان عدة قضايا تتفاوت من حيث الأهمية – وكل على أهمية كبيرة- ولكن أهم قضايا الإيمان أمران، الإيمان بالله واليوم الآخر، فهو أهم من الإيمان بالرسل والكتب والملائكة، لأن الذي يؤمن بالله ويعرفه، يكون بحسب معرفته بالله أقوى على تحمل الابتلاء والاستعداد له، لأنه يعرف أنه يضحي ويصبر ليحصل على رضا الواحد الأحد الذي ابتلاه ورآه أهلاً للاختبار، وكذلك من آمن باليوم الآخر يعرف أن عمله في الدنيا لن يترك سدى، وأن هذه الدنيا دار عبور وأنها لا تستحق الوقوف عندها كثيراً وأن الدار الآخرة هي المثوى الأبدي الذي يجب العمل له والذي سيكون فيه التعويض الأوفى عن كل مظلمة لحقته أو صديق فقده أو مكانة تبوأها، ففي الآخرة العزاء الكافي عن كل مفقود في الدنيا من المعنويات والمحسوسات ، فالإيمان بلا شك من أكبر دلائل النجاح في الابتلاء، ومن مثبتتات العدالة ومحفزات الفضيلة، فالدنيا لا تستحق من الإنسان أن يضحي فيها بضميره وصدقه وشهادته لله ونصرته للعدالة ..الخ، وهذه الأمور تكلف الإنسان كثيراً من الخسائر الدنيوية، ولكن إذا عرف المبتلى بأن الله بهذا الابتلاء إنما ابتلاه حباً له وثقة به وربما ليباهي به ملائكته ..الخ، زاده هذا إيماناً وعزماً وتشبثاً بالله الواحد الأحد، وأن ولذلك نجد الله عز وجل يخصص الإيمان بالله واليوم الآخر ويفضلها على كثير من مسائل الإيمان الأخرى حتى الإيمان بالرسل والكتب المنزلة، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة/62] فهنا لم يتحدث الله عن الأنبياء والكتب المنزلة والملائكة لأسباب، أولها لأن كل ملة من هذه الملل لا تؤمن بأنبياء الملة الأخرى ولا كتبهم باستثناء المسلمين، فألزمهم بالحد الأدنى والأهم ( الإيمان بالله واليوم الآخر) فإذا عملوا صالحاً ( وهو الأخلاق العالمية من عدل وصدق وبر..) فقد تحققت نجاتهم، وكذلك قوله تعالى في حق أهل الكتاب : (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) [آل عمران].
ولكن الواقع السياسي أراد أن يحصر النجاة بدين ثم بمذهب من سبعين مذهباً وهو مذهب السلطة، كما في الحديث الذي رواه معاوية: (قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على اثنتين و سبعين ملة و تفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين كلها في النار إلا واحدة و هي الجماعة) ! وتبع العلماء سلطتهم في هذه العقيدة فقال ابن تيمية في شرح العقيدة الواسطية - ( 360) : ( أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ؛ كُلُّهَا فِي النَّارِ ؛ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ)! ثم يحصر أهل الجماعة بأمور كلامية وخلافية ..الخ
هذا هو الأثر السياسي القديم الذي يسير عليه الواقع المذهبي، فتسير الأجيال خلف ما كتبه الأسلاف، وينقل الأسلاف ما رواه السلاطين، وكتاب الله في الحالتين غير حجة! ولا يلتفت إلى مثل الآية السابقة، وإنما ينشغل المسلمون في طريق عمرو بن شعيب أو صفوان بن عمرو ال *** كي، وهؤلاء إنما رووا ما بثه قصاص السلطة ورواتهم، وأصبح الناس يتدينون بما وضعه السلطان ويعرضون عما نطق به القرآن، وهنا نجح مكر الشيطان، وأبلغ مكره أن يظن المسلم أنه عدوه وهو ينطق بلسانه، فاللهم عونك على بيان شرعك، واعصمنا من الشيطان وذويه.
إذن فالأيمان على محوريته إلا أنه مسائل بعضها أهم من بعض، وكلها من كبار ما أوجبه الله، ولكنه مع هذا كله لا إكراه في الدين، ومن هنا قلنا أن العدل مقدم في المطلبية على الإيمان، والإيمان مقدم على العبادة، والعبادة شاحنة للإيمان، كما أن الإيمان عامل شاحن للعدالة ، والعدالة اختيار موفق للابتلاء.. من هنا عمل الواقع السياسي على تغفيل البشر وصرفهم عن الترتيب لهذه الغايات لما يترتب عليها من كشف للخلل السياسي والثقافي، وبالتالي العمل الجاد على إصلاح الوضع، فتم صرف الناس إلى العبادة المحضة الجامدة التي تغفل عن وظيفتها في شحن الإيمان الذي ينتقل إلى الواقع العملي من توظيف قدرات الإنسان العقلية والعملية والروحية في زرع الفضيلة والإبداع وإنمائها على الأرض، لكون استخلاف الله للإنسان على الأرض واستعماره فيها، وهذه الغايات الأربع فيها حديث طويل لا يتسع له المقام هنا، وللأمانة لم أجد أحداً من قبل رتب هذا الترتيب، وجل الدراسات المعاصرة يستجيب لمسألة العدل فقط تجاوباً مع لغة العصر، أما أن يقرر معنى الابتلاء المتدرج من الحواس إلى العقل والضمير إلى ثمرة ذلك فلم أجد من أشار إليه فضلاً عن بحثه وتقريره، مع أن القرآن الكريم ناطق بهذا الترتيب، ولكن يحتاج للتدبر لولا أقفال التقليد والعوائد وضغط الواقع الفكري والسياسي (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)؟.
ثم الغاية الرابعة : هي العبادة :
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات]
والغاية العبادية لا تتناقض مع غاية الابتلاء ولا العدل ولا الإيمان، فمن لا يعبد إلا الله يكون قد مر بمراحل الابتلاء والإيمان والعدل، والعبادة هنا أشمل من الصلاة والزكاة والصوم والحج.. فالعبادة ألا تتخذ مع الله إلهاً آخر، لا صنماً ولا شيخاً ولا عادة ولا مذهباً..الخ، فمن فعل هذا فقد عبد الله ومن لم يفعل هذا فلا أدري هل عبادة الله تتفق مع التعبد بظلم الناس والركون إلى الظلمة أم لا؟ سياق الآيات يدل على شمولية العبادة كما في قوله تعالى : (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)، فمن عطل العقل لفتوى أو عقيدة، أو قتل الأبرياء لفتوى أو عقيدة، أو ظلم الناس لفتوى أو عقيدة، أو أكل أموال الناس لفتوى، أو عطل سمعه وبصره وأعرض عن آيات الله النيرات لفتوى أو عقيدة أو شيخ.. هل يختلف عن الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله أم لا؟ والجواب: لا، اللهم إلا إن كان في مستوى عقلي ضعيف يرفع عنه التكليف العقلي والقلبي والبصري والسمعي، فهذا أمر يعرفه الله وحده، فالله هو الذي يعلم من يستطيع أن يعبده وحده ومن لا يستطيع إلا أن يعبده إلا مع غيره، كل القرآن الكريم قائم على هذا المبدأ والمنطلق، فمن شاء فلينظر ومن شاء فليعرض.
* بقلم : الشيخ حسن بن فرحان المالكي - الرياض
* مفكر وباحث تاريخي مهتم بشئون حقوق الإنسان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.