كنت على الشاطئ مستمتعاً بالاستجمام برفقة أحد الأصدقاء وكانت طبيعة الشاطئ كعادتها، تارةً يأخذك هدير الموج ليسرحَ بك إلى مكان بعيد مجهول وعميق داخل صومعة فكرك، وتارةً يعود رشدك على صوتِ طفلٍ يركض مرحاً أو على منظرٍ لعاشقين ضمهما ماء البحر، إنه عالم مزدحمٌ بمزيج من الأرواح وكأنها لوحةُ قوسِ قزحٍ متبعثرة معلقة على حائطِ معرضٍ للفنون التشكيلية. وفجأةً سرق هدير الموج فكري مرة أخرى وأوجد في داخلي تساؤلات عديدة أهمها: ما هو السر في وجود التنوع البشري هذا؟، ها أنا ذَا هنا وحولي تنوعٌ فريدٌ بل أن حولي شعوباً، فلقد حمل كل فرد هنا ثقافة شعبه وعبر بها آلاف الكيلومترات وهكذا فعل غيره حتى تكونت مظلة التنوع هذه. المزيج البشري هذا أو التنوع هو تنوعٌ إلهٌ أوجده الله سبحانه وتعالى لحكمة وهي التعايش ولم يوجده لفتنة الصراع. نعم إن هذا يدل على أننا سنتعايش مع اختلافاتنا العرقية، ونعم سنتعايش مع اختلافاتنا العقدية، ونعم سنتعايش مع اختلافاتنا الأيدلوجية، ونعم سنتعايش مع الطالح والصالح مع المسيئ والمحسن. “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” وأجد أن دولة كدولة الإمارات العربية المتحدة أجادت في بناء مظلة التنوع هذه إذ تضم فوق المائتي جنسية يعيشون تحت نظام واحد يكفل للفرد والمجتمع حقوقه وأولها الأمن والأمان. هناك من يحاول زعزعة وخلخلة هذا التنوع بحجج واهية كالخلافة وأن الحكم لله وهي كلمة حق يراد بها الباطل وهي أكبر حججهم، ولكنها لن تحقق أمن واستقرار بل صراع بعد سلام، وتنافر بعد تعايش، وقد شهدنا مؤخراً في المنطقة سقوط دول لاختلافات سياسية ومن ثم أصبحت عقدية، قسمت المنطقة وبها قتلت التعايش، ونشهد كذلك حالياً هذه الصراعات في وسائل التواصل و هكذا قد بدأت وأسقطت من سقط، وماذا حققت؟ الحقيقة أننا خلقنا لنتعارف من أجل السلامة ولم نخلق لخلق الصراع. نحن كنّا في السابق حالة أو مادة نقاش ونظريات تجارب وأصبحنا الآن كما يقال Case Study تدرس لأخذ الدروس المستفادة من الأخطاء لتصحيحها -رسم خارطة طريق جديدة-. كانت هناك ورقة الطائفية، أول أوراق اللعبة، وجاءت ورقة الاختلافات الأيدلوجية داخل البيت السني، وجاءت ورقة الاختلافات السياسية وإثارة الفوضى وما يسمى بالربيع العربي، قد أنضجتها الأوراق السابقة، هذا كله جاء بسبب قوة التنوع التي تمتاز به المنطقة – لنقل كانت تمتاز به- ولأجل مراحل التقسيم التي نشهدها في الساحة العربية. وللأسف من يحملون الرايات باسم الدين هم جماعات متطرفة وبمسميات عديدة ذو أهداف مشتركة منها تغذية تقسيم المنطقة وإلغاء ميزة التنوع. اسم الدين التي تحمله هذه الجماعات ما هو الا وهْمٌ اغتر به الكثير وانخرط شباب الأمة تحت راياتهم السوداء. المسألة برمتها عبارة عن مخطط استراتيجي متكامل ومدروس تم اعتماده منذ فترة طويلة وليست وليدة اللحظة كما نعلم، وبالفعل قد نجح مخططوه في ذلك وأصبحت لديهم قاعدة جماهيرية تكفر المخالف إذ أن المخالف جزء من دائرة التنوع غير المقبولة لديهم. آختم بجزئية غاية في الأهمية وهي أن الكثير عندما يتزين باسم الدين، يلبسه الغرور والطمع لأجل سلطة ومنصب وجاه ويصبح وكأنه هو الدين فيتم معاملته كأنه الدين فإذا أخطأ فقد أخطأ الدين فأصبح الدين لعباً، وهذا بالضبط هي الصورة التي رسمت في أذهان الأمة وأصبحنا نعاني تطرف ديني أدى إلى تطرف لاديني، ناهيك عن الشكوك وموجة الالحاد. أرجو أن نعي هذه الجزئية، وهنا تستحضرني عبارة للشيخ الحبيب علي الجفري يقول فيها: “نحن نخدم الدين وبالتالي لا نعتبر أنفسنا بأننا نحن الدين، والذي يخطئ علينا يخطئ على الدين، هذا غير صحيح، لأن إذا عاملنا الناس على أساس أن الذي يخطئ علينا يخطئ على الدين سيعاملوننا على أن أخطاءنا هي أخطاء الدين” أخذني هدير الموج وأرجعني نعاس الشمس، هذه المرة لا منظر لعاشقين، ولا صوت طفل يركض مرحاً، فقد غط في سبات عميق. تحياتي