مباشرة بعد عسكرة الثورة السورية، ثار الجدل التقليدي في أوساط المعارضة حول التدخل الأميركي، وخاض البعض فيما إذا كان عليهم أن يؤيدوه تبعاً لإجرام النظام وضرورة وقفه، أم البقاء على الموقف التقليدي للقوى الإسلامية والقومية برفض التدخل الأجنبي، بخاصة الأميركي. السوريون كانوا مع التدخل الأجنبي دون تحفظ، وحينها قلنا لهم مراراً إنه ليس وارداً بحال، وإن سوريا ليست ليبيا، ولا حاجة لتأييد أمر ليس وارداً، وتحمل تبعاته دون جدوى، فهنا يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني قبل أي شيء، ولا يمكن لأميركا أن تخطو أي خطوة دون أخذ هواجس الصهاينة في الاعتبار، هم الذين وجدوا أن مصلحتهم هي تحويل سوريا إلى ثقب أسود يستنزف الجميع، وهو ما كان.
اليوم يعود الجدل من جديد، ويذهب البعض بعيداً في توقعاتهم من ترمب، بخاصة بعد الضربة العسكرية لقاعدة الشعيرات الجوية، وهنا عدنا إلى القول إنه ورغم أن ترمب ليس من اللون الذي يمكن توقعه، إلا أن حرصه الكبير على الكيان الصهيوني لن يدفعه إلى تغيير المعادلة المستقرة، ممثلة في خيار إطالة الحرب لاستنزاف الجميع، والذي كان خياراً إسرائيلياً، ثم أصبح أميركياً بعد تورط روسيا، وعدم وجود مصلحة لأميركا بإخراجها من ورطتها. ولعل الجميع قد لاحظ سيل التصريحات الأميركية خلال الأيام الماضية فيما يتعلق بسوريا والأولويات، وحجم التناقض في تلك التصريحات، الأمر الذي لا يغير في واقع الأمر شيئاً. وأي خطوة قادمة، لن تتجاوز، كما ضربة الشعيرات، حسابات ترمب الخاصة، هو الذي جنى من وراء الضربة أرباحاً واضحة، حتى إن فريد زكريا اعتبر أنها جعلته رئيساً حقيقياً بعد أن كان مشكوكاً في استمراره.
المعارضة السورية ليس لديها الكثير كي تخسره في حال عوّلت على تدخل أميركي، وخابت توقعاتها، لكن المشكلة الأكبر هي تلك المتعلقة بالجانبين الإيراني والروسي وعموم حلفاء النظام، إذ ينبغي أن تدفعهم الضربات الأميركية إلى إعادة النظر في حساباتهم برمتها. ذلك أن الضربات أزالت الأوهام الروسية بإمكانية التوصل إلى حل في سوريا بالتفاهم مع واشنطن، بل أكدت استراتيجية إطالة الحرب، وهو ما يعني أن ورطة الروس ستطول، ومعهم، بل قبلهم إيران التي تدفع كلفة الحرب. بوسع أي مراقب أن يتخيل الآن أي احتمال لسوريا، ونكررأي احتمال، هل من بينها عودة البلد إلى ما كان عليه تحت الولاية الإيرانية، ومن هو الذي جلب الروس إليه، ثم الأميركان الآن، والذين صارت لهم فيه قواعد وحلفاء، بعد أن لم يكن لهم أي شيء. ألا يستدعي ذلك وقفة أخرى للتفاهم مع تركيا والسعودية على حل في سوريا بعيداً عن الأوهام القديمة، وتبعاً له في اليمن، وحيث تتعمق ورطة حلفاء إيران، فضلاً عن العراق الذي عاد إليه الأميركان من جديد، فيما تلوح في الأفق نذر أزمة كبرى مع الأكراد بعد نهاية معركة الموصل؟! هل يقف عقلاء إيران فيعيدون النظر في نتائج مغامرة سليماني برمتها، من العراق إلى سوريافاليمن، أم سيواصلون سكرتهم وحالة التيه التي يعيشون فيها إلى أمد طويل، بما ينطوي عليه ذلك من نزيف مهول، وتبعاً له فشل ذريع، بخاصة إذا تذكروا الابتزاز القادم على يد الأميركان؟! التسوية لا تزال ممكنة بتفاهم القوى الثلاث في الإقليم (العرب وتركياوإيران)، وهي وحدها من تخفف الكارثة التي يجني الصهاينة أرباحها، ومعهم أميركا بسياسة فرق تسد، لكنها تسوية تحتاج مستوى من الرشد، يبدو أن خامنئي لم يبلغه بعد (وقبله سليماني، سيد ملفات الخارج)، مع الأسف الشديد. (العرب القطرية)