إسقاط طائرة تجسس حوثية في شقرة بمحافظة أبين    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    تأجيل مباريات الخميس في بطولة كرة السلة لأندية حضرموت    القوات المسلحة الجنوبية تحبط هجوما للقاعدة في أبين    السكرتير السابق للشيخ الزنداني يكشف مفاجأة عن تصريحه المتداول حول ''عودة الخلافة'' في 2020    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    عن العلامة اليماني الذي أسس مدرسة الحديث النبوي في الأندلس - قصص رائعة وتفاصيل مدهشة    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    المهندس صعتر و جهاد الكلمة    أضرار مادية وخسائر بشرية بسبب الفيضانات شرقي اليمن وإغلاق مدينة بالكامل    ترحيل آلاف اليمنيين من السعودية    ريال مدريد يثأر من مانشستر سيتي ويتأهل إلى نصف نهائي أبطال أوروبا    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    ليلة للتاريخ من لونين.. وخيبة أمل كبيرة لهالاند    نعيبُ جمهوريتنا والعيبُ فينا    أهلي جدة: قرار رابطة الدوري السعودي تعسفي    حراس الجمهورية تجبر ميليشيا الحوثي التراجع عن استهداف مطار المخا    الكشف عن استحواذ جماعة الحوثي على هذه الإيرادات المالية المخصصة لصرف رواتب الموظفين المنقطعة    الحوثيون يضربون سمعة "القات" المحلي وإنهيار في اسعاره (تفاصيل)    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    فضيحة قناة الحدث: تستضيف محافظ حضرموت وتكتب تعريفه "أسامة الشرمي"    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    حضرموت تستعد للاحتفاء بذكرى نصرها المؤزر ضد تنظيم القاعدة    "ليست صواريخ فرط صوتية"...مليشيات الحوثي تستعد لتدشين اقوى واخطر سلاح لديها    ثلاث مساوئ حوثية أكدتها عشرية الإنقلاب    فيديو اللقاء الهام للرئيس العليمي مع عدد من كبار الصحفيين المصريين    دوري ابطال اوروبا ... ريال مدريد يطيح بمانشستر سيتي ويتأهل لنصف النهائي    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    رافقه وزيري العمل والمياه.. رئيس الوزراء يزور محافظة لحج    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    انس جابر تعبر الى ثمن نهائي دورة شتوتغارت الالمانية    استقرار أسعار الذهب عند 2381.68 دولار للأوقية    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    محافظ المهرة يوجه برفع الجاهزية واتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية تحسبا للمنخفض الجوي    وفاة وإصابة 162 مواطنا بحوادث سير خلال إجازة عيد الفطر    أبناء الجنوب يدفعون للحوثي سنويا 800 مليون دولار ثمنا للقات اليمني    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    مصير الأردن على المحك وليس مصير غزة    من هم الذين لا يدخلون النار؟.. انقذ نفسك قبل فوات الأوان    باريس سان جيرمان يرد ريمونتادا برشلونة التاريخية ويتأهل لنصف نهائى دورى الأبطال    نيابة استئناف الامانة تتهم 40 من تجار المبيدات والأسمدة بارتكاب جرائم بيئية وتعريض حياة الناس للمخاطر    الكشف عن آخر تطورات الحالة الصحية للفنان عبدالله الرويشد    ارنولد: انا مدين بكل شيء ل كلوب    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شبكة اتصال الحضارم واستنقاذ الوطن
نشر في سيئون برس يوم 17 - 05 - 2012

ظلت حضرموت لمئات من السنوات تعتمد في تمويل معظم جوانب التنمية الاجتماعية و الاقتصادية في دولتيها : القعيطية و الكثيرية _ على دعم أبنائها المهاجرين و كانت التحولات السياسية الحادثة في بلدان مهاجرهم ثم في حضرموت نفسها فيما بعد , تلقي بظلالها دائما على ذلك الدعم و تؤثر عليه تأثيرا سالبا في غالب الأحوال . كما أن أهمية حضرموت و الحضارم _ بالتالي _ في أوضاع السياسة و الاقتصاد , محليا و إقليميا و دوليا قد كانت هامشية إلى الحد الأقصى منذ أن أصبحت حضرموت جزءا من اليمن الجنوبي عام 1967 , ثم جزءا من اليمن الكبير لاحقا عام 1990 .
إن الحكومة اليمنية القائمة التي تهيمن عليها القبائل الشمالية و أركانها العسكرية و التجارية هيمنة بالغة , تدرك مدى ضخامة الثروة و الخبرة في أعمال التجارة و المقاولات التي راكمها الحضارم في كل أنحاء بلدان المحيط الهندي . و مع ذلك فإن هذه الحكومة لا تقدم لهم أي أساس عملي أو تسهيلات حقيقية للاستثمار في وطنهم الأصلي . و عليه فإن حبل الوصل العريق بين دعم المهاجرين الحضارم و بلادهم قد انقطع .
و هكذا فقد أصبح الحضارم في الجمهورية اليمنية أقل قدرة على الدفاع عمَّا لهم من مصالح في وطنهم الأم , ناهيك عن تطويرها و الارتقاء بها . كما ترتفع نسبة الفقر و البطالة في حضرموت ؛ بالرغم من حقيقة أنها تقدم نحو 60 في المائة من موارد الميزانية في اليمن بما يُصدّر من نفطها .
إن هدف الورقة هذه هو تزويد المهاجرين الحضارم في جنوب آسيا , و في غيره من بقاع الدنيا بالتطورات الحادثة على أرض وطنهم , بحيث يمكّنهم ذلك من التعاون و تنسيق دعمهم لرعاية نشاطاتهم الاجتماعية و الاقتصادية .
كما أنها تجتهد بدراسة السُّبُل التي يمكن أن تصل بين حضارم الوطن و حضارم المهجر عبر شبكة اتصالات خاصة بهم , و تقديم المزايا الناشئة لهم جميعا عن مثل هذا الوصل .
قال الرحالة و الكاتب البريطاني الشهير , السير رتشرد برتن sir Richard : " يقال _ على وجه التعميم _ أن الشمس لا تشرق على أرض ليست تقل رجلا من حضرموت " . كان ذلك في القرن التاسع عشر , الذي عاش فيه السير رتشرد برتن . و لئن بلغت الهجرة الحضرمية ذلك المبلغ منذ ما يزيد على المائة من السنين , فإن إقليم حضرموت كان قد أُفْقِرَ و أثخنته حروبُ القبائل و ما توالى عليه من نزيف يعزو إليه بعض من الأكاديميين تلك الهجرة الواسعة النطاق للحضارم . بيد أن ذلك لا يمثل حقيقة الأمر برمتها . فالإقدام على الهجرة مَدَى عديدٍ من القرون , و النجاح الذي أحرزه المهاجرون في مجتمعات المهجر , إلى جانب التأثير الاجتماعي و الديني العميق على تلك المجتمعات , تُنْبِئُنا بأنَّ ثَمَّةَ مزايا بعينها كان يتمتع بها الحضارم , ميَّزتهم عن غيرهم من جاليات الشتات . فقد تَحَلَّوا بقدرةٍ لافِتةٍ على الاندماج في مجتمعات مهجرهم , و التكيف معها , و خلق تأثير عميق عليها . على أن أظهر ما تفردوا به من السمات هو ارتباطهم الوثيق بوطنهم الأم و تواصلهم المستمر معه . و لقد كانت هذه المساندة طوال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر و النصف الأول من القرن العشرين تقدم المصدر الرئيس لإعالة ساكني حضرموت . و متى انقطع هذا الدعم كانت تنشأ حال من العَنَت في المعيشة , بل حتى مجاعة , كما حدث إبَّان الحرب العالمية الثانية . و لم يكن تأثير أولئك المهاجرين على وطنهم الأصلي ثأثيرا اقتصاديا أو اجتماعيا , إذ أن تأثيرهم السياسي كان هو الذي وَطَّأَ السبيلَ _ في الحقيقة _ للسلطنتين القطيعية و الكثيرية كليهما , حيث أن كلا السلطانين أتيا من المهجر , و لقد كانت حظوظ الوطن الحضرمي من الثروة تتغير بتغير أحوال مهاجريه .
و طوال قرون عديدة تَحكم الحضارم بتقرير مصيرهم , و كانوا يتَّخذون قراراتهم الاقتصادية و الاجتماعية و الدينية و السياسية التي تحدد سبيلهم في مهاجرهم و في الوطن على السواء . و لئن نشأت هناك صراعات كبيرة أدت إلى انقسامهم ( كصراع الإرشاد ) فقد كانوا يتَّحِدون جميعاً حين يتعرض وطنهم لأزمة ما , و يتفقون على خطة تاريخية للإصلاح و التنمية في حضرموت . [ قرارات مؤتمرات الشحر و سنغفورا ] .
أما المصدر الصلب لقوتهم في ذلك فهو الشبكة التي كانت قد تشكلت على مَرِّ القرون رابطة الحضارم القاطنين في مختلف مجتمعات المهجر ببعضهم بعضا و بحضرموت ذاتها . و نجد في وثيقة عائدة إلى مستهل القرن العشرين يوردها _ اقتباسا _ د. ألريك فريتاغ D.ULRIK FREITAG وصفا يقدمه رجلٌ عجنته التجارب لاثتين من الشبان في أسرته حول الطريقة التي يتدبران بها أمر سفرهما إلى سنغفورا : " عندما تصلان إلى المكلا , ابقيا عند السيد حسين بن حامد المحضار . و كل ما قد تحتاجان إليه من نقود تأخذانه من سالم اليزيدي الذي ذكرناه , و ابعثا هدايا و رسائل إلى أسرتكما و أولادكما و إلينا , و اكتبا من كل مكان إلينا حتى نطمئن عليكما . و قد طلبنا من عبدالرحمن بن عبدالله أن يكتب لكما عند وصولكما إلى عدن رسالةً ( للتعريف ) . و عليكما بعد اللقاء به أن تتبعا توجيهاته . و إذا تسنى لكم التوجه إلى الميناء فتقيدا بإرشاداته . كما طلبنا من محمد جبر في عدن تزويدكما بكل ما قد تعوزان . و إذا توافر عَسَلٌ في المكلا فاشتريا بعضاً منه هديةً لأقاربنا في سنغفورة . و اشتريا في عدن بعض الحلوى و الزبيب و اللوز هدايا لأسرتكما و لنا و للأهل في سنغفورا . و كل ما قد تحتاجان إليه من مالٍ قَلَّ أو كَثُر , فهو تحت تصرفكما . و لكما أيضا الإذن مني بدفع الصدقة منه . و عند السفر إلى سنغفورا , اعملا بنصائح عَمِّكُما عبدالرحمن بن عبدالله , و أرسلا يوم وصولكما إلى عدن بطاقة إلى ( الكاف ) سنغفورا ، أبوبكر عبدالرحمن ؛ لكي يعرف أنكما في عدن " .
[ المصدر : Hadhrami migration in the 19th and 20th centuries
http\www.al-bab.combysarticlesFreitag99.htm
من روايةٍ كهذه يمكننا تقدير قوة الشبكة و فعاليتها . فالثقة و التواكل واضحان بين مختلف الأُسَر و عبر الفئات الاجتماعية المختلفة . كان ذلك في زمن تصعب فيه الاتصالات و التنقل . فقد أحسن استقبال ذينك الشابين عند وصولهما إلى سنغفورا , و تم إيواؤهما و إرشادهما و مساعدتهما لبعض الوقت على الشروع في اكتساب الرزق . و سرعان ما يبدآن في إرسال التحويلات ( الخرج ) إلى أسرتهما في البلاد . و تمثل هذه حالةً قياسية من حالات الدعم و المساندة بالنسبة لمعظم أسر المهاجرين . و هناك دعم أظهر حتى من ذلك كان يقدم للناس في أرض الوطن , هو الاستثمار في مجالات الزراعة و التعليم و البنية التحتية و البناء . و لا تزال قصور تريم و حدائق سيئون و بنايات المكلا و الجوامع الجليلة , في ساحل حضرموت و واديها , تحمل أسماء عائلات من المهاجرين , و تقوم شاهداً على الالتزام نحو الوطن الأم و الارتباط به . و خير ما يظهر هذا الالتزام و هذا الارتباط هو قرارات المؤتمر الثاني للإصلاح الحضرمي المنعقد في سنغفورا بين 17 إبريل و 1 مايو 1928 ، و البيان الموجه من المؤتمر إلى الأمة الحضرمية .
يقول ذلك البيان :
" لئن لم نقم بانتشال الأُمَّة من الدَّرَك الذي تتردَّى فيه ؛ فإننا سندفن _ بلا ريب _ في مدافن الأُمَم و الشعوب إذا استمرأنا المضي في هذه الطريق المؤدية إلى ذلك . و لا تستغربوا ما نقول , فإن عُمْرَ الأُمَم يقاس بالمئات و الآلاف من الأعوام , و إذا ما نفثنا آخر أنفاسنا في هذا القرن , فعندئذ سوف نندم حيث لا ينفع الندم . ربما نعيش طويلا مشتتين كأفراد , بعد زوالنا كشعب ذي وطن , لا قدر الله . فتلك حياةٌ يأباها العزيز و يأباها الحُر , و لا يقبلها إلا الضعيف الذي مات فيه الشعور " .
تمثل هاتان الوثيقتان التزاماً واضحاً لدى المهاجرين تجاه مصلحة الوطن و ازدهاره , و تقدمان _ كذلك _ الدليل على كون دعم المهاجرين عاملاً حيوياًّ في بقاء حضرموت كيانا قابلا للحياة . إن ما يتجلى في الوثيقتين من روح معنوية , و إحساس بالمسؤولية , و وطنية عالية و سعى إلى رفعة حضرموت , يمثل مصادر قوة ينبغي ألا يغفل عنها الحضارم اليوم . و لقد تغيَّرت الأحوال تغيراً مثيرا جداًّ إبَّان الحرب العالمية الثانية و ما بعدها ؛ إذ أعيقت الاتصالات و الحويلات حينها ؛ مما أدَّى إلى عَنَتٍ شديد في المعيشة , و حدوث مجاعة . فكان أبناء القبائل و البدو يتجمعون في مناطق متباعدة حول منازل عائلات المهاجرين ( آل الكاف في تريم , و آل طالب في الحوطة ) لتوزيع الحَبِّ عليهم . و لا تزال الذاكرة تحتفظ بذلك حتى اليوم . كما أن الجيش البريطاني قد عَمَد إلى إلقاء الأغذية عبر الجو في الأطراف الصحراوية القصيَّة .
و كان أن استقلت إندونيسيا في عام 1948م , و قامت بها حكومة وطنية فرضت على الحضارم الاندماج . فاتحد حزبُ عرب إندونيسيا مع الحزب الوطني , و أعلن العربُ هناك أن إندونيسيا هي ( الوطن الأب ) لهم .
و قد مُنِعَت التحويلات و خسر كثير من العائلات ممتلكاتٍ واسعةً للمصادرة الحكومية . و بهذا الصدد يقول كريستين ليكون Christion Lekon : " بدا جليًّا في العام 1950م أن روابط حضرموت الاقتصادية التي كانت قائمة قبل الحرب من الصعب أن تعود إلى ما كانت عليه مباشرة , فالهجرة إلى جنوب شرق آسيا و الهند و إثيوبيا لم تعد تسمح بها السلطات في تلك البلدان , أو تشجِّع عليها , على الأقل , , كما أن إرسال التحويلات من قِبَلِ الحضارم في ما وراء البحار أصبح يزداد صعوبة " . أما التحويلات المالية المرسلة من شرق أفريقيا ( جاوا الفقراء ) فلم تستطع تعويض ما فُقِدَ من تحويلات الشرق الأقصى . و لقد واجه الحضارم لاحقاً عينَ المشكلة التي واجهوها في إندونيسيا , و ذلك حين استقلت بلدان شرق أفريقيا في ستينيات القرن العشرين . و بما أن المهاجِر التقليدية قد أصبحت مناطقَ طارِدَةً و غيرَ مُحَبَّذَةٍ للهجرة إليها في الخمسينيات و الستينيات من القرن العشرين ؛ فإن الهجرة الجماعية في تلك السنوات تحوَّلت صوبَ الحجاز و الخليج و عدن .
إن الطفرة الاقتصادية التي شهدتها عدن في الخمسينيات و الستينيات قد اجتذبت إليها تدفُّقاً من البشر و من رأس المال , و قَدِمَ إليها كثيرٌ من الحضارم من إندونيسيا و شرق أفريقيا للاستثمار في العقار و الصناعة و التجارة . أما الحضارم المهاجرون في السعودية و باقي بلدان الخليج , فلا توجد تقديراتٌ دقيقةٌ لأعدادهم , و لئن كان بمقدور الحكومة اليمنية تقدير عدد حاملي الجوازات اليمنية منهم فقط , فإن كثيرين غيرهم قد حصلوا على جنسيات البلدان التي توطَّنوا فيها , و مع ذلك , فإن الرقم الذي يذكر في الغالب , و يبدو معقولا تماما , هو 1.5 مليون , بالإضافة إلى 200 ألف في دول الخليج , و على رأسها الإمارات العربية المتحدة .
و الحضارم في السعودية معظمهم من أهل وادي دوعن , الذين عُرِفوا بخبرتهم الواسعة في التجارة , و قد تمكَّنوا من اغتنام فرصة الطفرة النفطية التي شهدتها سنوات السبعينيات , و راكموا ثروات مرموقة على المستوى العالمي , منهم بن محفوظ , و بن لادن , و بقشان , و العمودي , و باخشب , و با ناجه . و هناك مئاتٌ غيرهم . و خلال الستينيات و السبعينيات و ما بعدها كان الحضارم المغتربون في السعودية هم الأكثر تأثيرا على وطنهم رغم كونه تأثيرا محدودا في الغالب دونما أثر اقتصادي أو سياسي على المدى الطويل . أما السبب في ذلك فجَلِيٌّ أنه التَّغيُّر الذي طرأ على حضرموت بعد أن خسرت السلطنتان مكانة الدولة الحاكمة , و أصبحت جزءا من اليمن الجنوبي يحكمها نظامٌ وُصِفَ بالماركسي اللينيني الوحيد في الوطن العربي . فكيف ترى انعكس تأثيرُ ذلك على الروابط و الصِّلات القائمة منذ قرون بين حضرموت و جاليات الشتات من أبنائها ؟
حضرموت ضمن اليمن الجنوبي ( 1967 _ 1990 ) :
شَرَعَت الامبراطورية البريطانية في منح مستعمراتها الاستقلال عَقِب الحرب العالمية الثانية , و لم ينطوِ العام 1960 إلا و قد استقلَّت بلدانٌ عديدةٌ في آسيا و أفريقيا عن مستعمريها الأوروبيين . و في العام 1952 يطيح الجيش المصري بالملكية المتحدِّرة من الحكم العثماني , ثم يصبح ناصر هو الزعيم الآسِر في مصر برؤية قومية عربية , و تأسر هذه الرؤية الكثيرين في أنحاء العالم العربي , يعينها على ذلك دعمٌ مصري مباشر لحركات الاستقلال و القوى الثورية , و في بعض من بلدان أفريقيا و آسيا نالت الاستقلال أوائل المؤسسات التي أنشأت الدولة المستقرة و الوظيفية و وطدت دعائمها , و أنجزت انتقالا سَلِساً و تنمية سياسية و اجتماعية و اقتصادية سليمة . و في ظل رؤية كهذه دعمت بريطانيا في الخمسينيات من القرن الفائت تشكيل اتحاد الجنوب العربي الذي انتظم السلطنات و المشيخات الكائنة غرب حضرموت . أما الخطة الخاصة بالاتحاد الشرقي الذي يشمل سلطنات الكثيري و القعيطي و المهري فلم تتحقق بسبب الخلافات بين السلطنتين الكثيرية و القعيطية . بَيْدَ أن الوقائع قد جرفت الخطتين كليهما على أيَّةِ حال . و بضغط من المجتمع الدولي و المقاومة الوطنية العنيفة في عدن , عمد البريطانيون بضغط من المجتمع الدولي و المقاومة الوطنية العنيفة في عدن , عمد البريطانيون إلى تعجيل موعد انسحابهم , و قد أقنعوا سلاطين الكثيري و القعيطي و المهري بحضور اللقاءات التي نَظَّمت عقدَها لجنة الأُمم المتحدة لاستقلال الجنوب في جنيف , و ما بلغ السلاطين جنيف حتى بلغتهم الأنباء عن مغادرة البريطانيين المكلا و مسارعة الجبهة القومية إلى الاستيلاء على جيش الكثيري ( جيش البادية ) و القعيطي , إذ كان لها تأييد قوي فيهما . أبحر أولئك السلاطين عائدين إلى المكلا بغية إنقاذ الموقف , ليكتشفوا أن الأوان قد فات , فرحلوا إلى المملكة العربية السعودية حيث قاموا هناك في المنفى . أما الجيشان الحضرميان فقد تم تسريحهما , و خسرت حضرموت سيادة دولتيهما عليها . و يلتقي البريطانيون في جنيف بقيادات الجبهة القومية في محادثات بشأن استقلال الجنوب العربي .
و تعود الجبهة القومية في محادثات بشأن استقلال الجنوب العربي , و تعود الجبهة القومية إلى عدن , حيث يتم إعلان استقلال جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية يوم 30 نوفمبر 1967 برئاسة قحطان الشعبي , و هو من أبناء منطقة لحج , و بذلك تولت الجبهة القومية السلطة ، أما خصومها _ جبهة التحرير , و الرابطة , و الشيوخ , و السلاطين _ فقد تم نفيهم .
كانت القاعدة الرئيسة لقوة الجبهة القومية هي قيادة جيش الاتحاد التي تنتمي غالبا إلى لحج و أبين و العوالق . أما الحضارم فلم يكن لهم أي حضور فعلي في القوات المسلحة الجديدة , و إن كان أول وزير للدفاع فيها حضرميا , و هو علي سالم البيض . و لم يمر عامان حتى استولى على السلطة _ في 1969_ الجناح الماركسي في الجبهة القومية . فوضع قحطان الشعبي في السجن , و اغتيل فيصل الشعبي رئيس الوزراء و ابن عم قحطان . و قد توفى قحطان سجينا بعد 12 عاما .
عرف النظام الجديد لاحقا بوصفه النظام الماركسي و اللينيني و الماوي الأكثر تطرفا و وحشية في العالم العربي . فقد فرضوا سياساتهم المحدثة الغربية بيد من حديد . فاعتقل الآلاف و أعدموا بدون محاكمات .
و طبقت التعاليم الماركسية و الماوية على نحو مشوش و دونما تقيد أو تميز , و تم بوحشية إخراس أي صوت معارض .
و في 1973 جرت محاولة لاستنساخ الثورة الثقافية الماوية ، فصودرت جميع الأراضي و المباني و المصالح التجارية في " انتفاضات " العمال و الفلاحين , و ألغيت أسماء المحافظات , و تم استبدالها بأرقام , فإذا بحضرموت تصبح المحافظة الخامسة ، و صودرت الأراضي الزراعية لتسلم لاتحاد الفلاحين ؛ ليقوم إلى منحها بدوره فلاحين آخرين . أما الأعداء التقليديون للفلاحين و العمال فكانوا السادة و رجال القبائل , و قد جرت معاملتهم بمزيج من الحقد و الارتياب . و قد قتل عدد كبير منهم و سجن عدد أكبر دون محاكمة . و كثيرا ما كانت حضرموت حقل تجارب لسياسات جديدة اجتماعية أو اجتماعية اقتصادية أو استبدادية . لمصلحة جهات خارجية .
و في ما يلي وصف لإحدى الوقائع يقدمه بعض من شهود العيان :
في إحدى القرى الصغيرة بحضرموت , أقام اتحاد الفلاحين محاكمة _ في الساحة الحمراء بتلك القرية _ لسبعة من رجال " الثورة المضادة " الذين كانوا ملاك أراضي و رجال دين , و ذلك في الساحة الحمراء بتلك القرية . اتخذ مجلس هيئة المحكمة من مؤخرتهم سيارتي " جيب " ، و كانت هيئة الادعاء هي الحشود المتجمعة في الساحة ، أما التهم فهي صرخاتهم و شتائمهم . و بصرخات كصرخاتهم تلك , أيضا , صدر الحكم " الحبل , الحبل " . عصبت _عندئذ _ عيون أولئك الرجال السبعة ثم صرعوا على الأرض , و أوثقوا " بحبل " من كواحلهم إلى السيارتين اللتين مثلتا قبلئذ مجلسا لهيئة المحكمة . انطلقت السيارتان بعد ذلك جارتين الرجال سبعتهم على وجه الطريق لمسافة خمسة كيلومترات , انتزعت خلالها عن أولئك المجرمين " السبعة ثيابهم , و جلودهم , و أرواحهم , و وصلت بهم السيارتان إلى مكان تجمع أكبر يتألف من آلاف المحتفلين احتفالا ثوريا بالانتفاضة , ألقى فيه بعض من القادة السياسيين للحزب خطبا لاهبة ثم يغنون و يرقصون أغاني و رقصات شعبية من حول تلك الجثث المعراة " , التي كان تلفزيون النظام و صحافته يشيرون إليها بوسم " الايام السبعة المجيدة .
( عقد من الديمقراطية التعددية في اليمن د. سعد الدين بن طالب , 2003 )
في ذلك العهد الرهيب ولد الحزب الاشتراكي اليمني بتحالف قوي مع الاتحاد السوفيتي . و قد قدمت موسكو من الدعم السياسي و الفني و العسكري ما جعل اليمن الجنوبي جبهتها الإقليمية في الحرب الباردة . و تهديدا لجيرانه : اليمن الشمالي , السعودية , عمان , الذين كانوا على الجانب الآخر .
اتخذ الحزب الاشتراكي اليمن طوال فترة سالمين ( 1969 – 1978 ) شكلا متطرفا من الاشتراكية هو بالنموذج الماوي أشبه . و عملت السياسات المحلية و الدولية على وضع اليمن الجنوبي في حالة مواجهة مستمرة مع جيرانه المتحالفين مع الغرب . و أخصهم السعودية و عمان و اليمن الشمالي ؛ ففر من البلاد مئات الآلاف من طلاب الملاذ و الرزق خاصة في المملكة العربية السعودية التي كان اقتصادها يشهد طفرة نفطية خلال السبعينات و الثمانينيات من القرن العشرين .
إن المهاجرين الحضارم يعتبرون السنوات الماركسية تلك هي السنوات الأسوأ على الأرجح في ذاكرة الهجرة , فالسفر إلى حضرموت و منها ، و الاستثمار و التحويلات المالية و الحريات العامة قد تم التضييق عليها جميعا إلى أقصى حد , و من المفارقة أن إندونيسيا و في المرحلة ذاتها تقريبا عادت إلى انفتاحها السابق عقب تولي السلطة فيها فاعتبرت حكومتها الجديدة نظام اليمن الجنوبي نظاما عدائيا و قيدت السفر إليه و منه , و لم ترفع ذلك القيد إلا بعد قيام الوحدة في 1990 . أما دورة العنف السياسي و الصراع على السلطة في عدن فقد استمرت و على نحو دوري شبه منتظم ففي 1978 عقب اغتيال الغشمي رئيس الجمهورية في اليمن الشمالي و اتهام نظام اليمن الجنوبي بذلك ؛ شعر الرفاق بالحاجة إلى كبش فداء فوجه المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني ذلك الاتهام إلى الرئيس سالم ربيع علي " سالمين " حصرا و اختصر الأمر بأن قرر إعدامه .. أن الرواية الرسمية المقدمة بشأن ذلك تقول إنه تم تنفيذ حكم الإعدام عليه و لكن لم تكن هناك أية محاكمة و عليه فإن السيناريو الأحظى بالثقة كما تقول كتابات كثيرة يفيد بأن الرئيس سالمين كان قد نمَى علاقات حسنة مع رئيس اليمن الشمالي الغشمي و أنه اتفق معه على إرسال ذلك مع مبعوث شخصي منه إليه و لم يكن الرفاق راضين عن مثل هذه الصداقة فإنهم قد رتبوا سرا لاستبدال ذلك المبعوث بشخص آخر يدعى الحاج تفاريش و معه تلك الحقيبة الشائنة التي انفجرت في قاعة الغشمي فانفجر الرفاق بذلك فرحا و تطبيقا حرفيا للقول السائر : " عصفورين بحجر واحدة " . و بعد الإطاحة بسالمين تم تنصيب عبدالفتاح اسماعيل على راس الدولة ليخلفه بعد عام واحد على ناصر محمد.
[ على حسين عشال , عضو البرلمان أطروحة ماجستير في العلوم السياسية . جامعة الخرطوم رسالة مدارها دورات العنف السياسي في اليمن ] .
أدرك علي ناصر أن تلك السياسات لا تخدم اقتصاده و شعبه و بمباركة من السوفييت بدأ في خطة بتحرير السياسات الاقتصادية و الاجتماعية الداخلية و تحسين العلاقات مع الجيران , و قد سهلت هذه العملية أكثر بإقصاء الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني حينها عبدالفتاح اسماعيل ( فتاح ) المنتمي إلى تعز في اليمن الشمالي , و الذي كان قد أصبح الرجل العقائدي الأقوى و الأشد إخلاصا لتعاليم ماركس و لينين و مع منبلج الثمانينيات ثار جدال حاد داخل الحزب بشأن السياسات الجديدة , و لتجنب الصراع الدموي قام السوفييت بدعوة فتاح إلى موسكو حيث أقام هناك لبضع سنين أصبح علي ناصر عندئد الأمين العام للحزب و رئيس الدولة بالإضافة إلى رئاسته لمجلس الوزراء , و لقد قوبلت سياساته الانفتاحية بالاستحسان محليا و إقليميا , و لكن شعبيته و نفوذه السياسي كانا يثيران القلق في نفوس رفاقه و مع العام 1985 تصاعدت التوترات داخل القيادة و اتضحت الانقسامات إلى أجنحة مناطقية و قبلية في المكتب السياسي بادية للعيان و انتشرت الشائعات بأن القتال سينشب عندما يعقد الحزب مؤتمره المقرر موعده في أواخر العام 1985 و في ذروة ذلك التوتر و الاحتقان يعود عبدالفتاح من موسكو بحجة المؤتمر ليسهم فقط في صب مزيد من الوقود في ذلك الموقف المتفجر . و في اجتماع حاسم للمكتب السياسي يناير 1986 لم يظهر على ناصر و أنصاره بل دخل إلى القاعة بدلا منهم رجلان مسلحان ببندقيتين آليتين و أطلقا النار على الرفاق فقتل أربعة من القيادات بمن فيهم فتاح و جرح آخرون قبل أن يلقى ذانك المسلحان مصرعهما , و تم الاتصال بوحدات الجيش و اصطف أنصار كلا الفريقين على عجل بحسب المناطق و القبائل لتفتح بعدئذ أبواب جهنم و باصطفاف البحرية في جانب سلاح الجو في الجانب الآخر و المدرعات في جانب و الدفاع الجوي في الآخر , و هذا الجندي في جانب و زميله في الجانب الآخر . استمر القتال و التدمير لمدة عشرة أيام بلغت حصيلتها عشرة آلاف قتيل . [ عقد من الديمقراطية و التعددية ..... مرجع سابق ]
انهزم جناح على ناصر المؤلف معظمه من أبناء محافظة أبين و شبوة و فر هو و جنوده و أتباعه و كثير من المواطنين المحايدين الخائفين عبر الحدود إلى الشمال آنئذ بنحو 30000 شكلوا قوة كبيرة من الخبرات العسكرية و الفنية و الإدارية , و تمكن على ناصر من الاتفاق مع علي عبدالله صالح رئيس الشمال على استيعابهم و إيوائهم . أما حضرموت فقد بقيت خارج خط الانقسام ما بين أبين و شبوة و يافع و الضالع في جانب آخر . و لعل ذلك ما فتح السبيل أمام اثنين من الحضارم لتولي المنصبين الأعليين , ففي عدن المبتلاة بآثار الدمار التي خلفتها المعارك اختير حيدر العطاس رئيسا , على أن الموقع الأقوى يتمثل بمنصب الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني , و قد تولاه علي سالم البيض , و كلا الرجلين من حضرموت . كانت الخيارات محدودة جداًّ أمام اليمن الجنوبي باقتصاده المتردي و جيشه المشطور و شعبه المثبط . فلم يكن هناك من خيار عدا رأب الصدع مع دول الجوار و المضي في سياسة الباب المفتوح التي ابتدأها على ناصر , و في هذه المرحلة تم الشروع في الحوار ما بين الشمال و الجنوب بشأن الوحدة التي كان الكثيرون يعتقدون _ و على نحو منطقي تماما بالنظر إلى تاريخ الباحث بشأنها _ أنها غاية تملصية و مستحيلة .
كان الضغط الواقع على الحزب الاشتراكي اليمني الذي يواجه تمزقا داخليا أكبر من ذلك الواقع على الرئيس صالح الذي كان اهتمامه الأكبر منصبا على التوسع في الأرض و الموارد , و في الحقيقة فإن اكتشاف شركة النفط الكندية كنديان أوكسي احتياطيا نفطيا كبيرا في المسيلة بحضرموت صيف عام 1989 قد أعقبه صالح و البيض على اتفاق الوحدة يوم 30 نوفمبر 1989 .
الوحدة و الحرب الأهلية :
نص الاتفاق على وجوب أن يصدق عليه كلا البرلمانين , و في يوم 22 مايو 1990 _ بعد مرور ما لا يزيد على ستة أشهر _ تم دمج الدولتين في دولة واحدة . أما الاستفتاء على الدستور و الذي كان يتوجب إجراؤه خلال ستة أشهر , فقد تم آخر الأمر في مايو 1991 . إن الابتهاج الشعبي بميلاد اليمن الموحد و الحريات الجديدة قد كان غامرا , و على الصعيدين المحلي و العربي ؛ بيد أن الأحداث كانت تجري بوتيرة جِدّ متسارعة , بحيث لم يتح لأحد ما يكفي من الوقت للنظر في التفاصيل الحاسمة و الخطرة على المدى المنظور .
إن التحول الليبرالي قد أنتج أيضا تحولات اقتصادية و اجتماعية و ثقافية و إدارية في المجتمع , خاصة في الجنوب , حيث قد كان الناس قد حرموا من الحريات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية في ظل الحكم الاشتراكي . و من ناحية أخرى فإن الناس في الجنوب كانوا عموما موظفين لدى الحكومة , أو من صغار التجار و الفلاحين . و لم يَكُ ثَمَّةَ أعمالٌ تجارية كبيرة أو ملاك أراضي كبار , و في محاولة لإصلاح اختلال التوازن مع الشمال بدأ الحزب الاشتراكي اليمني حملة توزيع لأراضي الدولة . فأعيدت الأراضي الزراعية المصادرة إلى أصحابها الأصليين و وزعت أراضي الدولة على المواطنين للسكن الشخصي أو لأغراض استثمارية أو زراعية .
و بطبيعة الحال فإن فسادا شاملا قد مورس في ظل تَسَيُّب الرقابة أو انعدامها . و مع تدفق الأموال تدفقا هائلا من الشمال و من المهاجرين العائدين ارتفعت أسعار الأراضي ارتفاعا كبيرا , و حدث انتقال ضخم للثروة لصالح المحظوظين بالبقع ذات القيمة العالية في السوق . و كانت النخبة الحاكمة هي المستفيدة الأكبر . إن حجم الثروة المتولدة عن الأراضي في عدن و حضرموت على وجه الخصوص
قد ألقى الكثير من الغمام على الأساس المبدئي لقادة الحزب الاشتراكي في سعيهم الشاق نحو ترسيخ موضع قدم لهم في اليمن الجديد . فالثروة الجديدة كانت هي المطلب اليومي طوال الفترة الانتقالية .
شاع الانفلات حتى شمل المجالات كافة .. الجيش و الأمن و الإدارة و القضاء و السياسة المالية . و لقد أدى ذلك إلى تخريب واسع النطاق و طويل الأمد . و لئن كان وجود الفساد بدرجة كبيرة معروفا في الشمال قبل الوحدة ، فإن الحجم الذي بلغه بعد الوحدة لم يكن يتصوره أحد . و على مختلف المستويات فإن مفهوم السلطة كان يعني الوصول إلى الثروة . و على أساس من ذلك غدت الثروة أداة سياسية بالغة الفعالية ، و قد تحكم صالح باستعمالها على مر السنين . برر أزمات عديدة أثناء الفترة الانتقالية ، فضلا عن حقيقة أن المسائل الملحة ، التي كان لا بد لها من الحل لم يجر حلها و في 1991م كان من تبعات الاجتياح العراقي للكويت أن طرد مئات اليمنيين العاملين في السعودية و باقي دول الخليج و يقدر عددهم بما يزيد على ثمانمائة ألف . و قد اتخذ هذا الإجراء ردا على موقف الحكومة اليمنية الذي اعتبر ممالئا للعراق . فكانت هذه القضية سببا للاحتكاك بين الجانبين إذ أن القادة الجنوبيين كانوا متعاطفين مع الكويت ، بينما لم يستطع القادة الشماليون أن يعادوا صدام حسين . لقد كان طرد العمال اليمنيين أخطر ما تعرض له اليمنان على الأرجح من ضرر اقتصادي و لئن نتج عن هذا الطرد الجماعي آثار إيجابيه ظاهرة بوجه مباشر , فإن الضرر العميق الذي لحق بالاقتصاد ، مع ارتفاع مستويات البطالة و الفقر قد تكشف لاحقا . ففي بادئ الأمر جلب أولئك العاملون المطرودون معهم مدخراتهم نقدا و عينا مما خلق إحساسا بانتعاش اقتصادي مؤقت دام ثلاث سنوات ازدادت خلالها حركة بناء المساكن و المباني التجارية ، كما ارتفعت أسعار الأراضي ، و شهدت حضرموت ، المكلا بوجه خاص ، نموا لم يكن مرتقبا فقد كان هنالك ما يقرب سبعين ألفا من عمال البناء القادميين من اليمن الشمالي أوائل التسعينات إلى المكلا . و من المفارقة هنا أن حضرموت غدت تستقبل العمالة المهاجرة إليها بدلا من إرسالها إلى الخارج منها . كما كان دأبها تاريخيا , كان ثمة عدد من العوامل المحركة لذلك التفاؤل الاقتصادي :
أولها : الاكتشافات النفطية في حضرموت , فقد كانت التوقعات التي أعلنتها الحكومة في عام 1993م تقول إن اليمن سيتمكن خلال خمسة أعوام من تصدير مليوني برميل , و أصبح ينظر إلى المكلا بوصفها ( جدة ) الجديده أي : نسخة أخرى من مدينة جدة التي استطاع عدد كبير جدا من الحضارم أن يكوِّنوا فيها الثروات من التجارة و العقارات إبان الطفرة النفطية في سبعينات القرن المنصرم .
و ثانيها : أن كثيرا من المهاجرين الحضارم و غيرهم من اليمنيين في السعودية و الخليج نشأ لديهم إحساس بانعدام الاطمئنان إلى موقف الحكومة السعودية و سياستها تجاه اليمنيين . فضلا عن أن الانفتاح الاقتصادي الذي أعقب عقودا من الانغلاق في ظل الحكم الاشتراكي قد قدم للكثيرين فرصة طال انتظارهم إياها للعودة إلى الوطن و تحقيق الأمن و الاقتصاد و الاندماج الاجتماعي و السياسي و الكرامة الوطنية . إنه حلم الخمسينيات القديم الذي تمت ترجمته في إحدى الأغنيات الشهيرة عن اكتشاف النفط في حضرموت و زوال الفقر عن أهلها يتبدى حقيقة .
يا حضرموت افرحي ** بترولنا با يجي
الفقر ولَّى و راح
و لكن حضرموت الآن جزء من اليمن الموحد حديثا و يتأثر بأوضاعه السياسية التي كانت تمضي به قُدُماً في طريق الصدام . إن مسيرة الوحدة , بما انطوت عليه من دمج كامل متسرع و غير مدروس , قد أخفقت في تحقيق الاندماج العسكري و السياسي , و ظل يحكم البلاد " رأسان " فكانت النتيجة طبيعية لذلك الانهيار , تضاءلت قيمة العُملة و تفشَّى التضخم , و انتشر الفساد انتشارا لا ضابط له و لا رقيب .
أما الحكومة التي أعقبت أول انتخابات ديمقراطية تعددية شهدتها البلاد فكانت ائتلافا ثلاثي الأحزاب , يمثل الأحزاب الثلاثة الكبرى : المؤتمر الشعبي العام ، و الحزب الاشتراكي اليمني ، و حزب الإصلاح , فإذا برئيس حزب الإصلاح الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر يغدو رئيسا لمجلس النواب الجديد , بينما بقي حيدر العطاس رئيسا للوزراء . كما أعطي الإصلاح بضع حقائب وزارية , و عضوية واحدة في مجلس الرئاسة نالها الشيخ الزنداني , و هو رجل دين إسلامي ذو شعبية واسعة إلى جانب فعالية إسلامية و نزعة قتالية حديثتي النشوء .
و بقي البيض نائبا لرئيس مجلس الرئاسة , و لكنه كان يدرك _ بلا ريب _ أن بنية السلطلة قد تغيرت , و من المهم ملاحظة كون المسألة الجوهرية هي " الحكم " و ليست تنمية الديمقراطية ؛ يتضح ذلك من الائتلاف غير الطبيعي بين الخصمين و المعارضين _ آنئذ _ الإصلاح و الحزب الاشتراكي اليمني , إذ لم تكن لهما أيما " أجندة " مشتركة في أي من السياسات . كما أن القِيَم الاقتصادية و التربوية و الاجتماعية و الدينية لكل منهما كانت تسير في مسارين متصادمين تصادما مباشرا في حقيقة الأمر . أما صالح فقد اتخذ موقعاً وَسَطاً مضى منه قُدُماً في سياسته القائمة على المناورة .
نشأت أزمة في الأخير بين صالح و بين البيض , ثم استمرت في التفاقم حتى بلغت حَدَّها الأقصى الذي هددت معه في يناير 1994 بانفجار شامل . فقد توصلت عملية الحوار في صنعاء إلى اتفاقية يمكن لجميع القوى السياسية التوقيع عليها ، غير أن البيض أبى أن يضع قدميه في صنعاء معلنا أنها لم تكن مأمونة . فما كان من العاهل الأردني الملك حسين إلا أن تدخل في آخر المطاف بدعوة الجميع للتوقيع على الاتفاقية في عَمَّان . و في 10 يناير قامت ثلاث طائرات بنقل السياسيين اليمنيين إلى عَمَّان للتوقيع على وثيقة العهد و الاتفاق . فوقَّع الجميع , صالح و البيض و الشيخ الأحمر و قادة بقية الأحزاب السياسية على تلك الوثيقة التي قصد منها إنهاء الأزمة و البدء من جديد بعملية بناء اليمن الموحد على أسس و شروط جديدة .
و من المفارقة أن هذا الحدث قد أدى إلى رفع شعبية البيض في أنحاء اليمن كافة بوصفه الرجل الذي استطاع الوقوف في وجه صالح و انتزع للناس حقوقها . و لقد كان بإمكانه العودة ليستقبل استقبال الأبطال , بصرف النظر عن التطبيق الفعلي للوثيقة , لكنه بدلا من ذلك اتجه بطائرته صوب الرياض في السعودية حيث أجرى بعض المباحثات ثم عاد إلى عدن . و بعد ذلك مباشرة تقريبا تم استئناف الخُطَب العدائية المتبادلة بين صنعاء و بين عدن . و لقد بلغت تلك الخطابات _ آخر الأمر _ حد التهديد باستخدام القوة . ففي أواخر إبريل 1994م . أعلن صالح في مهرجان بَثَّه التلفاز أنه سيعمد إلى استعمال القوة دفاعا عن الوحدة . و رَد عليه البيض بخطاب أشد حِدَّة ألقاه و الطائرات الحربية تئِزُّ فوق الرؤوس , في إشارة منه إلى ما لديه من قوة . و حينئذ بدأ مسؤولو الحكومة الجنوبيون مغادرتهم الجماعية من صنعاء إلى عدن ، إذ بدا أن كُلا من الطرفين يتخذ موقفا لا محيد عنه . و كان أصغر الشرر كافيا لإشعال الموقف . كما حدث في معسكر للجيش بمنطقة عمران القريبة من صنعاء فقد كانت الدبابات الشمالية مصطفة أمام الدبابات الجنوبية وجها لوجه لا يفصلها عنها سوى بضعة أمتار حين أسفر سوء تفاهم بسيط ، وقع بحسب ما هو ظاهر عند بوابة المعسكر عن تحميل تلك الوحدات ذخائر و إطلاقها على الدبابات المواجهة لها مباشرة .
و بعد أيام قليلة تدهورت الأوضاع في ذمار و أبين و عدن ثم تفجرت الحرب الشاملة بين الجيشين الشمالي و الجنوبي , و زعم كل طرف أن الآخر هو البادئ بالحرب , فادَّعى صالح الدفاع عن الوحدة ضد أولئك الذين لم يحترموا اتفاقية الوحدة و الوثيقة التي تم التوقيع عليها في عمان .
اتخذت الحرب منحى بالِغ العنف باشتراك جميع وحدات الجيشين _ القوة الجوية و البحرية و الصواريخ و المدفعية إلخ _ فيها , و سرعان ما اقتربت القوات الشمالية من مدينة عدن و حاصرتها . كانت القوات المتحالفة مع صالح تتألف من الإسلاميين ( الإصلاح و المجاهدين ) و القوات الجنوبية التي خرجت مهزومة عام 1986م .
و من اللافت أن الحزب الاشتراكي اليمني قد تحالف مع القوات التي خرجت من عدن في الستينيات و السبعينيات من القرن العشرين , و مع دول الخليج المجاورة و السعوديين , و جميعهم من أعدائه التقليديين .
و في 22 مايو 1994 يوم الذكرى الرابعة للوحدة أعلن البيض الانفصال و قيام دولة جديدة جمهورية اليمن الديمقراطية عاد إليها القادة السياسيون الذين طالت بهم سنوات النفي , و منهم قادة جبهة التحرير , و أسندت إليهم مناصب رفيعة في الدولة الجديدة .
أما صالح فقد أعلن أن الوحدة مسألة حياة أو موت , و ذلك في الحقيقة عين ما كان يعتقده معظم الشماليين .
فقد هدم إعلان البيض الانفصال أيما ثقة اكتسبها في صراعه السياسي مع صالح , و قد أحيلت مسألة الحرب أخيرا إلى مجلس الأمن الدولي الذي أصدر قرارا بوقف إطلاق النار و تجنب المساس بالمدنيين , إذ كان المدنيؤن في عدن هم الأشد معاناة من ويلات الحرب ؛ فقد حوصروا لما يقرب من شهرين دون مياه أو كهرباء أو تموين غذائي كاف , و كانت المدافع و الصواريخ تقصف أهدافا قريبة منهم ؛ فذكرهم كل ذلك تذكيرا بالغ الألم بأحداث 1986م التي عاشوا وقائعها قبل ما لا يزيد عن ثمان سنين . كان خط النار في هذه الحرب يقطع البلاد على طول ما يربو على ألف من الكيلومترات , فالاستيلاء على حضرموت كان أهم من دخول عدن بالنسبة إلى صالح . فحضرموت هي المصدر الرئيسي للدخل الوطني من عائدات تصدير النفط , و هي الملاذ الذي لجأ إليه البيض و رفاقه عند تضييق الخناق على عدن . و لعل كابوسا كان يراود صالح , هو أن يتم إعلان استقلال حضرموت إذا ما تحقق سقوط عدن , و لذلك لم يتم دخول عدن إلا بعد سقوط المكلا عاصمة حضرموت ذلك ما حدث أخيرا في 7 يوليو 1994م حين أضحت قوات صالح على مقربة من المكلا .
واصل البيض و أتباعه السير شرقا و عبروا الحدود برا إلى ظفار عُمَان حيث منحه السلطان قابوس حقَّ اللجوء السياسي ؛ فبقي مقيما هناك و لا يزال , و من المفارقة أن السلطان قابوس هو من أراد البيض الإطاحة به في أوائل السبعينيات بما كان يقدمه من مساندة لجبهة تحرير عُمان . بهذه النتيجة التي أسفرت عنها الحرب تمكن صالح _ و على نحو ناجح _ من إزاحة الحزب الاشتراكي اليمني عن المشهد السياسي مع كل ما كان يمثل من المصالح و ما كان يتوقع من المزايا المتوخَّاة , و لقد كان الحزب الاشتراكي يمثل الجنوب في صيغة اقتسام السلطة , و كان الجنوب يمثل ضعف مساحة الأرض و ضعفي حجم الثروة و سدس عدد السكان . و بإقصاء الحزب الاشتراكي أصبح الائتلاف الثلاثي للسلطة ثنائيا , و أضحى الإصلاح هو " الحليف الاستراتيجي " فاقتسم غنائم الحرب مع المؤتمر الشعبي العام , و أسندت إليه مناصب حكومية و إدارية في كل أنحاء الجنوب إذ تم إحلالهم محل الهيئات التابعة للاشتراكي . و رأى الكثيرون من أهل الجنوب أن الوحدة و الديمقراطية قد انحرفتا انحرافا رديئا عن مسارهما .
بدأ الاقتصاد مخرَّبا بعد الحرب , و الأخطاء الفاضحة في المعالجة و اللامبالاة , فقد كانت الديون الخارجية فادحة جدا و موروثة من الدولتين الدائلتين خصوصا ديون الجنوب للاتحاد السوفيتي , إذ كان الرقم 8 بلايين دولار . تحت وطأة مثل هذه الضغوط بدأ اليمن في تنفيذ شروط اتفاقية مع نادي باريس للدول المانحة ؛ فتم تخفيض تلك الديون إلى نحو 4 بلايين دولار و تعيَّن على اليمن أن يخضع لأخطر برنامج لإعادة بناء اقتصاده .
و مع العام 1995م استعاد صالح سيطرته على مقاليد الأمور بوصفه الرجل الأقوى الأوحد في الساحة السياسية اليمنية و بدون أي معارضة يؤبه لها . فهو استرجع كل زمام السلطة و أمسكها ثانية بقبضته و إذا بالقوات المسلحة و المالية و العلاقات الخارجية قد عادت جميعها إلى حظيرة سيطرته , و من هذا الموقع تمكن من معالجة أيما موقف على النحو الذي يخدم به مصلحته بما في ذلك الأطر الديمقراطية كالبرلمان و الصحافة , و في سبيل الوصول إلى موقع السيادة هذا , خاض صالح مخاطرة هائلة و كان على استعداد للتضحية بأي شيء تقريبا . فقد أعلن في وسائط الإعلام مرارا و تكرارا أثناء الحرب شعار " و إنه مستعد للتضحية بمليون من الشهداء دفاعا عن الوحدة . الوحدة أو الموت " , و في حقيقة الأمر فإن الجنوب كان يعني ثروة جديدة لا يمكن الاستغناء عنها و فرصة كبرى و عمرا جديدا يضاف إلى عهد حكمه .
لقد تبدلت الحالة السياسية في اليمن مع انتهاء الحرب , فالوحدة المتفق عليها ( سلما ) أصبحت _ عندئذ _ وحدة مفروضة بالقوة العسكرية ؛ و إذا بالجنوب و حضرموت واقعان تحت شكل جديد من الحكم غيَّرت نمط الحياة الذي ألفاه .
اليمن بعد الحرب : الاندماج المجهض بدولة آيلة للسقوط :
قضت الباحثة الهولندية فلور بيومنغ floor beurming في اليمن شهورا عدة بين عامي 2003 و 2004 و هي تدرس اندماج اليمن الجنوبي في الجمهورية اليمنية في سياق إعدادها رسالة لنيل شهادة الماجستير تقدمها إلى جامعة أمستردام و لقد كتبت تقول : " حين وضعت الحرب الأهلية أوزارها أصبح اليمن الموحد تحكمه عين المجموعة التي كانت تحكم الجمهورية العربية اليمنية تقريبا . كل ما تغير في الأمر هو أن الجمهورية العربية اليمنية عندئذ قد أضافت إلى أرضها قطاعا شاسعا من الأرض يحتوي على النفط و يضم شعبا قليلا عددا يسهل سلبه و مسخ هويته , بيد أن هذا الشعب قد شعر بالخيبة و بالإحباط و أن سلطة أجنبية تحكمه و لكي يحظى نظام الحكم الجديد هذا بما يجعله شرعيا و يكسب ولاء الجمهوريين و يحقق السيطرة على الجنوب دونما حاجة إلى استعمال القوة مرة أخرى فإن اندماج جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة في الجمهورية اليمنية الموحدة شرط جوهري .
كما تطرقت الكاتبة أيضا الى عملية عسكرة الجنوب عدن _ حضرموت بوجه خاص _ بقولها : " إن السياسة التي كان لها أوضح الأثر على الحياة اليومية لأبناء الجنوب هي وضع مجموعة كبيرة من ألوية الجيش الشمالي في محافظات الجنوب عموما و في حضرموت و عدن خاصة , فإن عدن بوصفها المدينة العاصمة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة كانت المعقل الأخير للمقاومة أثناء الحرب 1994م .
و لا يزال كثير من قادة الصف الثاني في الحزب الاشتراكي اليمني ممن لم يطلهم النفي يقيمون فيها . و مع ذلك فإن إحكام السيطرة على حضرموت ربما كان أهم حتى من السيطرة على عدن في نظر الرئيس .
فحضرموت هى كبرى محافظات اليمن و هي تحتوي مع قلة سكانها قدرا كبيرا من الموارد الطبيعية أخصها النفط و الذهب كما أنها من الناحية الثقافية و التاريخية تختلف اختلافا كبيرا عن الشمال .
(95،1998:55 carapico ) .
و فضلا عن ذلك فهي المنطقة التي قدمت بعضا من أثرى الأُسر في العالم و التي يعيش معظمها في جنوب شرق آسيا ، و في السعودية من مثل آل بن لادن و آل بن محفوظ , و عليه فإن اليمن كان مدركا مدى أهمية حضرموت في عمر بقائه السياسي و الاقتصادي . و منذ حرب 1994م و الحكومة المركزية بالغة الحذر و التيقظ تجاه النزعة الانفصالية القوية في تلك المنطقة و بهدى من ذلك يمكن فهم ما تم نشره فيها من قوة عسكرية ضخمة في شتى أجزاء حضرموت ( الغنيمة ) .
[ وحدة الجنبية و البندقية اليمن الجنوبي و فشل دمجه في الجمهورية اليمنية الموحدة . فلو بيومنغ رسالة ماجستير جامعة أمستردام أكتوبر 2004 ]
إن لحضرموت أهميتها القصوى في بقاء اليمن , فقد أصبح أحد أهم موارد الدخل القومي للدولة كما أنها تؤلف نحو 30% من مساحة أرضها , أما الرد على التخوف الدائم من انفصال حضرموت فقد كان بنشر القوة العسكرية و فرض السيطرة الثقيلة الوطأة على مواطن القوة الاقتصادية فيها , كما أن المطلب الدستوري بانتخاب مجالس محلية كان يتم على الدوام تأجيله و تجنبه حتى بعد التصديق على القانون الخاص به في عام 2000 .
و كان معظم الناس في الجنوب يرون في هذا القانون و تطبيقه المخرج من حالة الفساد الإداري و الفوضى المرتبطة بالمسئولين الشماليين (beaming 2004 ) , و لم يتم إجراء هذه الانتخابات إلا أخيرا عندما احتاج النظام إلى الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي منحت صالح سلطات أكبر و مددت فترة حكمه إلى سبع سنوات . فاستغل الانتخابات للحصول على حصيلة أفضل في التصويت لصالح التعديلات . و مع ذلك لم يتم إعطاء سلطات حقيقية للمجالس المحلية , و ذلك بإبقاء السيطرة المركزية على مواردها المالية و كذلك بالتحكم بتعيين رؤساء المجالس و هم مديرو المديريات و المحافظون , الأمر الذي غدا لاحقا قضية دستورية و يشير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة UNDP بإيجاز إلى ضعف نظام المجالس المحلية على النحو التالي :
إن مسؤولية الإدارة المعنية للمجالس المحلية المنتخبة في المديريات . ضعيفة إلى أقصى حد . و السبب في ذلك ليس فقط أن هيئة الإدارة المحلية لا يقع قرار تعيينها و فصلها بيد المجلس لكن يتم تمويلها من موارد المجلس , فالخدمات التي يقدمونها بمستواها المحدود جدا تمثل جزءا من برامج تم التخطيط لها و تمويلها على المستوى الوطني ( UNDP 2003-A:7 ) أما السبب الآخر لعدم إعطاء سلطات للمجلس المحلية فهو التخوف من الانفصال . ذلك ما تصفه فلور بيومنغ فيما يتصل بحضرموت بقولها : " يمثل الخوف من الانفصالية الجنوبية دافعا آخر إلى تجنب الحكم المحلي إذ التحول نحو لا مركزية السلطة يفقد الحكومة المركزية جزءا من سيطرتها على المجتمع فالتوجه نحو التنمية المستقلة يمكن أن يخلق مشكلات في محافظات بعينها متى ما تم استغلال نصيبها من السلطة ضد المصالح الوطنية و في اليمن و تمثل حضرموت النموذج الأمثل للمحافظة القادرة على خلق ازدهار اقتصادي هائل لشعبها " .
إن تخوف الحكومة من الانفصالية الجنوبية إنما يتمركز على هذه المنطقة ( حضرموت ) بما لها من ثقافة خاصة بها و احتياطات نفطية ضخمة . كما أن معظم قادة الحزب الاشتراكي اليمني حتى عام 1994 كانوا من حضرموت . و ثمة من يعتقد أن الحرب إنما أثارها الحزب الاشتراكي اليمني بقصد إقامة دولة حضرموت مستقلة . لذلك عمد الرئيس صالح إلى إرسال جيشه أولا إلى المكلا حيث كانت قيادة الحزب الاشتراكي اليمني تقيم أثناء الحرب بدلا من عدن العاصمة السابقة للجنوب .
و في شهر مارس من هذا العام 2004 قام الرئيس بجولة في أنحاء حضرموت استغرقت ثلاثة أسابيع و ذلك فيما يقال بعد تصريح للسفير الأمريكي في لقاء بسيئون قال فيه : إن لدى حضرموت كل المقومات الضرورية لتصبح دولة قائمة بذاتها و علاوة على ذلك فإن قربها من السعودية يجعلها المنطقة الأكثر عرضة لتأثير الوهابية و هي عدو آخر للنخبة الحاكمة .
[ فلور بيومنغ ، المرجع السابق ]
في عام 1997 تم تجريب وسيلة أخرى للقضاء على أي خطة تستهدف مستقبلا انفصال حضرموت , و ذلك بمحاولة تقسيمها إلى محافظتين بغية تفتيت أيَّما إرادة سياسية موحدة , فما كان من المعارضة الجنوبية في الخارج و معظم قيادتها من حضرموت إلا أن رفضت ذلك أشد الرفض و حشدت تأييدا كبيرا بهذا الشأن , و على الرغم من ذلك فإن المشروع المقترح قد كان معقولا من الناحية الإدارية بالنظر إلى المساحة الشاسعة لمنطقة حضرموت التي تبعد أنحاؤها 700 كيلومتر عن عاصمتها المكلا . و كانت الخطة تتضمن محافظة أخرى في الوادي و المناطق الصحراوية تكون سيئون عاصمة لها . و كان أن قام القائد العسكري لمحافظتي حضرموت و شبوة محمد إسماعيل بترتيب وفد يتألف معظمه من مسئولين رسميين من منطقة الوادي ممن ترتقب ترقيتهم إن غدت سيئون عاصمة المحافظة و إعداد طائرة لنقلهم إلى صنعاء لكي يطلبوا التقسيم من الرئيس , و رداًّ على ذلك نظَّم برلمانيو حضرموت وفدا أكبر ضم عديدا من الشخصيات ذات الثقل القبلي و الاجتماعي للإعراب عن اعتراضهم عن ذلك المشروع و اقتراح إعطاء المكاتب الحكومية بسيئون الصلاحيات الكافية فيتم بذلك إبطال الحجة الرئيسية المزعومة و هي بعد المكلا الشاحط عن بعض مناطق حضرموت كما بينوا كذلك أن المجالس المحلية المتمتعة بصلاحيات فعلية في كل مديرية لن تترك أيما مبرر للدعوة إلى تقسيم حضرموت .
و قد كتب الباحث في الشؤون الأمنية برايان وايتيكر brian Whitaker مقالا جاء فيه : " إن دعوى وحدة حضرموت تقوم أساسا على تميز شخصيتها و تاريخها بالرغم من خشية صنعاء من أن ذلك يؤدي إلى مطالب بحكم محلي أوسع ثم بالانفصال في آخر المطاف " . إن جانبا من هذه الخشية مَرَدُّهُ إلى حقيقة أن المحاولة الفاشلة لإقامة دولة انفصالية في اليمن الجنوبي منذ سنوات ثلاث قد قادها في الأساس الجناح الحضرمي في الحزب الاشتراكي . و لقد كان من الآراء المطروحة للدرس أثناء تلك المحاولة ما يقول بالتخلي عن عدن و إقامة جمهورية حضرموت التي تضم إليها المحافظتين الشرقيتين الأخريين : شبوة و المهرة .
و كان المستشارون العسكريون للحزب الاشتراكي اليمني يرون أن لهذه الخطة فرصة نجاح أكبر مما لتلك التي تم اعتمادها آخر الأمر . إن إنشاء دويلة تتألف من حضرموت و شبوة و المهرة قد كان تصور جذَّابا من الوجهة الاقتصادية . فهي ما كانت لتضم سوى 1/12 من مجمل سكان اليمن . لكن إلى جانبهم 1/3 من نفط اليمن . و عليه فإنها بحسب نصيب الفرد كانت ستغدو في حال استقلالها بذاتها أفضل بأربع مرات منها حال في اليمن الموحد .
[Brian Whitaker.Row over hudramwt , middle east lnternational,12 sept 1997. Gttp://www.al-pap.com/yemen/artinc/ei26.htm ]
جَلِيٌّ أن نظام ما بعد الحرب قد فشل في دمج الجنوب في وطن واحد ؛ و السبب الرئيس في هذا الفشل هو نمط الحكم الذي كان قائما في الجمهورية العربية اليمنية السابقة الذي تم الشروع بتطبيقه على اليمن الموحد . فقد ظلت الحكومة المركزية تعلن باستمرار سياسات الديمقراطية و اللامركزية و حكم القانون و غيرها من خصائص الدولة المدنية الحديثة التي لم تشهد جميعها ( في الواقع ) سوى ما يناقضها عقب 1994 . فالتناقضات القائمة بين القيم السائدة في الشمال و بين القيم المعهودة في الجنوب هي التي أدت _ على الأرجح _ إلى الحرب الأهلية , و استمرت قائمة بعدها فالقيم الشمالية تقوم على نخبة السلطة السياسية التي تقف وراء الحكومة الرسمية و البرلمان و غيرها من المؤسسات الديمقراطية الأخرى , و قد أطلق عليها بول درش paul Dresch وَسْمَ : " التركيبة القبلية – العسكرية التجارية " .
فالدولة أصبحت تجارة أسرة … و من حول هذه الأسرة نشأت هنالك .. تركيبة عسكرية تجارية … إذ أن كبار ضباط الجيش و بضعة من البيوت التجارية الكبيرة يرتبطون جميعا بشبكة من المصالح المتبادلة [ dreshh,1995 :35 ] .
إن قيم هذه التركيبة لا يمكن أن تتلاءم مع دولة نظام و قانون , فهي أوثق انتماءً إلى نظام رعاية و محسوبية محوره : رئيس الجمهورية و أقاربه و قبيلته , و نخبة السلطة هذه تنظر إلى النفط في حضرموت و الموارد في البلاد كافة بوصفها وسيلة لتأمين مركزهم [ 2004 Beuming ] .
و لئن كان هذا النظام فعالا جدا في تشديد قبضة الحكام على السلطة و الحفاظ على نظام الحكم , فإنه يعيق عملية التحول إلى دولة المؤسسات و يعرقل تطور المجتمع المدني . كما أنه يتسم كذلك بالعجز في عملية استغلال الموارد و حسن توظيفها , و بانعدام الكفاءة في معالجة مشكلات التنمية و حلها , الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى الكثير من التشوهات و الانحرافات في الاقتصاد , و في التجارة , و في الحكومة , و كذلك _ و هو الأهم _ في القيم و المعايير الأخلاقية للمجتمع . إن هذا النظام في إدارة الحكم يؤدي بصفة تقليدية إلى تفشي الفساد , و المحسوبية , و سوء الادارة , و تردِّي القضاء , و ضعف كفاءة الحكومة .
و على الرغم من تدشين الحكومة برنامجا للإصلاح المالي و الإداري في العام 1995 بحسب اتفاقها مع المانحين الدوليين ؛ فإنها لم تحقق بذلك أيَّما أثر في تحسين التنمية الاقتصادية و الاجتماعية . فقد اقتصر ما تم اتِّخاذه من خطوات على رفع الدعم عن المواد الغذائية و الوقود ؛ الأمر الذي أكسب النظام مزيدا من الموارد و أدَّى إلى زيادة كبيرة في معدل الفقر . لقد كان الهدف المنشود لذلك البرنامج هو تحرير الاقتصاد و اجتذاب الاستثمارات الأجنبية ؛ غير أن الفساد و غياب الأمن و ضعف القضاء و رداءة البنية التحتية و تردِّي النمو الاقتصادي قد أدَّت _ تقريبا _ إلى عكس ذلك , أي هَرَب رأس المال اليمني إلى خارج البلاد ؛ و نتج عن ذلك ارتفاع نسبة البطالة .
و تزايد اعتماد الحكومة على دخل النفط الذي حافظ على ارتفاع أسعاره . عدا ما حدث في عام 1998 حين انهار سعر البرميل منه إلى عشرة دولارات ؛ فشهدت البلاد أزمة حادة .
و استمر الفساد في انتشاره و نموه حجماً و شراهةً , و هو يُعد اليوم العائق الأكبر أمام النمو الاقتصادي و التنمية , و ازدادت الأوضاع تدهورا مما ضاعف الأعباء التي تثقل كاهل السكان خصوصا في الجنوب الذي تقل فيه وسائل الدخل , و الذي كان معظم الناس فيه يعتمدون على الحكومة في أرزاقهم , و لقد أثبت النظام تصلبه الشديد بإصراره على عدم التسليم بضرورة الإصلاح و معالجة المشكلات الحقيقية و أخصها : الفساد و المركزية المفرطة للحكومة , فمن الواضح أن حل هذه المشكلات يؤدي إلى تجريد النظام من شبكته الموروثة , و هي القاعدة الكبرى لسلطته .
إن روبرت بوروس Robert burrowes أستاذ العلوم السياسية بجامعة واشنطن و مؤلف عدد من الكتب الدائرة حول التنمية السياسية و الاقتصادية في اليمن منذ الثمانينيات قد كتب مؤخرا مقالا بالغ الأهمية يقول فيه : " إن اقتصاد اليمن و المجتمع المعتمد عليه لم يكونا قابلين للحياة تقريبا طوال معظم العقد الممتد منذ عام 1994 م , و اليمن في أشد الحاجة إلى إجراء إصلاحات اقتصادية اجتماعية كبرى في 2005م , و الراجح أن فشل النظام السياسي في إنجاز هذه الإصلاحات خلال بضعة أعوام سيؤدي على نحو متسارع لتقويض النظام الحاكم و المنظومة السياسية : إذ أنه سيستنفد التأييد و يقضي على الشرعية ؛ فيزيد بالتالي إمكانية أن تغدو اليمن دولة فاشلة " .
[ Robert d. burrowes , yemen and terror , feb 2005 ]
و لقد تطرق كذلك إلى مسألة قدرة النظام على تطبيق الإصلاحات المطلوبة :
" أنها تعتمد اعتمادا كبيرا على النظام السياسي الحاكم في اليمن و مدى توافر الإدارة و القدرة لديه على تبني و سرعة تنفيذ الإصلاحات السياسية و الاقتصادية الاجتماعية الكبرى التي تحتاج إليها البلاد لكي تستعيد عافيتها و قابليتها للحياة و لكي تعود أرضا واعدة مرة أخرى في نظر معظم أهلها " .
إن الافتقاد إلى إرادة الإصلاح , و كذلك _ و هو الأخطر _ إلى القدرة على الإصلاح هو ما وضع اليمن على طريق مؤدية إلى نفق مظلم , و ذلك تعبير استعمله الشيخ عبدالله الأحمر في مطلع العام 2005 , و الشيخ الأحمر هو رئيس مجلس النواب , و هو شيخ حاشد , و هو رئيس حزب الإصلاح , و هو حليف وثيق لصالح على مدى أكثر من عقدين , و قد أثار تصريحه ردَّة فعل حادَّة من صحيفة الحزب الحاكم متهمة إياه بالفساد و العمالة لدولة خارجية مجاورة و تلقي المال منها و أقر الشيخ عبدالله بتسلم المال من المملكة العربية السعودية في مقابلة صحفية أجرتها معه صحيفة ( الوسط ) المحلية .
بلغ التوجس أقصاه بتفاقم التوتر بين أقوى رجلين في البلاد , الرئيس و الشيخ , و بعد مرور أسبوعين أرسل الرئيس موفدا من قيادة المؤتمر الشعبي العام ليقدم اعتذارا تقبله الشيخ عبدالله على مضض . إن هذا الحادث يبين هشاشة الصلات القائمة بين شخصيات الأقلية المتحكمة باليمن , فالنظام قائم في هيئة بناء من المكعبات الورقية التي يؤدي نزع إحداهما إلى انهياره . بدا ذلك جليا عندما اختلف الرئيس مع حليف أقل خطرا هو الحوثي بصعدة في الشمال , حيث اشتعلت في صيف 2004 حرب أصيب فيها الآلاف من الطرفين , و هنالك مزاعم جدية بحدوث إبادة جماعية , و لم يتم التوصل إلى حل حتى اليوم لمسألة هذه الحرب .
و فيما يتصل بالجانب الاقتصادي , فقد أعلن البنك الدولي في تقرير المراقبة الفصلي الصادر في خريف 2004 أن احتياطات النفط في حضرموت ستبدأ بالنضوب مع العام 2012 .
[ http:www.ecomod.net/conferences/middleeast2005papers/thirumalaidoc. ]
انتشرت الأنباء عن نضوب على نطاق واسع و أصبحت في حكم المعرفة العامة , ثم أكده الرئيس بنفسه في خطاب له بثه التلفزيون . و زار اليمن بعدئذ مدير البنك الدولي في ديسمبر 2004 و أطلق تحذيرات علنية عامة بأن اليمن في حاجة إلى إصلاح الأداء الحكومي إصلاحا مباشرا و إلا فإنه سيواجه فشل الدولة و الانهيار . إن ما حدث و ما نشره البنك الدولي من مؤشرات الأداء الحكومي ( مايو 2005 ) يبين أن اليمن قد تتدهور تدهورا فعليا على مدى السنوات الثمان الأخيرة .
[ جدول مؤشرات الأداء الحكومي الصادر عن البنك الدولي ]
و مع تدهور أداء الحكم يصبح الاستثمار أمرا محفوفا بالمخاطر . إن التحويل الهائل لرأس المال الذي أقدم عليه الحضارم بعد الوحدة قد تلاشى بعدما ذاع من قصص الإخفاقات و الفساد الذي فاق أيَّة مكاسب ممكنة .
إن الفشل في اجتذاب الاستثمار من الخارج لا يمكن تعطيله أساسا بإحجام المستثمرين تخوفا من قضايا الأمن عقب أحداث السفينة الأمريكية كول و 11/9 , على الأخص فيما يتصل بكبار المستثمرين اليمنيين داخل الوطن و خارجه على السواء . فاليمنيون الأثرياء الذين وثبوا إلى الداخل باكرا , و بخاصة أولئك العائدة أصولهم إلى وادي حضرموت , سرعان ما انسحبوا بسبب تجاربهم الشخصية السيئة و أخبار ما لحق بغيرهم من ويلات . كما أن المستثمرين الأجانب الكبار قد قرروا أن المخاطر جد كبيرة بالمقارنة مع المكاسب . و ذلك تأسيسا على عدد من القضايا الشائعة جدا عن الفساد و المحسوبية و المحاباة السياسية .
[ روبرت بوروس , المصدر السابق ]
لا يمكن نكران أن حضرموت قد شهدت تطورا كبيرا في البنية التحتية خلال العقد الأخير , فالطرقات و الاتصالات و المطارات و التعليم الجامعي قد تحسنت خصوصا بالمضاهاة مع ما كان في السابق . بيد أن الحضارم يرون ذلك جزيئا كسريا فقط من دخل النفط المصدَّر من حضرموت , كما أنهم يشكون دوما من حرمانهم من التوظيف في مواقع شركات النفط , و هناك أيضا شكاوى متكررة أن شركات النفط تسبب التلوث خصوصا في المياه الجوفية و هي أثمن أصول حضرموت و كنوزها . و كلما أقدم البرلمان أو الجمعية الحضرمية بصنعاء أو المجلس المحلي على التحقيق في الأمر تتم عرقلة ذلك .
حضرموت ضحية لأمراض سياسية و اقتصادية و نظامية يعاني منها اليمن كبلاد . بالرغم من أن حضرموت لم تسهم في التسبب في هذه الأمراض و إن أسهمت فبأقل القليل . و بلاد اليمن يحكمها نظام حكم الاقلية (oligarchy ) الذي تتركز السلطة في مركزه فقط . و يتحتم على جميع القرارات أن تُرضي ذلك المركز . و تزداد المشكلة سُوءاً على سوء حين يصاب هذا النظام بفساد لا حدود لانتشاره .
نتيجة لذلك فقد تطور هذا النظام على نحو واسع إلى نوع خاص من نظام حكم الأقلية ( الاوليغاركية ) ألا و هو حكم اللصوصية ( الكلبتوقراطية ) أي : حكومة تتألف من اللصوص و باللصوص و للصوص .
فإن شاغلي المواقع و المناصب الحكومية الرئيسة التي تتدفق عبرها الموارد و مساعدات التنمية تمكنوا من تحقيق الثراء لأنفسهم على حساب التنمية و غيرها من أهداف السياسية . فقد استغلوا مناصبهم في الدولة , أي " مراكز التربح " الخاصة بهم لانتزاع ثمن لقاء تقديم الخدمات و منح التراخيص و الأذون ، و بالتالي رفع كلفة الحكومة و التنمية . كما أن أقارب أولئك الشاغلين للمواقع و المناصب الحكومية الرئيسة و أصدقائهم و المرافقين لهم ، هم أيضا قد أثروا بالطريقة نفسها , و الأعجب فإن جني الثروة يغدو بذلك مسألة علاقة بقدر ما يكون مسألة توقع .
[ روبرت بورس ، المصدر السابق ]
و اليمن اليوم , في عام 2005 على شفا حفرة من أن تغدو دولة فاشلة , فإن تقرير الأمم المتحدة للسياسة الخارجية قد نشر مؤخرا قائمة الدول واضعا اليمن في المرتبة الثامنة من البلدان في العالم ، إلى جانب الصومال و سيراليون و الكونغو الديمقراطية و ساحل العاج , على أن الأخطر من ذلك هو فشل الدولة في اليمن يتوقع أن يكون مصحوبا بصراع مسلح بالنظر إلى تركيبة السكان القبلية و المسلحة و حجم الإنفاق العسكري الهائل للحكومة . و من هذه الناحية فإن اليمن يأتي رابعا من حيث الهشاشة بعد ساحل العاج و الكونغو الديمقراطية و الصومال
[http:www.foreignpolicy.com/story/cms.storyid=3098 http:www.foreignpolicy.com/story/cms.story id=3102 ]
و يوجز بوروس هذا الموقف في خاتمة مقاله على النحو الآتي :
إن سجل وقائع العقد المنصرم 1995- 2005 يدل على أن نظام الحكم و الدولة في اليمن يفتقدان إلى الإرادة و القدرة اللازمتين لتخطيط و تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية – الاجتماعية الكبرى المطلوبة لكي تستعيد البلاد عافيتها و قابليتها للحياة , و لكي تواجه المتطلبات و الاحتياجات الأساس للسواد الأعظم من سكانها , و الشواهد على ذلك مفحمة و هي :
- أن الاقتصاد الذي يعتمد اعتمادا كبيرا على الدولة و عائدات النفط و المانحين من خارج البلاد لم يخلق سوى القليل من فرص العمل و قدر ضئيل من الثروة إلى جانب النتيجة التي أدى إليها و هي أن المستويات المنذرة للبطالة و الفقر و سوء التغذية إما حافظت على الارتفاع السابق أو ارتفعت إلى مستوى أعلى مما كانت عليه منذ عقد خلا , و أن الطبقة الوسطى قد تم إفقارها كثيرا حتى أنها تكاد تتلاشى , و راحت الفجوة ما بين القلة الأغنياء و الفقراء الأكثرين تتسع اتساعا أكبر فتغدو أشد وضوحا , و _ أخيرا _ أن التعليم و الصحة و الخدمات الاجتماعية قد ازدادت سوءاً عما كانت عليه من حيث النوع و من حيث الكم , و هي الآن أقرب ما تكون من حالة الاختلال الوظيفي . و إذا لم يتم الإسراع في تبني إصلاحات سياسية تؤدي إلى رفع مستوى الإدارة و القدرة على إجراء الإصلاحات الاقتصادية – الاجتماعية الكبرى الملمع إليها فإن اليمن سيقع في مأزق سياسي خطير آنئذ .
و في الحقيقة يمكننا القول _ استنادا إلى بيانات مستوى الأداء خلال العقد الفائت و في السنوات الأخيرة منه بوجه خاص _ أن الدولة اليمنية الهشة سائرة بالفعل نحو الفشل . إنها تخاطر لتغدو دولة فاشلة تماما خلال بضع السنوات القادمات و نتيجة لعجزها عن الوفاء بالمتطلبات و الاحتياجات الأساسية للغالبية العظمى من الشعب , فإن حظها من التأييد و الشرعية يتضاءل الأمر الذي يؤدي _ بدوره _ إلى جعلها أشد عجزأ عن مواجهة تلك المتطلبات و الاحتياجات و ذلك انحدار حلزوني , و لئن تحقق فشل الدولة فإن البلاد يمكن أن تنزلق إلى حال من الفوضى شبيه بحالة ( الصومال ) أو الحرب الأهلية ( لبنان ) , و في أي من الحالين قد يصبح اليمن ساحة صراع يغدو فيها الإسلام الثوري الذي يتجاوز الحدود القومية / الوطنية من أقوى المتنافسين على السلطة كما كانت حركة طالبان عند منتصف التسعينيات الفائتة في افغانستان . [ روبرت بوروس نفسه ]
إن إدراك حضارم المهجر حقيقة ما يجري في وطنهم من أحداث لهو أمر بالغ الأهمية . فإن الحضارم الثاوين في حضرموت قد تم تهميشهم في كل ما يتصل بتيسير شؤون حياتهم و التخطيط لمستقبلهم . و إذا كان في عامنا هذا 2005 نشهد نفورا من الوحدة و تحررا واسعا من أسر فكرتها في كل أنحاء الجنوب فإن ذلك في حضرموت أظهر , و ثمة دعوات قوية إلى أعادة صياغة الوحدة لتغدو اتحادا فيدراليا . و من المفارقة أن الشيخ الزنداني و هو الزعيم الإسلامي و العضو السابق في مجلس الرئاسة قد قال للرئيس صالح في لقائهما الأخير : إذا أجري استفتاء في الجنوب اليوم على الوحدة فإنهم سيصوتون ضدها .
[ صحيفة ( الوسط ) الأسبوعية العدد 55 الأربعاء 8 يونيو 2005 ]
كيف يمكن لحضرموت و الحضارم في الوطن و في الاغتراب أن يضمنوا قدرا كافيا من التمثيل و الحماية لمصالحهم و صلاح أحوالهم و حماية أهاليهم المسالمين من فوضى القتل و التذابح و التدمير التي قد تفرضها في أقرب فرصة هذه الظروف التي لا تبشر بخير أو صلاح , بل تنذر بشر ؟ و هل توجد ثمة مكامن قوة يمكن التمسك بها لتكوين نواة قوة تتولى الدفاع عن أمن أهالي حضرموت ؟
فإن الناس لا يملكون أي سبيل واضح للحركة و العمل حتى يسلكوه .
مشروع مقترح للإنقاذ :
الخطوة الأولى :
إن قوة الحضارم طوال عدة قرون كانت تكمن في شبكة اتصالهم القوية , فلقد كانوا يعلمون أمور أهلهم و أصدقائهم الكائنين في خارج الحدود و في مواطن شاحطة البعد عنهم , في زمن كانت الرسالة تستغرق فيه عدة أشهر حتى تصل إلى غايتها , كما كان هنالك أيضا التزام قوي تجاه الوطن الذي يعتبرونه محلا مدخرا غاليا و مقدسا , و اليوم في زمن العولمة الذي نجد فيه ( الإنترنت ) و وسائل الاتصال متاحة متيسرة للجميع تقريبا , كيف ترى يتواصل الحضارم بعضهم ببعض فيما يتعلق بأمور وطنهم هذا ؟ و هل يتواصلون ؟
يقول د. أولريك فريتغ Olrike Freitag في مقال كتبه في عام 1999م : " في غضون ذلك يستمر الاتجاه نحو العولمة و يعززه ( الإنترنت ) . ففي عام 1997م نشرت مجلة جمعية عرب سنقافورا Arab Association of Singapore مقالا عن شبكة اتصال عربية , ثم شرعت تنشر منذئذ عناوين بريد إلكتروني و مواقع انترنت متصلة بالشؤون الحضرمية , و اليمنية , و العربية . إن ذلك يُمكن الأفراد و المؤسسات التجارية من الاتصال ببعضهم البعض من الولايات المتحدة و اليمن و ماليزيا و تركيا _ دون أن نسهب بذكر أسماء غيرها _ و هو يمكن أن يصبح وسيلة عصرية لاستئناف عمل شبكة اتصال المغتربين التي نجحت نجاحا كبيرا خلال القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين " . و لا توجد حتى الآن مواقع ألكترونية خاصة بربط المهاجرين بشبكة اتصالات , و الرأي أن هذه هي الخطوة الأولى التي يتوجب اتخاذها من قبل الحضارم في الخارج , إن التفاصيل الخاصة بأين ؟ و كيف ؟ يتم طرحها للنقاش . أما الشكل العام فإن في ما يأتي مقترحا بشأنه :
الموقع الإلكتروني :
يمكن أن نعد ذلك متطلبا عاجلا بالنظر إلى تسارع الخُطى التي تجري بها الأحداث الواقعة في اليمن , و في الشرق الأوسط عامة , و الأمثل أن يكون محله في ماليزيا أو سنغفورا , بإدارة إحدى الجمعيات العربية ( الحضرمية ) . أما السياسات و الاستراتيجية فيمكن أن تضطلع بتحديدها و تطويرها لجنة إشراف تأسيسية متصلة ينبثق عنها مجلس أمناء مخول , و سوف يعمل هذا الموقع أساسا بوصفه سلسلة متصلة و محطة للتلاقي بين جميع المهتمين بشأن القضية الحضرمية , كما أنه سيكون كذلك قناة اتصال للبحث و التجارة و العمل الخيري . و يمكن أن يحتوي على العديد من الأجزاء و العناوين .
1)البحث الذي يمكن أن تنشر فيه المعلومات و الوثائق البحثية بكل مجالاتها .
2)أخبار حضرموت و مختلف البلدات و القرى , يمكن أن تقدم لهذا الموقع الصور ( أو المشاهدة الحية المسجلة ) و المعلومات و الأخبار من مختلف المناطق .
3)الأعمال التجارية و علائقها .
4)الصلات العائلية .
5)قاعدة بيانات .
6)المنظمات الخيرية .
7)التبرعات المقدمة إلى مختلف الجمعيات الخيرية في حضرموت .
إن افتتاح هذا الموقع و سيرورته في المرحلة الأولى يمكن أن يكون بمساعدة التبرعات و المتطوعين ؛ لكن لكي يكسب سمة الديمومة يمكن تطويره بحيث يغدو هيئة أو مؤسسة يحقق بها إيرادا من الإعلانات و غيرها من النشاطات التجارية . هائلة هي المزايا الممكن تحقيقها من مثل هذا الموقع الإلكتروني , فالمهاجرون جميعا و في كل أنحاء العالم سيتمكنون من الوصول إلى المعلومات و التوفر على تصوُّر حقيقي لحضرموت و قراهم الصغيرة فيها . و لسوف يعيد ذلك تمتين روابطهم بوطنهم , كما أن الحضارم المقيمين في حضرموت يمكنهم بذلك أن يعيدوا الاتصال بجالياتهم المهاجرة ؛ كما تستطيع هيئات العمل الخيري و الاجتماعي لديهم أن تجد جمهورا واسعا من المهتمين في أنحاء العالم .
إن الخطوات العملية المتوجب القيام بها ابتداءً هي اتخاذ قرار بشأن هذه الخطة , ثم تسمية لجنة تأسيس لكي تقرر أمر المكان , و التمويل الأولي , و المسائل التقنية المتعلقة بالمشروع . و يمكن توسيع هذه اللجنة قدر الإمكان , لكن أمر العمل و الحركة الفعليين ينبغي أن يوكل إلى مجلس أمناء محدد .
المؤتمر السنوي الحضرمي :
أما الخطوة الثانية التي يتحتم اتخاذها فهي الشروع بإقامة مؤتمر حضرمي سنوي . و يمكن تحقيق ذلك بسهولة عقب إطلاق الموقع الذي تكون البنية التحتية و الهيئة الضروريتان قد توفرتا فيه . إن هذا المؤتمر ينبغي أن يوجه صوب مناقشة وضع حضرموت و ما يمكن اتخاده من معالجة الصعوبات التي تعاني منها . كما يتوجب اتخاذ مؤتمري الشحر و سنغفورا لإصلاح أوضاع حضرموت عام 1928م نموذجين يحتذيهما الحضارم . إن هذين المقترحين قد لا يبدوان كافيين , أو قد يبدوان متأخرين عن أوانهما الملائم لمواجهة الأخطار التي تواجه اليمن و حضرموت نتيجة لفشل الدولة , بيد الحضارم يبقون بحاجة إلى اتخاذ الإجراءات الصغيرة الأولية , لكي يتجمعوا و يصوغوا رابطة جديدة تصلهم ببلادهم من خلال نشر الوعي و مد سبل الوصل و الاتصال . إن من العسير وضع السيناريو أو التسلسل المحدد الذي يلتزم به سير الإجراءات أو توقيتها و استغراقها الزمني .
الجلي تماما هو أن هذه الخطوات الأولية أو أية خطوات مقترحة أخرى لا مناص من إجرائها فورا و بغير إبطاء لا يزال مهاجرو حضرموت يتذكرون حتما حضرموت . على أن الانقطاع الطويل الذي شاب صلات بعضهم بها لا بد أن يكون قد حوَّلها في تصورهم إلى مكان خيالي لا وجود له سوى في الذاكرة , و في حكايات الأجداد . لذلك فإنهم بحاجة إلى من يذكرهم بوجود حضرموت بأنها كائنة في الحقيقة . وأن بنايات شبام العاليات لا تزال تشمخ , وأن نخيل سيئون لا يزال يثمر أحلى التمور , و أن جوامع تريم و مساجدها قد عادت تشع ناشرة الإيمان و الحكمة , كما أن الشحر ( سعاد ) لا تزال تخلب البر و طربا بالشعر و الغناء , و لا تزال المكلا هي تلك العذراء البتول التي تتطلع محدقة في المحيط تترقب أبناءها المبحرين عنها و العائدين .
والأهم من كل ذلك أن الناس في حضرموت ماضون في مجاهدتهم لصون كل ما هو حضرمي , المباني و تعاليم الدين و الشعر و الغناء و الرقص و تربتها الغالية , و هم يجتمعون عند مغيب الشمس و مهب نسائم البحر و يتبادلون الأخبار عما أتيح لإخوانهم الذين هاجروا إلى مناطق بعيدة من نجاح أو غيره . و كيف أنهم قد هاجروا لنشر تعاليم الدين أو اكتساب علوم جديدة أو رزق وفير أو التعرف على بلاد جديدة . إن أولئك المهاجرين كانوا على الدوام قبل رحيلهم يقطعون على أنفسهم وعدا بأن يعودوا هم أو أبناؤهم أو أحفادهم إلى أرض الوطن حيث تتكامل لحمتهم مرة أخرى و يستجمعون معارف جديدة و قوة جديدة استعدادا لرحيل جديد كذلك .
_________________________________________________________________
المصدر:المركزالعربي للدراسات الاستراتيجية دمشق-العدد27للعام2006.الترجمة:أ.عبدالكريم الحنكي,مراجعة لغوية : أ.علي بارجاء,تنسيق : عبدالله مكارم
*جميع الحقوق محفوظة لدى موقع سيئون برس مايو-آيار2012م*


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.