البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    بنوك هائل سعيد والكريمي والتجاري يرفضون الانتقال من صنعاء إلى عدن    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    ماذا تعني زيارة الرئيس العليمي محافظة مارب ؟    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    رسالة سعودية قوية للحوثيين ومليشيات إيران في المنطقة    كأن الحرب في يومها الأول.. مليشيات الحوثي تهاجم السعودية بعد قمة الرياض    طفلة تزهق روحها بوحشية الحوثي: الموت على بوابة النجاة!    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز برباعية امام فالنسيا    ثلاثة صواريخ هاجمتها.. الكشف عن تفاصيل هجوم حوثي على سفينة كانت في طريقها إلى السعودية    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    رئيس مجلس القيادة: مأرب صمام أمان الجمهورية وبوابة النصر    الجرادي: التكتل الوطني الواسع سيعمل على مساندة الحكومة لاستعادة مؤسسات الدولة    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    استشهاد 23 فلسطينياً جراء قصف إسرائيلي على جنوب قطاع غزة    فيتنام تدخل قائمة اكبر ثلاثة مصدرين للبن في العالم    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    رباعي بايرن ميونخ جاهز لمواجهة ريال مدريد    عاجل محامون القاضية سوسن الحوثي اشجع قاضي    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    لأول مرة في تاريخ مصر.. قرار غير مسبوق بسبب الديون المصرية    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    ريمة سَّكاب اليمن !    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بن دينيش.. شاعر يصنع الابتسامة بسخريته
نشر في يافع نيوز يوم 01 - 01 - 2015


د.علي صالح الخلاقي
ولد الشاعر حسين عبدالرب محمد بن دينيش القعيطي في قرية (حُربُوب الأسفل) عام 1957م, إحدى قرى القعيطي, مكتب الموسطة, وتقع حالياً ضمن مديرية لبعوس- يافع, محافظة لحج. ولم يتمكن من تلقي أي تعليم في طفولته, لكنه تتلمذ وتعلم الكثير في مدرسة الحياة التي وجد نفسه يخوض غمارها منذ مطلع شبابه حيث انتقل للعمل في مدينة عدن وفيها اجتهد وثابر على تعلم القراءة والكتابة بطريقة ذاتية, وحرص على تنمية معارفه من خلال القراءة والإطلاع على كل ما يقع بين يديه وتمكن بذلك من تثقيف نفسه بنفسه. ولم يطل به المقام في عدن حيث غادر ضمن أسراب من الطيور المهاجرة من أبناء منطقته للعمل وكسب الرزق في المملكة العربية السعودية وما زال يعمل فيها حتى الآن, ولا ينقطع عن زيارة أهله ووطنه بين فترة وأخرى. وهو متزوج ولديه سبعه أولاد (أربعة ذكور وثلاث إناث).
تعرفت على الشاعر منذ أن بدأت أشعاره تنتشر بواسطة الكاسيت بصوته وأدائه وبأسلوبه الفكاهي الطريف والساخر الذي كان متسقاً ومتناغماً مع مضامين أبياته الشعرية, وكانت تلك الأشعار تجمع في مضمونها وطريقة أدائها بين التسلية والطرافة بغية امتصاص كربة الغربة وفراق الأهل والأحباب وبين الموقف الساخر والواعي من الأحداث التي عصفت بحلم الوحدة صيف 1994م وما نتج عنها من مآسٍ وآلام لا نزال نعاني من تبعاتها, وقد لقيت أشعاره تلك استحسانا وقبولا من قبل المتلقين.
كان تعرفي على الشاعر بواسطة الصديق الودود حسين صالح قاسم القعيطي (أبو وضاح) الذي سبق له أن أهداني أول كاسيت من أعمال الشاعر فور صدوره, وربطتنا بعد ذلك صداقة ولقاءات عديدة, كانت تتجدد بين فترة وأخرى عند كل عودة للشاعر من مهجره, وكنا نستمع في تلك اللقاءات إلى جديد شاعرنا من القصائد المتنوعة, والحقيقة أنني أعجبت بأسلوبه الخاص الذي اختطه لتقديم أشعاره بطريقة يجمع فيها بين الطرافة والسخرية الهادفة, أو ما يُعرف بخفة الظل, وهو ما يميز شخصيته وأسلوب حديثه العادي الذي يتسم بروح فكهة وساخرة طبعت أشعاره بميسمها, وهذا في تقديري يعطي لشعره نكهة خاصة وجاذبية سحرية من لدن المتلقين, الذين يتسابقون لاقتناء أشرطة الكاسيت بصوته وأدائه المتميز, وأتذكر أنني نصحته حينها أن يهتم بجمع تلك الأشعار لكي تجد طريقها إلى النشر ويستمتع بها عدد أكبر من جمهور القراء والمعجبين, لكنه لم يكن حينها متحمساً أو مهتماً بذلك, بل وأجاب بتواضع: "أنها قصائد للتسلية فقط". والحقيقة أنني أحببت أشعاره ووجدت فيها الطرافة والمتعة التي لا تخلو من فائدة, لأن سخريته المرة تستمد موضوعاتها من هموم المجتمع وواقع الحياة. وها قد أزفت اللحظة لصدور هذه المجموعة, التي تعد باكورة إبداع الشاعر, وذلك بمبادرة من عدد من أصدقاء الشاعر الذين شجعوه على جمع ونشر هذه القصائد, وهم كما ذكرهمالشاعر: حسين صالح القعيطي(أبو وضاح) , الشاعر محمد يحيى المحبوش, أحمد عبدالكريم العيسائي, عزان الجانحي, كما تكفل بدعم طباعتها مشكوراً السلطان غالب بن عوض القعيطي, ولولا هذه المبادرة, وهذا الدعم, لتأخر- ربما- صدور هذه المجموعة الممتعة من الأشعار حتى إشعار آخر.
جاء الشاعر من محيط يجل الشعر, وبيئة ولادة للشعراء, اسمها القعيطي, التي أنجبت نخبة من أفضل شعراء يافع وأكثرهم شهرة, ممن أناروا بكلماتهم حياتنا الشعرية, ومن لم يسمع بشعراء القعيطي العظام: سالم علي المحبوش, قاسم عوض المحبوش, سعيد يحيى المحبوش, شائف محمد الخالدي, صالح أحمد الحالمي, محسن محمد الصريمي, عبدالله صالح عباري, وغيرهم كثيرون. وفي الوقت الحاضر تلمع في سماء دوحة الشعر اليافعي أسماء عديدة لشعراء مجيدين من جيل الشباب ممن يمثلون خير خلف لخير سلف, نذكر منهم على سبيل المثال: خالد القعيطي, زين محمد القعيطي, زين بن زين أحمد (أبو بشار), نبيل الخالدي, محمد يحيى المحبوش, أبو نورة القعيطي, أحمد عبدالله دهول.. وآخرين. ويأتي في عدادهم شاعرنا بن دينيش, الذي كان لهذه البيئة أثرها الواضح في تكون شخصيته وانجذابه إلى قول الشعر, وحتى سخريته نجد أنها امتداداً لأشعار من سبقه في هذا اللون الشعري كالشاعرين شائف محمد الخالدي وسعيد يحيى المحبوش, وأن تميز بغلبة هذا اللون على ما عداه في شعره.
إن السخرية أسلوب من أساليب النقد سواء جاءت نثراً أو شعراً, وفيها يتجلى موقف الشاعر من الظوهر التي ينتقدها, وقد زخر الأدب العربي على مر العصور بالسخرية والفكاهة والضحك أو ما يطلق عليه "الأدب الساخر" وقد استهوى الكثير من الشعراء وزادت مكانته في الوقت الحاضر, ربما لارتباطه بالسياسة, ويستوي في ذلك الشعر الفصيح والعامي.
وشاعرنا بن دينيش يشهر آراءه بأسلوب ساخر، برع فيه ويتميز به عن أقرانه من الشعراء حتى يمكننا القول إن السخرية علامة مميزة لمعظم أشعاره. وشعره رغم سخريته وطرافته يصدر من أغوار نفسه, متأثراً بمحيطه ويتجاوب لأشعاره كل من حوله على اختلاف مشاربهم, ذلك أن قصائده تدخل قلوبهم دون رقيب, ليس فقط لأنهم يجدون فيها الطرافة والمتعة, بل ولأنها تغوص في معاناتهم ومشاكلهم, وتمثيل الحياة بتناقضاتها.. في خيرها وشرها.. في حلوها ومرها.. في الحركة والسكون.. وسخريته في تقديري أسلوب شيق وممتع يفرغ من خلالها الشاعر آلام مجتمعنا وتمنحنا صوراً واضحة عن قضاياه الملحة, التي تؤرق حاضرنا ومستقبلنا, وهي ليست لمجرد الإضحاك, لأنها تكون بذلك أشبه بالهزل أو العبث ومضيعة للوقت, ولكنها سخرية هادفة واعية تنشد المعنى وتستفز الحماسة وتحمل شحنات ناقدة تلامس الهموم والأوجاع والمثالب والنواقص التي يمقتها المجتمع, ويمتزج فيها وبطريقة هزلية الضحك بالمرارة بغية التخفيف من وطأتها. وهو لا يسخر من شخصية معينة, فليست له خصومات شخصية مع أحد, ولا مع جماعة بعينها, لكنه يسخر من ظواهر التخلف والعيوب الاجتماعية ومظاهر الفساد التي تنخر جسد المجتمع وتعيق تطوره, وحتى لو سخر من أحدهم فليس لعيب خلقي, ولكنه يتعرض لمسئولية صاحب العيب الذي كان باستطاعته أن لا يقع فيه, كما في قصيدته (ما تفيد العمامة) التي لم يتعرض فيها لقاضٍ باسمه أو كنيته, لكنه استهلها مرحبا بسخريته اللاذعة بنموذج للقاضي الفاسد بقوله:
مرحبا فيك ياقاضي بفُوطه مُعمّم
معتني بالعمامه
منشغل بالزلط ولامعه غيرها هم
بالفلوس اهتمامه
والأصل في سخريته هنا أنها تذهب بعيداً عن الموقف المباشر بخفة وفكاهة, فلم يذم القاضي أو يشتمه, بل رحب به من الوهلة الأولى وقدمه لنا مباشرة بصورة كاريكاتورية ساخرة ومقيتة لمثل هذه الشاكلة من القضاة الفاسدين, الذين يخفون سوءتهم وراء العمامة الكبيرة التي مع ذلك لا تخفي حقيقة فسادهم وسوء طويتهم وانحرافهم عن شرف المهنة وجادة الحق, ولا هم لهم إلاَّ التظاهر بعمائمهم للحصول على المال الحرام من رشوة ونحوها.
ولا شك أن هذه السخرية اللاذعة تترك أثراً في النفوس أشد وقعاً من السياط أو لسع الدبابير, خاصة حين تطال رموز الفساد والطغيان أو سلوكيات وعيوب المجتمع, ونجد أن الشاعر قد يقسو أحياناً على الشعب بشكل عام, وهو الذي التزم جانب الدفاع عنه, إذ نجده يوجه إليه سهام سخريته, لأن الشعوب والمجتمعات الحية من حوله قد تغيرت وتطورت فيما بقي لوحده جامداً(ساقعاً), دون أن تؤثر فيه الجُرَع التي يتجرعها ويتكبد مرارتها مراراً ولم يحرك ساكناً, وكأنما ينطبق عليه المثل الشعبي القائل (كركر جمل), فحق للشاعر أن يقول فيه:
حِمِيِّهْ الناس ذي حوله وهو ساقع
ما أثَّرَتْ فيه لا إبْرِهْ ولاجُرْعَهْ
إنها نوع من النقد الاجتماعي بطريقة ساخرة تخلص النفس من متاعبها وتثير الهمم لمواجهة تلك العيوب ورفضها. وفي كل الحالات لم تفارقه روحه المرحة حتى وهو يكتب (وصّية مُضَيَّع) تقمص شخصيته ووجهها إلى أمثاله ممن لا يسمعون ولا يعون هول البشاعة التي تحيط بهم:
وصيّه من مُضيَّع لامُضيَّع
بها الشاعر يسجّل انطباعه
إلى إنسان ماله إذن تسمع
ولاينظر إلى هول البشاعه
كما سخر من التبعية السياسية المذلة للأجنبي بشيء من الرجاء الهزلي المر على لسان (أذناب) أمريكا, وما أكثرهم في وطننا العربي, وجعل نفسه ناطقاً باسمهم, وكأنه مخولاً منهم بطلب النصيحة من السيد الأمريكي (وِلْيَمْ) الذي شبهه بالثور, ونحن بالأذناب التابعة والخانعة التي يحركها الثور الأمريكي حسب مشيئته ومتى أراد:
يا (وليم) ارجوك تنصح قبل لا نحنب
لأنك الثور واحْنَا من قفاك اذناب
قل عاد شي عقل ماهو من قوي سَلَّب
لاهو كذا كان كل الناس يا سِلاَّب
وبالمثل انتقد التبعية الاقتصادية كما في قصيدته (شكوى الريال والشلن) والتي قالها مطلع عام 1994م, وفيها يسخر بطريقته الطريفة من انهيار عملتنا الوطنية أمام الدولار, الذي جاء من (الغرب) رافع الرأس, لا يحسب لأحد حساباً, والدولار هنا رمز للهيمنة والتسلط:
جانا من الغرب يتشطَّط ويتدلع
ولا يحَسِّب لواحد وَيْش ذا المصكوع
لو عندنا أهل مثل الناس ما نخضع
حتى ولا (الدَّال والرَّا) من ذهب مصنوع
لكن وقعنا مع مجنون جنب أصكع
لا راح قربُوع ردّوا موضعه قربُوع
مسكينة عملتنا الوطنية, رمز اقتصادنا الوطني, أنها في نظر الشاعر (بلا أهل) وتلك لعمري مأساتها ومأساتنا, وإلا لما خضعت وخضعنا ذلك الخضوع المريع, ولما لحق بها وبنا الويل والثبور وأصابها ذلك الضمور, من جراء تسلط وعنجهية ذلك الدولار (المصكوع), وجوهر المأساة ليس بالعملة الورقية, ولكن ب(أهلها) أي بمن يديرها ويحرك عجلة الاقتصاد دون مراعاة للمصالح الوطنية, ثم ماذا تتوقع حين تسلم قيادك لمجنون وبجانبه (أصْكَعْ) أي شخص لا يفقه في الأمور شيئاً. وتزاد المأساة في تلك المعادلة التشاؤمية التي لا تبشر بالخير (لو راح قربوع ردوا موضعه قربوع), وهذا يذكرني ببيت للشاعر المرحوم السيد قاسم محمد العوذلي يقول فيه:
يقول قاسم محمد وَيْش هذا الكلام
كل ما راح مُؤذي قال مُؤذي سلام
والمؤذي أو (القربوع) هنا كناية عن الفاسد, السارق, المرتشي, الظالم..السلبي.. الخ. وشاعرنا لا تقف سخريته عن حد, بل يسخر من كل العيوب والنواقص واختلال القيم الاجتماعية ، ومن أبرز الصفات الذميمة التي سخر منها (الأنانية( وكل من يصاب بهذا الداء الوبال من الأنانيين الذي لا هم لهم إلاّ أنفسهم, وليذهب الناس دونهم إلى الجحيم, كما في قصيدته الطريفة (يالله لي وبس), التي صاغها على لسان أحدهم, يقول في مطلعها:
طلبناك يارحمن يا منزل المطر
تسقي بلدنا لا تسقي بلد لحد
وتعطيني العافيه في الجسم والنظر
وخل الجماعه بالمشاكل وبالنكد
ذرينا إلهي نسألك تمِّم الثمر
وخل الفِوَلْ تأكُل على أصحابنا البلد( )
وهذا يذكرني بتلك الطرفة, حين أخذ أعرابي يدعي الله أن يرزقه ويرزق ولده فقط, فقال له شخص بجانبه: ما ضرك لو دعوت الله أن يرزق كافة المسلمين, فأجاب الإعرابي: إنني لا أريد أن أثقل على الله, والفرق بين الاثنين, أن ذلك الإعرابي قد دعا لنفسه ولولده وكف عن الدعاء بالضرر لغيره كما هو حال بعض الأنانيين الذي لا يريدون لغيرهم إلا القحط والنكد ونحو ذلك من مصائب الحياة.
وقس على ذلك سخرياته العديدة التي يواجه من خلالها أعباء الحياة, بمسحة من التفاؤل, دون أن تضعف إرادته أو يلين جانبه, ولم يكن الهم العربي بعيداً عن مخيلته الشعرية, فقد تعرض للقضية الفلسطينية ومحنة الحرب الأهلية في الصومال وغيرها من قضايا الأمة الأخرى. وبقراءة سخرياته نجد أنه يعبر عن أعمق مشاعر وآلام وجراحات الشعب, وها هو يدق(نواقيس الخطر) ويدعو لأخذ العبر مما غبر, حتى نلحق بمن بلغ القمر, شريطة أن نتخلص من عادات (الدّفرة) ونحر البقر, وأن نرمم ما تشظى وانكسر:
يهل البصر دقت نواقيس الخطر
في كل محضر والجَبَتْ في كل دار
قد غيرنا زار الثريا والقمر
واليوم في المريخ يجري الاختبار
واحْنَا إلى الدّفره وعقار البقر
عدنا النظر بعد الدراسه والقرار
واجب علينا ان نخُذ مما عَبَر
عِبْرِه ونتفكّر بذي بالانتظار
واجب علينا ان نصلح ما اكتسر
ذي قد كسر يجبر وما قد صار صار
تتفاوت اللغة في أشعاره بين اللهجة القريبة من الفصيح, وبين الفصيح, ولغته إجمالاً جاءت سلسلة, بسيطة, تخاطب العقل. وقاموسه الشعري شديد الارتباط بالثقافة السائدة ولغة بيئته ومحيطه الراسخة في معجمه الذهني, ما يؤكد ذلك استخدامه للألفاظ ذات الدلالات السياسية, وبروز اللغة الرمزية يمتزج فيها الواقعي بالخيالي وتركيزه على استدعاء بعض الرموز والأسماء ذات التأثير السلبي على عالمنا العربي( بوش, كلنتون, وليم, الدولار, اليورو..الخ). مستمداً طاقته الإيحائية لبث الروح الوطنية والحث على الخلاص من التبعية المذلة. ومن الظواهر الفنية, توظيف الشاعر للتراث, وخاصة اللهجة اليافعية القحة التي بدأت الكثير من مفرداتها تنقرض وتتلاشى, وهي سمة ظاهرة في بعض قصائده, ومن تلك المفردات (التقروص, الجلعاب, الأُفره, الخنذوذ, الشطيطا, الصرير..الخ) , كما في الزوامل المعنونة ب(دعاية انتخابيه ساخرة) والتي نظمها في أول انتخابات برلمانية في اليمن جرت عام 1993م بعد تحقيق الوحدة وكثرت فيها الأحزاب ودعاياتها الانتخابية, فابتدع الشاعر هذا الأسلوب الساخر الذي وضعه على لسان بعض الحشرات, بأسلوب طريف وبديع, وجعل كل منها تتباهى بنفسها وبقدراتها الخارقة, واختار هذه الكلمات الدارجة والمعبرة كوسيلة للهزء والاستخفاف بكل ما يراه خاطئاً في هذا الزمن ( الدّم..قراطي)الذي انقلبت فيه القيم رأسا على قلب, ولم يستفد أحد من كل ما مر من تجارب وخبرات وعبر:
المتكل قال جينا في زمان اقلب
قلب بنا مثلما تقلب في الجلعاب( )
كم هي تجارب على حقدي( ) وَنَا بعجب
ولا استفدنا من الخبره ولا الجِرَّاب
وهذه الظاهرة الملحوظة في شعره بقدر ما توثق للهجة العامية وتثير المتعة وتبعث الذكريات في نفس القارئ اليافعي, فأنها بالمقابل تثير الغموض لدى القراء من خارج يافع, ولهذا عمدت إلى إفصاح معاني تلك المفردات العامية ليسهل فهمها للمهتمين والقراء من خارج يافع. وقد طرق كذلك الشعر الفصيح في بعض قصائده القليلة, لعل أبرزها (سلطان بحكمته) التي أظهر مقدرته فيها على نظم الفصيح مع وقوعه في أخطاء نحوية لعدم إلمامه في قواعد النحو والإعراب, وهو معذور في ذلك, وقد صوبت ما أمكن منها بموافقة الشاعر, حتى ظهرت بصورتها الحالية. ومن طريف أشعاره قصيدة مزج فيها بين الكلمات العربية والكلمات الإنجليزية, ربما ليظهر معرفته وإلمامه بنتف من لغة الإنجليز ومقدرته على صياغتها شعراً موزوناً في قصيدته تلك, وهذا يذكرنا بقصيدة للشاعر الوطني إدريس حنبلة مدرس الإنجليزية الذي دخل سجون الاحتلال البريطاني مراراً قالها على سبيل التفكه, يقول فيها:
أيها الناس أفيقوا
انما الدنيا (فنش)"finish"منتهية
كيف ترضون بعيش
همه رز و(فش) "fish"سمك
قاتل الله حروبا
تجعل الكون (ردش) "reddish"محمر
نحن في وقت عصيب
ضامنا فيه ال(جَويش"jewish"اليهود
هدموا الروح فأضحت
حالة الدنيا (ربش) "rubbish"نفاية
وغدا العقل سجيناً
وهو محصور ب (دش) "dish"طبق
وإذا كان الشاعر إدريس حنبلة قد اقتصر على وضع الكلمات الانجليزية كقوافي لقصيدته الشهيرة تلك, فأن شاعرنا بن دينيش قد أورد الكلمات الانجليزية متناثرة هنا وهناك ومزجها مزجاً في نسيج أبيات القصيدة, لكن إكثاره من الكلمات الانجليزية في قصيدته, أفقدها بعض عناصر الفن الشعري والتذوق الجمالي, وأصبح من الصعب على القارئ أو المستمع الذي لا يجيد الانجليزية أن يفهم معانيها دون الاستعانة بالترجمة وقد سهلنا الأمر بوضع معانيها في هوامش القصيدة, ومع ذلك تحسب للشاعر قدرته تلك, التي لم تجانب روح الطرافة التي يتميز بها.
وإلى جانب أشعاره الساخرة له أشعار غزلية غنائية كثيرة, صاغها الشاعر ألحاناً وسكب فيها عواطفه وأحاسيسه وانفعالاته, وكشف فيها عن مزاجه العاطفي الذي لم يشذ فيه عن الغزل العذري المألوف في الشعر اليافعي, لأنه كغيره من الشعراء ينتمي إلى مجتمع محافظ, ونجده في الغزل رقيق الطباع والسلوك ولغته أكثر ليونة وأرق عذوبة . ففي مهجره يلتهب خياله الشعري ويفيض بالحنين والشوق إلى الوطن.. ويصف مَرابع الأَحباب ومنازلهم واشتياقِهِ إِلى لقائهم ووصالهم, معبرا بذلك عن معاناته وأمثاله ممن فرضت عليهم الحياة الاغتراب في أصقاع كثيرة لكسب الرزق وتوفير متطلبات أسرهم ورفاهيتها على حساب معاناتهم وشقائهم في بلدان اغترابهم, وتلك لعمري قمة التضحية..ويشتهر اليافعيون بالهجرة طلباً للرزق, لكنهم في غربتهم يزدادون التصاقاً بوطنهم, وربما هيجت نسمة أو غنية أو زغردة عصفور أو هديل حمامة لواعج شوقهم.. وشعر الحنين لدى شاعرنا يتسرب إلى النفس ويغور في أعماقها ويهيج عواطفها ويؤجج ويلهب أشواقها إلى الأهل والخلان, لا أريد أن استشهد بأبيات من غزلياته, ولكن قراءة عابره في عناوين تلك الغزليات تبين مضامينها وما أفرغ فيها من شوق وحنين, لنقرأ: فيض الأحاسيس..لابد من لقاء….داعي الغُربة..ضاع الأمان..صعب الفراق..ريح الصبا..ملتقى الأحباب… شلوا الكتاب.. الحب الأول مُصان..تعاتبيني..دموع الوداع..الحلم بالعودة..مكسور الجناح..ما يذكروني بالسلام..هي غربتي..يا زمن..روحي معك..وفاء وشوق..يوم السفر..ما ظنيت تنساني..ذكريات..السفر..التقروص, وفي هذه الأخيرة أفرط الشاعر في الحنين لمسقط رأسه ومرابع صباه, وصورها بمفرداتها المحلية التي لم تنسه إياها سنين الغربة, بل استحضرها لحظة الإبداع وكأنه يعيش اللحظة تلك ذاتها بشحمه ولحمه وروحه ودمه, يقول في مستهلها:
سقاء الله يوم ما كنا
أنا والخل يا علاف
ولا حَطّ المطر سِرْنَا
تكننا في السِّجْهَاف
في الوادي تعارفنا
وقطفنا الشقر أصناف
تحاببنا تلاعبنا
تهادينا الفقُوح أحْدَاف
ولم يستطع الشاعر أن يتخلص من سخريته حتى وهو يتغزل بذلك (الهلي) الذي خطر بجانبه, والمقصود ب (الهلي) في اللهجة اليافعية (المرأة الجميلة الناعمة), وهو في قصيدته "غزل ساخر" قد صورها تصويراً ساخراً, وفي تقديري أنه أراد في مثل هذا الغزل التفكه والإضحاك فقط من خلال التشبيهات والصور التي تثير لدى القارئ الشهية للضحك.. لأنه لا يعقل أن يعبر عن مشاعر حب صادقة بهذه الطريقة, بل أن أوصافه التي أطلقها هنا قد أضحت هجاءً ساخراً من تلك (الهلية) التي يفترض- كما يبدو من الوهلة الأولى- أنه يتغزل بها, فإذا بنا أمام صفات ونعوت يتعفف منها الشاعر, وقد برع في أن يجعل الموصوف مثار سخرية, من خلال تقديمه صورة كاريكاتورية شاذة فتحول الغزل هنا إلى هجاء لاذع.
وحتى الهجاء لديه جاء بمسحات من السخرية, وقد أفرط في هجاء الشعراء ومدح نفسه وفاخر بشاعريته على أنداده بصورة متعمدة, لا تشي بحقيقة الأمر, ففي مساجلاته الشعرية, التي اقتصرت على مبارزتين مع اثنين من أصدقائه المقربين, نجد أنه بدأ يصاولهم وينازلهم منازلة الشجعان, وإن كان الشاعر – كما يتبين- قد أفرط في مفاخرته بقوته وبطشه, بل وبالغ في أن نصب نفسه شاعراً في محراب الشعر وجعل من أنداده مجرد طلاب في مدرسته الشعرية. وفي تقديري أنه في فخره أراد الممازحة والتسلية بصورة تحدي لأصدقاء تجمعه بهم روابط حميمة, ويجل شاعريتهم وباعهم الطويل في ميدان الشعر, لكنه أراد أن يستفزهم جمعياً للرد عليه, كما في قصيدته الموجهة لصديقه الشاعر قاسم يوسف والتي أدراج فيها أسماء عدد من الشعراء الذين شملهم بهجائه ومفاخرته عليهم وعلى رأسهم الشاعر الكبير أحمد حسين عسكر صاحب الباع الطويل والتجربة الشعرية, التي لم يلغها الشاعر بعد, لكنها روحه المرحة جعلته يفرط في مدح ذاته والتقليل من شأن ومكانة الآخرين, كما في قوله مخاطباً قاسم يوسف:
مرحبا فيك يا طالب في الصف لول
طالب العلم في مدرستنا يا هلا به
المدارس كثيره بس مدرستنا أجمل
من دخل عندنا يقرأ وجَاد الكتابه
وابن يحيى وبن عسكر تلاميذ فشّل( ) من تعلم معاهم خاب والجهل صابه
جالس انسان ذي يفهم في الربط والحل شخص مثلي مثقف كل واحد يهابه
لكن البادئ أظلم كما يقال, أو(المجاوب أشعل) كما يقول المثل اليافعي, وهو ما نجد تجسيداً له في الرد المتهكم من صديقه الشاعر قاسم يوسف, الذي حمل مسحة من الأسى والأسف, ونعرف منه أنه يؤنب صديقه بن دينيش كونه لم يحسن اختيار اللحظة المناسبة لهجومه الطريف والساخر عليه, وكان الأحرى به أن يقول شيئاً آخر فالأولى به مواساته ومؤازرته في معاناته التي قادته للسفر إلى الشام للعلاج, والتي يبدو أنها لم تجد صدى أو اهتماماً لدى صديقه الساخر, ويعاتبه على هجومه الكاسح الذي جاء في الوقت غير المناسب, فكان أن رد من جانبه مهاجماً ومؤنباً ومدافعاً عن من شملهم بن ديني بهجائه من الشعراء الآخرين, يقول:
أرسل أبيات بن دينيش يا ليت ما أرسل=عقّدَتْ جَّو متكهرب وزاده كآبه
ليته اليوم أرسل لي رساله بيسأل=كيف حالي وما هي حجتي والإصابه
داخل الشام في عمّان لي شهر وأطْوَلْ=منتظر خير من عند الذي سا السحابه
ليش دينيش إلى مكريب واقد تهروَل=هل أقول حَانَتْ الأيام نرفع كتابه
با تقع وجبتي يا حسين ما أشتيك تخجل=لا رحم من حذر والجيد يعمل حسابه
ختاما.. أكتفي بهذه الإضاءة العابرة, وأترك القارئ يستمتع بذائقته مع قصائد هذه المجموعة, وأقول أننا أمام شاعر واعد, ساخر وطريف في شعره, كما في حياته, ونجد أن سخريته وطرافته هي ما يحملنا على قراءته ويشدنا إلى سماعه.. وقد نجح أن يضحكنا ويمتعنا..
—————————————–
تقديم ديوانه( وصيّة مضيع).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.