للشاعر/ أمين المشرقي حين يفتح المرء نافذة قلبه على ديوان (مشاعل لا تنطفئ) للشاعر/ أمين المشرقي يجد لغةً عذراء وشاعرًا يقول: ربي لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين, لهذا أكاد أجزم أن الشاعر المشرقي زاوج بين القصيدة العامية القائمة على الخطابية والمباشرة والشفاهية الرافضة بفطرتها نظريات النقد الحديث المتعالي على الأدب الشعبي وخصائصه المحلية وبين الشعر القائم على الشعر, والذي لا يحيد قيد أنملةٍ عن هموم الناس, لهذا كتب له ولرفاق دربه أن قصائدهم نُقشت بأحرفٍ من نور في قلوب الناس, وكانت قاب قوسين أو أدنى= من ذاكرة الخلود. ولعل ديوان (مشاعل لا تنطفئ) واحدٌ من مجموعة دواوين فصيحة وشعبية وعامية استطاعت الوصول إلى مصاف النضج الفني؛ من حيث الرؤية الشاعرة والحس الإنساني, فقد أتى هذا الديوان الكبير في حجمه وهمّه ومستواه الإبداعي في ستة أقسامٍ رئيسة (شمعة في قم البحر–جليد يشتعل –نار قرب طورأعمى – حريقٌ في مخيلة الجمر – براكين جائعة –مصابيح خارج المشكاة).. وتحت عنوان رئيس (مشاعل لاتنطفئ).. ولا يخفى على القارئ إن هذا التقسيم الواعي لا يكون إلاَّ ثمرة تجربة واعية كابدت الكثير من أجل أن تُبقي على شمعتها مشتعلةً في فم البحر, وأن تحملها بعد ذلك فوق جليد يشتعل بجوار طورٍ أعمى راسمةً حريقًا في مخيلةِ الجمربين يدي براكين جائعة لتصلي بعد ذلك في مصباحٍ خارج المشكاة, بحسٍ صوفي, كافرٍ بالغلو, ولو كان غير ذلك لقال مصباح داخل المشكاة, ووقع في تناص مع قوله تعالى(مثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح).. لكن روحه الشاعرة وإيمانه العميق أن الشعر يخرق المألوف ولا يخدش اليقين جعله يقول ذلك: وإنه ومن خلال القراءة الفاحصة للديوان ليدرك القارئ إن هذا التقسيم لم يأتِ لغرض التقسيم وحسب, وإنما جاء استجابةً لرؤية فنية عميقة, أرادها الشاعر وخطّط لها مسبقًا وكتب قصائده استجابة لوعيه السابق بها؛ فنجده على سبيل المثال في القسم الثاني من الديوان, وفي القصيدة الأخيرة تحديدًا, يورد غيمة أسماها (قبس), ويورد في أبيات القصيدة البيت التالي: وكيف لي با زين ما اشتاق وصلك أشواق موسى عندما عانق الطور؟! ثم يأتي بعدها مباشرةً عنوان الجزء الثالث من الديوان (نار قرب طور أعمى) لذا نجد إن القبس والطور وموسى, كل هذه المفردات ما كانت إلا تمهيدًا للوصول إلى ناره قرب طوره الأعمى,وهوالأمر ذاته في كافة الأقسام المتبقية. إن الشاعر أمين المشرقي يعرف قدراته.. لهذا فهو يخطط للقصيدة قبل كتابتها, وحين تداهمه لحظة الكتابة يستطيع أن يوظّفها حسب ما أراد لها هو..إلا أنها غالبًا ما تستطيع الانتصار عليه؛ فتقوم بإخراجه عن دائرة عقله الواعي؛ فيكتب شعرًا أشبه ما يكون بالسحر. إني يماني من قروني قبيله تفطر حلوس والعرف والإخلاص ينبت كل شي في مغرسه من بعد يا لهاجس تنهجر وانتصب بين الجلوس والمشرقي ما له منافس لا تنهجر هاجسه وادخل في الموضوع دغري قبل ما الهاجس يحوس نحو الهوى والحب ويغير وضوع الهندسه غير أن تخطيطه للقصيدة لايجعله يفقد الكثيرمن مستواه الفني, بل يضفي على القصيدة نكهة أخرى قائلاً: فأينما تولّوا وجوهكم فثمّ وجه الشعر.. حاولت اعبر عن بنات افكاري وارسم عل خدّ الزمن أغرودة قصيدتي ضمنت فيها اشعاري وارسلتها في الحال ل(أحمد جودة) ولعل الفرق قد ظهر جليًا بين المقطعين, ففي المقطع الأول ظهرت روحه الشاعرة بفطرتها متنهجرةً, بلغة شعرية متدفقة, تشبه السيل المنصب من شاهقٍ على وادٍ نائم, بينما ظهرت في المقطع الثاني كعين رسامٍ تعانق وردة مرسومةً على حائط, لذا ظهرت الصنعة جلية وواضحة, وإن لم يكن ذلك لما اختار الشاعر قافيةً تتناسب مع اسم أحمد جودة, ولما أورد في بداية القصيدة مفردة (حاولت) لأن محاولة الكتابة لا تكون كحالة المداهمة التي حذّر الشاعر هاجسه من أن تمر عليه سريعًا, فيعود إلى عقله الواعي ويغير وضوع الهندسة. ولعل أهم ما يميّز الشاعر أمين المشرقي في هذه المجموعة روحه المتصوّفة الثائرة التي تنساب عرفانًا ويقينًا في مقام الوجد. يا درب أسلك دربك الباهي ودع ما يشغلك أو ما ترى كم عشنا وانا منتظر فتح الفتوح؟؟ تغريني الآمال والدنيا تقل لي: هيت لك وتزجّ بي في سجن يفتحني وباسراري يبوح إن هذه اللغة الشاعرة عرشٌ استوت عليه روحٌ تؤمن أن ثمة اتحاد وحلول بين الشعر وبين الإيمان.. كيف لا؟ وهي تصوّر السجن مفتاحًا لقلبٍ مغلقٍ أغرته الآمال, وراودته الدنيا عن نفسه فاستعصم, لكنه رغم هذا اليقين ما زال يؤمن بضعفه الإنساني, ويعلم أن هذا السجن قد يبوح بأسراره, وهو منتظرٌ لفتح فتوحه الذي لن يكون إلاَّ بعد سجن طويل يفتحه قلبه على باب الملكوت, وهو ذات السجن الذي سُجن به سيدنا يوسف عليه السلام.. تغريني الآمال والدنيا تقل لي: هيت لك وتزج بي في سجن يفتحني وباسراري يبوح إن تصوّف أمين المشرقي لايقف عن حدود اللغة, لكنه يتصل بأرضية معرفية وروحية وسلوك صادق.. لهذا نجده يمزج المفردة بالحال, والحال بالوارد, والوارد بالمشاهدة, والمشاهدة بالمكاشفة.. ختامها صلّوا على المحبوب دنيا وآخره المصطفى الروح العظيمة نور يصعد فوق نور فهذه الصلاة المتخمة بالصورة الشعرية والحس العرفاني بحقيقة المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم لا تكون من شاعرٍ متصنّع, لكنها نتيجة طبيعية لثقافة تراكمية ويقينٍ منقوشٍ في اللوح المحفوظ لروح الشاعر. إلاَّ أن هذا التصوّف لا يجعل الشاعر يقف عند حدود روحه فقط, فهو متصوّف عاشق يعيش حالةً من الصراع المفضوح بين روحه المتصوّفة وبين جنون الشعر وغرائزه البشرية. والآن سِرْ يا رسولي في طريق الوقاعه قُم شد و ارحل بحين لا العاصمة و ادخل المسجد وصلّي جماعه واركع مع الراكعين واطلب من الباري التوفيق ثمّ الشفاعه من الرسول الأمين. لقد أخفى الشاعر رغباته في هذا المقطع تحت جلبابه الصوفي, غير أن تخفيه لم يدم طويلاً، لأن هاجسه لأمرٍ ما قد دخل المسجد وصلّى بغير وضوء وكشف أسراره, على الرغم من أن الشاعر طلب منه التأنّي وأن يسير في طريق الوقاعة, وأن لا يجمع يقصر كونه مسافر, بل يصلّي جماعة, ويطلب من الله ورسوله التوفيق والشفاعة: وادخل على طول حارة فاتني ذي طباعه تسكر العارفين يا خل شوف الفساله طول والجمل ساعه والمرقحه ساعتين وانا لك الجمس وانته من موديل الرفاعه صالون ابو دبتين إن هذه المفارقات تسكر العارفين صالون أبودبتين, لدليل على حقيقة الصراع القائم بين الروح والجسد, والوعي والغياب, وبين حس الشاعر المتسلِّق عصا الوجد وبين رغباته المنحدرة في وديان ضعفه البشري, ولعل ما يحسب للشاعر إنه لم يحاول إخفاء هذه القصائد, بل جاء بها كما هي وإن حاول في بعض الأحايين الترميز والتورية. خلّاني أنسى حليب الأم واذكر حليبه وافخاذه الدافيات ليته نصيبي مع الأيام وانا نصيبه وادرس له العاديات فعلى الرغم من التصريح في البيت الأول, إلا أنه حاول التستر بجلبابه الصوفي في البيت الثاني (وادرس له العاديات), فكلمة (ادرس) و(العاديات) في الظاهرلهما دلالة روحية, غير أن باطنها من قبل الشاعر غير ذلك؛ ف (العاديات) هي الخيول والخيل رمزلقوة الغريزة.. و(درس) مصدر ادرس – ودراس وأبو دراس كنية فاضحة أيضًا, ولو لم يرد ذلك لقال واقرأ له العاديات. إن الشاعر أمين المشرقي يعيش حالة صراع دائم, فهو شاعرمطبوع يعيش للشعرالشعبي والعامي, ولا يعيش بغيرهما, لكن قصائده تخرج من مشكاة روحه المصبوغة بثقافته العالية.. لهذا غالبًا ما يجبره عقله الباطن على الوقوع في شراك القصيدة الفصيحة بوعي وبغير وعي. خفف الوطء واجعل منك لبنة تجدد أنت لبنة بناء لولاك ما قام بنيان كل هذا الجموح والكبرياء والتمرد ينتهي بك برحله ما معك غير الاكفان فجملة (خفف الوطء) ضاربة في الفصحى التي لم يعد يستخدمها حتى شعراء الفصيح أنفسهم.. فكيف لها أن تكون في قصيدة عامية؟! غير أن ذلك لايعني أن الشاعر قد وقف في منتصف الطريق بين الفصحى والعامية, فهو يكتب الفصيح الذي تظهر مفرداته في شعره العامي, ويكتب القصيدة الشعبية, كما لو أنه لا يعرف من الفصيح شيئًا, وكما لو أنه لا يجيد القصيدة العامية بالمطلق. يا ربنا يا حاكم الحكاما يا من وسعته كل شيءٍ رحمه إرفع بفضلك راية الإسلاما واحي بدينك مجد هذي الأمة لقد ظهر المشرقي في هذا المقطع شاعرًا شعبيًا خامًا يفتح قلبه للشعر القادم من فضاءات الفطرة, غير آبهٍ بغلو ثقافته في أقصى الأدب العربي.. لهذا أجزم أن المشرقي يخفي بين جنبيه شاعرًا يكتب القصيدة الفصيحة باقتدار. ولعل أهم ما يميز ديوان (مشاعل لا تنطفئ) بأقسامه الستة, محاكاته للشعر العربي؛ فلا تكاد تخلو قصيدة من ذلك.. قالت: تحذر فاخوتي سبعه اغمار قلت: انتي اخبر عندما توعديني قالت: ظلام الليل والله ستار عجل حضورك قلت: لا تحرجيني ألا يرجع بنا هذا المقطع إلى قول المنخل اليشكري: قالت فحولي إخوةٌ سبعةٌ قلت فإني غالبٌ قاهرُ وألا يذكرنا قوله: بنات صنعاء غذاهن موز والا زبيبه عقولهن ناقصات لا يسحرينك بفستان الدلع الحقيبه فالكل متمكيجات بقول المتنبي: حسن المدينة مجلوبٌ بتطريةٍ وفي البداوةِ حسنٌ غير مجلوبِ وهو الأمر ذاته في قوله: ويش الإمامه؟! ميزوا بين الحقيقه والخيال هي نفسها بس العمامة بدلوها كوفيه ألا يوافق قول الشاعر: وقلنا البنطلون أخف حملاً لهذا الشعب من ثقل العمامه لقد حاول المشرقي في هذا الديوان خرق المألوف لدى الشعراء الشعبيين, حين قسم ديوانه إلى مجموعات بشكل يلفت الانتباه, وبلغة شعرية عالية لا نجدها لدى أدعياء الحداثة أنفسهم.. غير أن أمين المشرقي وهو يحاول خلق الصدمة الشعرية لدى المتلقي تنتابه بعض الهنات التي تنتاب كل الأعمال البشرية, فحين استطاع أن يحاكي الأدب العربي بقصيدته العامية والشعبية لم يستطع الإفلات من وقوعه في التناص معه, وهوالأمر الذي يحسب عليه.. إن المتأمل لهذا العمل الرائع؛ يجد أن الشاعر ابتعد عن الجمل الفعلية, واتكأ على الأسلوب الخبري بشكل كبير, حيث تشكل الأسماء ما يقارب 80% من مفردات الديوان, ولعل مواضيع القصائد هي من أجبرته على ذلك, كون مجمل القصائد تنادي الضمير الإنساني الذي أراد الشاعر أن يعيد ترتيب مسمياته وصوره أولاً, وبعد ذلك سيقول له: كُن فيكون.. لقد اشتغل الشاعر على همّين كبيرين: همٍ إنساني ينادي بمدينة فاضلة.. لا الرزق من انتمائي لا قبيله قطع من كان مؤمن بربه ما يهم انقطاعه نفسي غنيه وقلبي قط ما قد جوع والعيب في من شرا صاحب وبعدين باعه وهمٍ ينقش القصيدة العامية في ذاكرة الناس بلغة بكرٍ لم يطمثها إنسٌ ولا جان.. في ذا الزمن ما شي مع القعقاع غير القعقعه وثورة الفيسبوك والشارع وزر اليتيوب أمثال هذا ذاق موته قبل يلقى مصرعه لن يسمعك لو تضرب الما في البرك لاما يروب إن همّ التحديث عتبة روح هذا الشاعر, وهوالهم الذي لا يفقد القصيدة العامية هويتها, فهو لم يخفض جناحه للصورة المجنونة التي تنادي بها بعض البرامج المسابقاتية غير المدركة خصائص الأدب الشعبي اليمني, والسبب يعود إلى أن القائمين على التحكيم فيها من غير المتخصصين.. لهذا رأى المشرقي أن التحديث في المفردة لا الصورة, وفي جنون التوظيف للذاكرة لا جنون التصوير, وطعن الأدب الشعبي في الخاصرة, ولولاحظنا البيتين السابقين سنجد ما يؤكد ذلك (الفيس بوك–اليوتيوب) وغيرها, وسنجد في الجانب الآخر (لن يسمعك لو تضرب الما في البرك لو ما يروب). إن براعة نظم المثل الشعبي, وتطويع مفردات العصر بلغة شعرية, هي الحداثة عند المشرقي, وعلى الرغم من أنه أورد في عناوين أقسام الديوان صورًا مجنونة؛ فإنه يجيز لنفسه مخالفة المألوف في التبويب, ولا يجيزه لمن يتمادون حد التغريب..لهذا نجد إن الصورة المركبة غير الواعية تكاد تكون غائبة في الديوان, فقد اعتمد الشاعرعلى الصورة الكاملة, ابتداءً بالتقسيم وانتهاءً بالنص, وكأنه أراد القول: إن الصورة المركبة غير الواعية في القصيدة العامية للمركبين المتطاولين على هذا الفن, وليست لمن ولدوا شعراء. يا درب عمري لا بقي بعضي ولا بعضك سلك أبنيك عالم في خيالي وانت تهدمني صروح أراك تقطعني كحد السيف وانا اتأملك