من الصعب عند تقديم شهاب غانم أو التعريف به أن نوجز مسيرة حياة يمتد فيها الشعر إلى نصف قرنٍ، فقد لامس شاعرنا طرفَيْ دائرةٍ عنوانهما الشِّعرُ والحياة. الرومانسية… الذات في مواجهة العالم تسيطر نزعةٌ رومانسية على قصائد الديوان، ونجد أن جزءا كبيرا من المجموعة الشعرية يتناول القصائد ذات التوجُّه الوجداني، ومنها «أين ألحاني»، «شراك»، «الأرض»، وهي ليست ذات توجه عاطفي بالضرورة يقصر التأمُّل الوجداني على عاشقٍ ومعشوق.. إنما كطبيعة الشعر الرومانسي ومفهومه الذي يتخذ من الإنسان محورا للكون، بكل ما يحمله من قضايا وأفكار وأحلام وعذابات، تأتي القصائد الرومانسية لشاعرنا، التي تصوّره في كثير منها يقف في مواجهة العالم منفصلا عنه بما يحمل كلاهما من سلَّمٍ قيمي مختلف عن الآخر.. فالشاعر يرتكز في رحلته الدنيوية على قيمه وأفكاره وأحلامه التي تنشد الخير والحق والجمال وأحيانا التمرُّد والغضب، في مواجهة عالمٍ يفيض باللامعنى وحشد المادية وسيطرة الأنانية والإجهاز على الحق، وكأننا في نهاية العالم. وهذه الأفكار تتلاقى على امتداد الكثير من القصائد كخيطٍ سريٍّ شفيف غير مرئي يوحّد الكثير منها على هذه النقطة وإن اختلفت توجهاتها وأغراضها ما بين رومانسي أو اجتماعي أو سياسي أو غير ذلك. فالركيزة الأساسية التي نستطيع أن نقول إن قصائد هذه المجموعة ترتكز عليها هي التغني بالإنسان ونضاله وقيّمه والسخرية من العبث وسيطرة اللامعنى. يقول شاعرنا في قصيدة «أين ألحاني»: «لا تسأليني اين ألحاني ولّت وخلتني لأشجاني إقبالها بالأمس حيرني ونفورها سرٌّ هُوَ الثاني كانت تسامرني وتغمرني بالوصل.. كيف سخت بهجراني كانت تنوح إذا شكوت لها كالناي بين بنان فنان فتسيل في مري حلاوتها كالبلسم الشافي لوجداني أعباء نفسي بعدها ثقلت وتراكمت في القلب أحزاني» ففي هذه القصيدة التي نطالع فيها حيرة الشاعر وحزنه ونستبطن معه مشاعره العميقة والبعيدة حين يبتعد عنه الفن ويهجره الإبداع، نجد ما يشبه رثاء الذات وتحديد موقع الشاعر من العالم وارتباطه بمركزية فنه فيه، وهي التي تمنحه الجوهر والحقيقة والكينونة وليس ما هو خارج الشاعر أو ما يرتبط ظاهريا بالعالم. في الفلسفة وأسئلة الوجود إن القيمة الحقيقة لأي شِعرٍ إنما تُقاس على عاملين: البناء الفني، فالفن إجمالا بنيةٌ وتكوين في الأساس، وفرادة وأهمية المادة/ الموضوع مناط العمل. وهذا ما يجعل الشعر يسمو عن النظم، من هنا يأتي تميُّز الكثير من قصائد هذا الديوان. فالشاعر في الكثير من قصائد المجموعة يقف متخذا موقفا من العالم في دوائره الفارغة العبثية التي تنتصر للاقيمة واللانظام والعبث، إنما يتخذ هذا الموقف الراسخ من فلسفةٍ عميقةٍ ركيزتها الإيمان والاعتقاد الفكري الراسخ بثوابت ويقينيات لم تهتز في نفسه لحظة، وهي تطالعنا بين حينٍ وآخر في قصائد مثل «إياك نعبد» و»تحدث إلى روحي» و»ألا بذكرِك قلبي يطمئن».. وغيرها من قصائد. والقصائد السابقة التي تتضح أهدافها ومعانيها وقيمها من عتبتها النصيَّة – العنوان – إنما تشير إلى كينونة وطبيعة الشاعر الذي يتخذ من الإيمان ديدنا لرؤاه التي تحلل الواقع البشري وتواجه ما تراه في العالم من خلل وفساد.. أو ما أطلق عليه شيلي «شهوة إصلاح العالم». يقول الشاعر في قصيدة «إياك نعبد» إياك نعبدُ خالقي من قلبِ قلبِ الخافقِ فلأنت ملءُ مغاربي ولأنت ملءُ مشارقي وهواكَ يَنْبوعُ الصفاءِ لكلِ قلبٍ عاشقِ وهواك مفتاحُ الوجودِ وبابُ كلِ مغالق فلك الركوعُ.. لك السجودُ من الفؤادِ الواثقِ فهذه الصورة الرائعة التي أوردها الشاعر متمثلا فيها هذا الرسوخ اليقيني الصافي، إنما يورده في معرض تعبيره عن التسليم الكامل لله سبحانه وتعالى بمشيئته وقدره وإيمانه به وتماهي الكون بالكامل مع هذه الفكرة، هذا التماهي الذي يبلغ حدا صوفيا أشارت له رموز (المشارق والمغارب) و(مفتاح الوجود) و(المغالق) وغيرها من مفردات أوضح من التأويل في سياقها الدال. الأسلوبية.. البناء والمضمون ومشهدية القصيدة الكثير من قصائد الديوان يتميز بالطرافة بدءا من التسمية «عتبة النص» مرورا بالموضوع، ووصولا إلى الخاتمة التي تحمل بدورها شيئا من الطرافة الأسلوبية مثل مفاجأة القارئ أو إدهاشه أو التوصل إلى حكمةٍ شاملة تجمع ما هدفت له القصيدة من البداية، كقصيدة «بخبوخ» مثلا التي تصوِّر جدا يلاعب حفيدته، فيخفي عنها الدرهم في يده، وهو يهمس (بخبوخ) وهي تحاول مجاراته، ولعل هذه الكلمة/الثيمة المُستخدمة لإخفاء الدرهم مستمدة من الأدب الشعبي ومن أدبيات الحكاية الشعبية، يستخدمها المبدع في قصيدته أكثر من مرةٍ: (ضحِكَت والتَمَعَت دهشتُها في العينين كانت يحفظها المولى دون العاميْن «بخبوخ» وتوارى درهمنا المنفوخ راحت تحضرُ دُميتها الضخمة ذات الثوب الجوخ وضعتها في كفيَّ وقالت: «بحبوح» قلتُ أراوغُ في صوتٍ مبحوح، هذي الدُميةُ أحلى من أن تُخفى .. يا روح الروح!). فالقصيدة التي يخالُها القارئ تصويرا مشهديا طريفا لحوارٍ خفيف بين جدٍ وحفيدةٍ، إنما تخفي نهايتها حكمة، هي ما سُمي في الشعر العربي (بيت القصيد) وهي في الشعر الغربي أيضا (البيت المركَز أو النواة)، فالحكمة البادية هي أن الدرهم/ الدينار/الدولار، لا يُمكن أن يُخفى أو تخطئ أثره العين في هذا الزمن الذي لا يُرى سواهُ فيه. وهذا النوع من القصائد يُطلق عليه في مدرسة الشعر الحديث شعر «الومضة» وهو المعتمد على التكثيف والاختزال وطرح الفكرة في نهايته بصورةٍ سريعةٍ ولافتة، تمكن منه شاعرنا على امتداد العمل الذي حفل بهذه النوعية من القصائد. التوجه السياسي وسؤال الراهن أما التوجه السياسي في القصائد فواضح من خلال الكثير من القصائد التي رصدت قضايا كانت أيقونة عصرها، وبعضها مازال حيا للآن، ومن القصائد هذه «بيروت 82»، و»طيور الانتفاضة» و»الموت والحضارات» «الفوضى الخلاقة».. إلخ. هذه القصائد، كما هو واضح من عناوينها الشديدة الالتصاق بمتونها، إنما تشير إلى ارتباط الشاعر بقضايا عصره، وبهويته العربية، وإيمانه بالنضال والحق والقيم. ربما اختلفت شواهد (العواصم) العربية التي طالتها المحن عن تلك الفترة التي كتب فيها مبدعنا نصه.. غير أن الحال العربي يبقى واحدا غارقا في بؤس واقعه.. وهو ما لم تفوّته عين الشاعر التي لا تغفل عن الرصد والتغني بالمأساة عبر سخريةٍ ممرورة تتماهى والواقع العبثي. نقرأ في قصيدة (بيروت 82): ( لو كانت تسمع مني الهيئات المعنية لأشرتُ بأن تُستحدثُ جائزةٌ دولية أعلى من «نوبل» للإنجازات السلمية تمنحها ل«مناحم بيغين» ول «شارون» و«هيج» و«ريغن» عن «صور» و«صيدا» «والنبطية» ومجازر بيروت الغربية *** بيروت الحسناء المعتادة أن تسترخي تحت الأنغام أمسَت لا تجدَ مكانا لتنام إلا فوق الألغام أو تحت جحيم النابالم بيروت المعتادة أن تحيا تحت عناقيد الكَرْمِ الذهبية باتت لا تحيا إلا تحتَ القنبلة العنقودية والقنبلة الفوسفورية وسعير الأحقاد الصهيونية *** آهٍ آه لم يبقَ إلا أن نصرُخَ واذُلاَّه فلدينا لا يوجدَ «مُعتصِمٌ» حتى نستنجدَ «وامُعتصماه» ولدينا لا يوجدَ «قُطزٌ» يهتِفُ فينا «وا إسلاماه» لم يبقَ إلا الأشباه! *** عشرون نهارا تحت القصف ومازالت صامدة بيروت لم تسقط لكن قد سقطت عن عورتنا أوراق التوت) في النص السابق نلاحظ التقاطع السيميائي/ الإشاري بين الرموز التاريخية المُستحضرة من تاريخنا العربي والإسلامي إلى قلب النص الذي يستشرف الحالات التاريخية نفسها التي يرمز لها الحدث التاريخي المُستحضر. واستحضار هذه الرموز يستلزم من المبدع أن يخلق لها واقعا في تجربته الشعرية المعاصرة بمعنى أن محاولة استحضار هذه الرموز الشخصيات خصوصا ليس من منظور توثيقي تاريخي مباشر، لكن من زاوية إبداعية، وذلك من خلال إحياء هذه الشخصية ضمن السياق الشعري للقصيدة، وإعطائِها أبعادا مُتعدِّدَة، وهو ما برز في هذا التوجُّه الشعري في مجموعة غانم باقتدار. خاتمة هذه الأغراض الشعرية التي تناولتها قصائد شهاب غانم إنما كالمرايا التي ترسُم صورة الحياة وانعكاساتها في الكلمات عبر الصور والأخيلة، وهي الصورة الوحيدة التي قد تتفوق على الأصل في عالمنا عبر ما تعكسه المرايا، مضافا إليه ما تعكسه روح الشاعر من خلقٍ وإبداع. وقد استطاعت هذه القصائد/ المرايا التي حاورت الكون من أصغر أشيائه لأعمق قضاياه وأكثرها التصاقا بالإنسان ومصيره أن ترسُم صورة صادقة له.. للإنسان .. وللشاعر وللعصر الذي نحياه.. متآسية على الكثير مما تمنته ولم تجده في بحثها عن الخير المطلق.. ولكنها في الوقت ذاته ظلت متمسكة بالأمل متغنية به في رسمها هذه الصورة البديعة التي رسمتها ريشة مبدعٍ احتشد في رؤيته الكثير من الحس الفلسفي والتأمُّل الصوفي واستبطان العالم.