مجموعة من "الخائفين" يشكلون، حتى الآن، سندا وحيدا وراء نظام صالح؛ النظام الذي فقد صلابة الأرض تحته بفعل الثورة الشعبية المستمرة من 9 أشهر. يمتد حائط "الخوف" الذي يركن إليه صالح ونظامه، من الداخل إلى الخارج، ومن الإقليم إلى ما وراء المحيط. في الداخل، يستند اللواء علي محسن وأبناء الشيخ الأحمر، على الثائرين ضد علي عبدالله صالح، وعلي عبدالله صالح يحتمي ب"الخائفين" من اللواء علي محسن وأبناء الشيخ. خلال فترة الأشهر ال9، وبفعل إخفاق آليات "سحب الذرائع" لدى المنشقين، استطاع نظام صالح اصطياد مساحات شاغرة من الولاء داخل الفئة الصامتة، وكانت صنارته في ذلك هي "تخويف" الناس من قائد الفرقة ومن الشيخ حميد. بواسطة عبده جندي ظلت آلة التخويف تعمل بكفاءة عالية، مقابل أداء ضعيف في إعلام قائد الفرقة وأبناء الشيخ، الذين لم يكن مطبخ الدعاية والإعلام لدى صالح محتاجا إلا إلى الاستناد لماضيهم ليذخر أسلحته ناحيتهم. وبالنسبة لمحسن وابناء الشيخ، بدا أنهم يراهنون على الولاء "الأيديولوجي" داخل جماهير حزب الإصلاح، لقد ركنوا إلى هذا الولاء ولم يجدوا أنفسهم معه محتاجين للدفاع، أمام القطاع الأعرض من الجماهير، عن صدقيتهم، في الانتماء إلى الثورة والاعتذار عن الماضي والاستعداد للتكفير عنه. وهذا وسع من رقعة الصامتين "الخائفين"، الذين يرميهم خوفهم إلى أحضان النظام. ************* على المستوى الخارجي، تقف المملكة العربية السعودية كداعم صريح لنظام صالح، لكن ذلك لا يتعلق بإيمانها بهذا النظام أو بنزاهة صالح وإخلاصه للرياض، كما لا يتعلق الأمر بأي تناقضات في الداخل اليمني تدفع بالملك عبدالله إلى اختيار الوقوف مع صالح وعائلته. جوهر الانحياز هو "الخوف" الواضح لدى المملكة من النهايات التي يمضي إليها الربيع العربي، وبينه ربيع اليمن؛ إنها النهايات التي ستصب لمصلحة منافس إقليمي جديد لن يلبث أن يطيح بما تبقى للسعودية من معالم نفوذ في المنطقة، ذلك المنافس هو "تركيا". الحضور القوي لأنقرة داخل الثورات العربية، من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا، دفع بالتحليلات الدولية إلى ابتكار مسمى "العثمانية الجديدة" كعنوان لسياسات تركيا رجب طيب أردوغان تجاه التحولات العاصفة في جواره العربي، وقد بدا من حزمة السياسات هذه أن أنقرة تسعى لامتلاك الحظ الأكبر والأقوى في ترتيب ما بعد انهيار الأنظمة العربية المتهاوية. رئيس وزراء تركيا، الإسلامي الذي يحكم دولة علمانية، هو الزعيم الوحيد حتى الآن الذي نفذ زيارات إلى بلدان الثورات التي أنجزت إسقاط أنظمتها: تونس ومصر وليبيا. وبشأن سوريا أنهى أردوغان علاقات العسل معها، وبدأ لعب دور واضح في السعي للإطاحة ببشار الأسد (استضافت اسطنبول مؤخرا أعمال تشكيل وإشهار المجلس الوطني لقوى المعارضة السورية الذي يقدم نفسه الآن كممثل وحيد للثورة في سوريا، ومن داخل تركيا يسعى المجلس بمساعدة أردوغان لحصد الاعترافات الدولية به كحال المجلس الانتقالي في ليبيا). لدى النظام الحاكم في السعودية تصور لما يحدث، فالرياض تعتقد أن تركيا تقود مشروعا لإقامة أنظمة إسلامية "معتدلة" كبديل للأنظمة المنهارة، دعامة هذه الأنظمة البديلة هي جماعة "الإخوان المسلمين". (لا تتوقف الصحافة السعودية، أو الدولية الممولة من السعودية، يوما عن البحث في هذه القضية، وصفحات الرأي في هذه الصحافة خصبة بذلك). وفرت تحركات أردوغان رافعة لهذه النظرية، فهو التقى في زياراته لكل من مصر وتونس وليبيا، بقيادات "الإخوان المسلمين" في اجتماعات أعطيت نفس أهمية لقائه بالحكومات الانتقالية في البلدان الثلاثة، كما أن "المجلس الوطني" السوري تقوده جماعة الإخوان المناهضة للأسد. ************** أين اليمن من ذلك؟ في نهاية مايو، دعت وزارة الخارجية التركية، في بيان، الرئيس صالح إلى تنفيذ المبادرة الخليجية والتنحي عن الحكم "فورا"، بعد ذلك، وفي يوليو، نفذ وزير الخارجية داوود أوغلو زيارة إلى الرياض، كان الرئيس صالح يرقد هناك في المستشفى العسكري، وكان عنوان الزيارة محاولة إقناع السعودية باتخاذ موقف حاسم تجاه نظام بشار الأسد، لكن، وفي المتن غير المعلن للزيارة، وكما تسرب آنئذ، طرح الوزير التركي على السعوديين ضرورة الضغط على صالح لإعلان التنحي عن السلطة. ازدادت قناعة الرياض حينها في أن الاندفاع التركي لا حدود له، ولما كان موقفها ضعيفا فقد قايضت، على الأرجح، سوريا باليمن، إذ خرج بعد ذلك بأيام (في أغسطس) العاهل السعودي بخطاب شديد اللهجة ضد بشار الأسد، ومقابل ذلك لم نسمع لاحقا أي موقف تجاه الشأن اليمني من قبل ساسة تركيا، في تناقض واضح مع صوتهم المرفوع دعما لثورات تونس ومصر وليبيا وسوريا. إن اليمن هي جزء من الحمى السعودي، حين يتعلق الأمر بعلاقات الرياضوأنقرة، كما هي البحرين أيضا بالنسبة لعلاقات الرياض مع طهران، وذلك ما بدا أن أنقرة أردوغان وافقت عليه (ولو إلى حين). هلع المملكة من "العثمانية الجديدة" يجد مبرره في الشيخوخة التي بات عليها النظام السعودي، إضافة إلى الإدراك العميق لدى الدوائر السعودية لما تعنيه عودة تركيا القوية إلى المنطقة، بما تمثله من مكانة في عالم الإسلام السني، وبما يعنيه ذلك من قضاء على نفوذ آل سعود في العالمين العربي والإسلامي، ومن تهميش تدريجي لقوتهم وصولا لاحتمال انهيار مملكة الصحراء. يدفع هذا الهلع بالمملكة إلى محاولة الذود عن المتبقي من نفوذها في بلدان الملكيات، كالأردن والمغرب وبلدان الخليج، إضافة لجمهورية صالح المترنحة (التي لا تريد الرياض خسارتها كما خسرت جمهورية العراق لمصلحة إيران)، مع بذل بضعة جهود يائسة في بلدان ما بعد الثورة: تونس ومصر وليبيا. ********** نهاية "طابور الخوف" هذا تتصل بخوف القوى الدولية، أمريكا تحديدا، من "الإرهاب" ومن "نظام القاعدة" في اليمن. تدرك واشنطن وعواصم الغرب أن صالح لم يكن "الحليف" القوي ولا الأمين في هذا الموضوع، وأن بالإمكان الوصول إلى تحالف مع نظام بديل له لمجابهة الإرهاب، لكن ثمة عقدة تتعلق ب"البخل" الأمريكي، فالبنتاغون والاستخبارات لا يريدان خسارة سنوات من "المال" و"الجهد" تم إنفاقها في دعم القوات العسكرية والأمنية التي يديرها أبناء صالح وأبناء شقيقه. إن أمريكا تدرك الآن أنها دعمت ورعت وحدات عسكرية وأمنية لا يمكن تصنيفها كوحدات "مؤسساتية". وبالتالي فإن انهيار نظام الأب والأبناء قد يعني انهيار هذه الأجهزة. يضاف إلى ذلك خوف الإدارة الأمريكية من عدم تمكن المعارضة الإسلامية في اليمن من بناء استراتيجية معادية للجماعات المتطرفة و"الإرهابية" (على عكس جماعات الإخوان في مصر مثلا، حيث هناك لا يوجد شيخ زنداني ولا حالة "اختلاط" بين ما هو سلفي وما هو إخواني). ************ الرئيس صالح سعيد بلوثة "المخاوف" هذه، والتي تمنحه بريق أمل في إمكانية استمرار سلطة أبنائه على الأقل في حال تعذر استمرار سلطته. لكنه رهان واهٍ، ف"الخائفون"، في الداخل أو في الخارج، يستنفد صالح نفسه مبررات خوفهم كلما مر وقت، وفي النهاية لن تستطيع الرياض، ولا واشنطن، الصمود طويلا خلف نظام يتكون من: علي عبدالله صالح وأحمد علي عبدالله صالح وخالد علي عبدالله صالح ويحيى محمد عبدالله صالح وعمار محمد عبدالله صالح وطارق محمد عبدالله صالح، فتشابه هذه الأسماء، بحد ذاته، يجعل من منطق الداعمين لها ركيكا حتى لو برره "الخوف" لفترة وجيزة. المعارضة، والقوى المنشقة التي أصبحت ذات التأثير الحاسم على مسار الثورة اليمنية، لا تتعامل مع ظاهرة "الخوف" الحارسة لصالح، كما لا تلتفت إلى التناقضات الإقليمية والدولية التي تؤثر، مصيريا، بتطورات صراعها مع النظام. إنها تنتظر من الخارج أن يفعل شيئا دون أن تبادر هي لجر الخارج على الأقل إلى التخلي عن "الرهاب" الذي يعيشه تجاه مجتمع وسكان اليمن. وقد كان لافتا أن صالح دعا، في مايو، تركيا للانضمام إلى الوسطاء الدوليين في اليمن، في مسعى منه لتحييد الحماس التركي للثورة العربية، بينما لم تحرص المعارضة على بعث أية إشارة إيجابية ناحية أنقرة، ولو ردا على الموقف "المخزي" للرياض إلى جوار صالح. (رغم كل شيء، فإن عناوين الدور التركي حتى الآن مطمئنة، فأردوغان طالب من القاهرة الثورات العربية بالاتجاه إلى وضع دساتير "علمانية"، مبينا أن لا تناقض بين أن تكون مسلما وتكون دولتك علمانية، أي أن الانفتاح الذي يمثله حزب العدالة والتنمية قد يساعد العرب في تلمس طريقهم لبناء دول غير متطرفة وتتسم بالعدالة في مرحلة ما بعد انتصار ثوراتهم. على عكس الدور السعودي ذي الأيديولوجيا الأحادية والمتطرفة.. والتي أيضا لا تحمل أي مشروع). ******** في المساق الآخر؛ تحدثت قبل أيام مع اثنين من قيادات المعارضة، وكلاهما أوضحا أن مبعوث الأممالمتحدة، مثله مثل وسطاء دوليين آخرين، يحاولون في لقاءاتهم مع المعارضين، تلميحا أو تصريحا، انتزاع موقف من أحزاب المشترك يقبل بالإبقاء على دور لأبناء صالح وأبناء شقيقه في نظام ما بعد تنحي الرئيس. من هنا نعرف لماذا يصر صالح على تأجيل أي حديث عن "إعادة هيكلة الجيش" إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المبكرة، وإعادة الهيكلة هي أحد شروط المعارضة للقبول بتنحٍّ تدريجي عن الحكم، وبالدخول في الانتخابات الرئاسية، ومن شأن تنفيذ هذا الشرط أن يزيح "الأبناء" عن مناصبهم في المؤسسة العسكرية، ليكون ذلك أفضل ضمانة لعدالة ونزاهة الانتخابات المزمعة. للأسف، ومن المعلومات التي توفرت لدي، فإن المعارضة قبلت بتجزئة مطلب "إعادة الهيكلة"، بحيث يتم جزء منها قبل الانتخابات والآخر بعدها، وذلك قبل أن يرفض صالح الفكرة برمتها فيضطر مبعوث الأممالمتحدة لمغادرة صنعاء خالي الوفاض. إن القبول بتجزئة الهيكلة قد تكون "الإشارة" التي ينتظرها "الخائفون" الغربيون خصوصا، للقول بأن المعارضة لا تمانع بقاء "أولاد صالح" خلال الفترة الانتقالية وما بعدها، وذلك خطير. فعدم إعادة الهيكلة كاملة، سيدخلنا في حلقة مفرغة، وسيبقي على دوائر الأزمة في اتساع، فإذا كانت الطريق منسدة أمام تحقيق الثورة الشبابية لهدفها في إسقاط النظام كاملا، فإن أدنى شرط لحصول المعارضة على شرعية من الساحات الثائرة لأية تسوية مع النظام، هو "الهيكلة" أولا. وإلا فإن الانتخابات الرئاسية (التي يسعى العالم لإلزام الحكم والمعارضة بها كمخرج من الأزمة) ستفضي فقط إلى إعادة إنتاج النظام نفسه ولو بدون صالح. ولن يكون الرئيس المنتخب بالتوافق حينها (عبد ربه منصور) رئيسا يحكم بالفعل، بل سيظل "رجل مرور" يحاول تفادي اصطدام مركبات الحرس الجمهوري والفرقة الأولى في تقاطع كنتاكي. أي أن كل خنادق الأزمة ومتارسها ستظل قائمة بدون إزاحة الأبناء أولا، وبإزاحتهم سيفقد اللواء علي محسن مبرر بقائه على رأس وحدة عسكرية منشقة، وهكذا قد نشهد بذور "مؤسسة عسكرية وطنية" غير عشائرية ولا مناطقية. كما هكذا فقط قد تكون الحلول السياسية متطابقة مع مطالب الثورة وأهدافها في "إسقاط النظام".