"ان الانسان ليس له القدرة على الابتداء بل هو نفسه هذا الابتداء" لكي نحارب الشمولية ينبغي أن نفهمها على أنها تمثل النفي الأكثر اطلاقاً للحركة". اذا كانت حركات التحرر العربي في القرن الماضي قد تشكلت من أجل التصدي للاستعمار ومشروعه الامبريالي, وفشلت نسبياً في القضاء عليه بشكل تام بسبب نجاح الدول المستعمرة في تركيز أشكال سلطة موالية لها تحكمها نخب تربت في بيئتها الثقافية وساهمت هي في تأطيرها وتوجيهها قصد المحافظة على مصالحها والإبقاء على حالة التبعية تجاهها. فإن الثورة العربية الحالية قد اندلعت قصد التخلص نهائياً من هذه التركة الثقيلة والإجهاز على الاستبداد والأنظمة الشمولية التي تعاني من نقص في السيادة امام التحديات الخارجية وتمارس التغول الأمني في الداخل وتعامل أفراد الشعب كرعايا خاضعين. اذا كانت الامبريالية تشير إلى الشر السياسي القادم من الخارج والتي تداهم الأوطان عن طريق حروب استعمارية ووحشية رأسمال، فإن الشمولية هي شر سياسي يحكم الداخل بالقوة ويتميز بالتعطش إلى السلطة وإرادة الهيمنة وممارسة الإرهاب ويشكل بنية قهرية للدولة تمنع الناس من إدراك طبيعة الحقبة التاريخية التي يعيشون فيها، وتحول دون تصورهم لشكل المجتمع في المستقبل الذي يطمحون إليه. أن ما حصل في الآونة الاخيرة هو صحوة ضمير ويقظة عقلية وثورة في الفهم وان المبتغى هو إسقاط الشمولية ولذلك ليس هدف آخر للثورة العربية سوى تأسيس الدولة الشعبية التي تستمد سيادتها من المشروعية الثورية وتحرير الأرض والعرض. والغريب أن الشمولية تشجيع على الانتفاع المادي والسلوك الأناني وحب الثروة والمال والتمتع بمباهج الحياة عبر الاستهلاك والإشهار والدعاية وتربط بين ملكية وسائل الإنتاج والتحكم في القرار السياسي. أن الفهم هو الوجه المقابل للفعل وأن رفض قبول الواقع كما هو موروث عن الماضي ناتج عن فهم دقيق له وتصميم على تغييره والبحث عن واقع أحسن يتيح للناس الاندماج في الحياة المدينة وحكم بأنفسهم. أن وجود أنظمة شمولية في بيئتنا هو سبب مصادرة العديد من الحقوق والقيم وخاصة العدالة والمساواة ومداهمة للبنية الأخلاقية للمجتمعات والثقافات وزرع لرؤية جديدة لكون تقوم على الأنانية والعنف. لذلك فالصراع ضد الشمولية لا تتوقف عن إصدار البيانات والخطابة الشعرية وترويد شعارات الحرية والعدالة وإنما يقتضي تجميع الناس وانتزاع الخوف من الصدور والإقبال على الوجود بجرأة وممارسة الضغط المتواصل وبعث الهيئات الحقوقية المعارضة وتشكيل رأي عام مضاد ومتعدد ومختلف جذريا عن الثقافة السائدة ويحمل في داخله ابتداءات ممكنة على جميع أصعدة الحياة.