الرجاء الأخير لعجوزٍ يراودها الموت “فاطمة علي” عجوز طاعنة في السن، لم تتوقف مأساتها الحزينة عند آلام الشيخوخة، ومعاناتها الناجمة عن مرض “السكري”، بل تعرضت إلى كسر عميق في عظام الحوض، وفوق ذلك أصيبت بجلطة خطيرة.. فأصبحت طريحة الفراش، شبه مشلولة. ألا يبدو ذلك مؤلماً ومثيراً للحزن والأسى.. لكن ما زالت للمعاناة وجوه أخرى، وما زالت للألم بقية وصور أبشع، ليس لأن زوجها المسن مريض أيضاً ومشلول وغير قادر على الحركة، ولكن لأن من ليس له قلب أشعل في صدرها نيران القهر وحفر في جسدها الضعيف المنهك جراحاً أبدية، وكذلك فعل في قلب زوجها المشلول البائس، أتدرون من فعل بهذين العجوزين كل هذا القهر والجراح الغائرة.. إنه اللواء الراكن غالب القمش رئيس الجهاز المركزي للأمن السياسي.. والذي يصر بكل قسوة على إبقاء من كان يمد لهما يد البر والطاعة، يرعاهما ويقوم بخدمتهما يقف إلى جانبهما، يؤكلهما ويساعدهما على ارتداء الملابس ودخول الخلاء، ولدهما نجيب، المعتقل في ظلمة الزنازين المظلمة في جهاز الرعب السياسي دون وجه حق، بعيداً عن القانون، بعيداً عن العدالة. تنتظر العجوز “فاطمة” الموت بين لحظة وأخرى.. والنار تحرق قلبها حزناً على ولدها، واحتياجاً لوقوفه إلى جانبها في آخر أيام عمرها، فلم تعد تحلم سوى بأن تكحل عينيها برؤية فلذة كبدها قبل أن يخطف الموت روحها المقهورة المعزية. أصل الانتهاك قبل نحو خمسة سنوات قام جهاز الأمن السياسي فرع عدن باستدعاء نجيب عبدالله القادري، فأسرع نجيب لتلبية الدعوة ومعرفة خلفياتها، وصل إلى الجهاز بنفسه، وبدلاً من توجيه أي تهمة له، والقيام بإجراءات التحقيق القانونية المعروفة، تم إيداع نجيب القادري في غياهب السجن المظلمة، يرافقه قاسم محمد هادي، وقاسم الخضر المحروق، من أبناء عدن، بدون أية إجراءات قانونية ودون أن توجه له تهمة محددة، ليمر شهر بعد شهر وسنة بعد أخرى لتدخل السنة الخامسة والقضية قائمة، مما يعد وفقاً للشرائع والقوانين المحلية والدولية انتهاكاً صارخاً للحرية الشخصية التي نص عليها الدستور، لم يكن الأمر متعلقاً بفرع الجهاز في عدن بل برئاسة الجهاز المركزي في صنعاء، فبالرغم من تقدم الوكيل المساعد للجهاز في محافظة عدن بمقترح إلى اللواء القمش للإفراج عنهم بعد تظلم أهاليهم والمطالبة بإطلاق سراحهم، على أن يكون الإفراج بضمانة أهلهم، لم يعر القمش هذه المطالب أدنى اهتمام.. لا يمتلك جهاز الأمن السياسي- قانونياً- سلطة ضبط قضائي وليس مخولاً بالقبض على الأشخاص وسجنهم، إذ أن كل محتجز لدى الأمن السياسي لأكثر من 24 ساعة دون احالته للنيابة أو القضاء يعتبر مخالفاً للقانون وخارجاً عن إطار العدالة.. غير أن سلطات القمش فوق كل اعتبار وما زال يرى نفسه غارقاً في غطرسة بائدة.. القمش، فوق القانون.. أكبر من الدولة يواجه رئيس جهاز الأمن السياسي مذكرات قيادات الدولة العليا برميها في سلة المهملات غير آبهٍ بأحد، تلقى مذكرات ورسائل كثيراً بدءاً بمذكرات من الرئيس السابق، ثم مذكرات من الرئيس عبدربه منصور ومن رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، والنائب العام ووزير حقوق الإنسان تطالب جميعها بإطلاق سراح القادري ورفيقه لانعدام المبرر الخاص باعتقالهم. لم يلتفت القمش إلى كل هذه المذكرات والرسائل، ربما- وهذا من الغريب والعجيب- لأنها حملت طابع الاستجداء والتوسل، بل أن مذكرات رئيس الجمهورية السابق والحالي، حملت لفظاً “بضمانة أهلهم”، مما يسيء إلى منصب رئيس الجمهورية، ويدينه بإقرار مخالفة دستورية وقانونية وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان، فأي ضمانة يتطلبها قرار وضع حداً لمعتقل منذ أكثر من أربع سنوات دون اتهام أو إحالة للنيابة والقضاء، ألا يمثل ذلك اعترافاً بأن الأمن السياسي خارج عن سلطة القانون وأن القمش لا يخضع لدستور الجمهورية اليمنية؟! ثورة خارج أسوار الرعب السياسي عجزت الثورة التي أطاحت بصالح عن تسلق أسوار جهاز الأمن السياسي، وبقي رئيس مخابرات النظام السابق في منصبه، وهو أمر غريب على مستوى العالم، فمسؤولو المخابرات هم الأكثر عرضة للتغيير عقب الثورات أو حتى الانقلابات، لكن وعلى غير العادة يواجه القمش الدولة بصمتٍ يشبه التحدي، كما عجزت الثورة عن الشروع في برنامج العدالة الانتقالية المفترض أن يكون معتقلو سجون القمش في طليعة المستفيدين منه.. ففي الوقت الذي نجد فيه أن القتلة والمخربين وكبار المفسدين ونهابي الممتلكات العامة والخاصة ينعمون بالحرية والعطايا السخية، يقضي مواطنون بسطاء أجمل سنوات عمرهم داخل زنازين القمش المظلمة.. بينهم 34 معتقلاً من محافظة عدن حالهم كحال نجيب القادري احتجاز دون تهم ودون محاكمة بينهم شخص مصاب بالسرطان وما زال الجهاز يرفض الإفراج عنه لتلقي العلاج كما يحدث في بلدان العالم. “لمن كان له قلب..” نجيب القادري القابع في ظلمة سجن القمش لديه زوجة وأربعة أطفال حرموا من عطفه وحنانه ودفء أحضانه، يعيشون حياة بائسة دون مصدر للعيش، فهو عائلهم الوحيد، حيث كان يعمل موزعاً للمشروبات الغازية. يتجول شقيقه الصيدلي عبد الباسط القادري من مسؤول إلى مسؤول ومن جهة إلى أخرى، يستخرج مذكرات ورسائل حتى كان يستولي عليه الانهاك والتعب بعد أكثر من 7 أشهر من المتابعة دون جدوى من أجل إطلاق سراح أخيه. لا تكمن المأساة في تجرع مرارة السجن والتعذيب وتحمل ليل القمش الطويل، من قبل نجيب، بل تتخذ المأساة حضوراً أقوى وراءه، حيث ترك أطفالاً أصبحوا كالأيتام، وأباً مفجوعاً هده الحزن وجعله مشلولاً، وأمٍ شبه ثكلى تنتظر أن ينعم عليها القدر برؤية وجه ولدها قبل رؤية ملك الموت.. كل هؤلاء يحتاجون لمن يقف إلى جانبهم، لمن يرعاهم ويهتم بهم، لمن يقوم بخدمتهم، غير أن القمش بجهازه الاستخباراتي قضى على كل هذه التطلعات، وتعمد أن يحفر في قلوب هؤلاء المستضعفين جراحاً لا تندمل، ويشويها بنار القهر والظلم، غير آبهٍ بمصيرٍ فاجع يجره الظلم نحوه، فكيف تهنأ عيناه بالنوم والله عنه غاضب وساخط.. ولكن الزمان كفيل بإسقاط هؤلاء الجبابرة سواءاً أشاؤا أو أبوا وإن الله لا يصلح عمل المفسدين.