محمد اللوزي ارهقتنا الحداثة كثيراً ونحن نحاول القبض عليها وحين أردنا أن نحددها أدبياً ونأتي إليها في نص قد تشكل وتجاهلنا إنها وجود شامل، حداثة شاملة، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وثقافية. إنها ذات الروح التي تؤمن بالفردية والتعددية والتنوع وتنتهج اللامؤسس كأنها اللغزية التي دوما نحاول أن نجد حلاً لها، في الوقت الذي لم يسمح لنا بعد الزمن على المستوى الحضاري الذي نعيشه بتفكيك هذه اللغزية، وثمة تخلف في كل شيء، وتفاوت في مستوى الحياة برمتها. فلم إذاً نجنح صوب حداثوية ترفض التأسيسي أولاً ولا تقبل بالنص الما قبلي؟ ولو فعلت ذلك لخالفت شرط المسمى، ونحن لدينا كل شيء يحمل طابع التأسيس بنوع من ((البطريركية))، كما يحمل الرسمي لدرجة إلغاء الآخر، إن سلطة الحداثة الحرية، ونحن في مجتمع تسوده علاقة الابوية بصرامة، وتنتزع منه إرادته بقوة، ولا يفكر إلا من خلال المؤسساتية الدينية والاجتماعية، فلا يمكن أبداً أن يسير في اتجاه الحداثة أو يقول بها حتى في النص الأدبي طالما هناك خلل في الوجود، وهناك العلاقات التي يأسرها النموذج وتفكر من خلاله وتحكمها البيروقراطية بشكل فج. نحن إذاً في جرينا إلى مصطلح الحداثة، إنما نعبر عن حالة تخلف أخرى، فنحن إذ ندعيها لا نقبل بها وعياً وسلوكاً، إننا نشترطها في نص أدبي ونغفل التلازم الحميم بين الإبداع والحرية، باعتبار المغايرة وهي من شروط الحداثة تقوم على الحرية، وتجاهد لكي تنتصر، وليس لها ذلك إذ أن انتصارها يعني التوقف، والحداثة اللا توقف إنها التواصل اللا مستقر على حال. ولكنها وهي هكذا رؤية نظرية رافضة للتقاليد والقيود، تحط لنفسها تقليداً أخر، ومؤسسة أخرى، وسلطة لا نهاية لها، فكونها لا ثبات هي بهذه الأيديولوجية في الثبات نفسه، وحين تختار المغايرة، تكون أيضاً في الادلجة ذاتها، فكأنها من رفضها العدمي لكل جاهز متشكل تقع في هذا المستوى من التحدي غير الهادئ (( عدمية محددة )) لا تنحاز لغير المستقبل ولا تقبل سلطة أخرى غير الآني المفارق للحاضر والماضي، يقول أرفنج هاو: (( إذا كان هناك هاجس ملح يسيطر على الحداثة الأدبية فهو أن الكاتب لا ينبغي أن يكتب وشبح العدمية داخلة بل عليه أن يطلقه حتى لا يتدمر به)). هكذا تقع في شروطها من رفضها للشروط وتقع في الأنا بقوة، وتطلق الفردية حتى اللا منتهي لتستمر الغيرية والتجدد، وهذا يفترض أن تكون الحداثة لا نهائية.. بذلك نراها سؤالاً لا يبحث عن إجابة ولا هو معني بها، ولكن مسألة التساؤل المستمر والبحث عن صيغة المغايرة هو المهم. هكذا تتحول إبداعية الحداثة، إلى مواجهة صميميه مع الزمن والأخلاق والوجود وليس مع (( الميتافيزيقا)) أو اللا موجود إنها في ذات العالم ترفض العالم، لا تؤمن بالسكون سواء في النص الأدبي أو في العلم، وبالمقابل فإنها تشترط في هذا البحث انعدام اليقين، والبحث في الوجود عن تحول آخر فيه الإنسان المتميز عن ماضيه وعموماً إنها التجريب على الدوام وفي كل شيء. لذلك ليست انغلاقا ولكنها الفوضى المنظمة للبحث عن تقاليد جديدة، نجدها في إيمانها المطلق أن لا ثبات في هذه الحياة، ولا نهاية لأفكار وقدرات وتجليات الإنسان. من هذه الفوضى الحداثية التي قدمها العصر بكل تطوراته، ليس لنا أن نقع على حداثويتنا ونحن نرزح تحت سلطوية المؤسس دائماً بدءاً من أول يوم الولادة بطقوسه وحتى الموت بطقوسه، إن شمولية السلطة التي تتجلى بقوة في الدين والسلطة والجنس لا يمكن أبداً أن تمنحنا أي نوع من الكلام والادعاء بالحداثة. فلدينا الكثير من الآسر لنا، عادات، تقاليد، ميثولوجيا ديكتاتورية، بيروقراطية.. إلخ هذه المعرفة السلبية التي يطول الحديث عنها وهي فعلاً تناقض العلمية وتجعل المعرفة في اطار ضيق يسير في اتجاهها كثلاثية لا تدع مجالاً للخروج عن المألوف. إنه من غير الجدير بنا أن نطلق ادعاء ملكية الحداثة وإننا نعيشها إبداعاً، وثمة موت يعم الإنسان، ويقمع أفكاره ولا يدعو إلى الغيرية والبحث بحرية. لقد جاءت الحداثة ضد الأوهام والخرافات واللامنطق، ورفضت التبعية لأي سلطة غير التجريب والعقل والحرية، وعملت على إيجاد قطيعة واعية مع الماضي لتراهن على المستقبل، وتحوزه لتعود تتخلص منه. اتحدث عن الحداثة في المنشأ(( أوروبا )) لذلك هي صيرورة فعل تغير على الدوام، تؤمن بهذا، وبأن ثمة إنجازاً لا بد أن يكون ولا يمكن أن يتوقف ويتحدد ضمن تميز فردي وفي هذا ما يحقق السعادة والرفاه والحرية والمساواة، وهي قيم نادت بها الحداثة بقوة، ولكنها بهذا النداء وبهذه الروح المتوثبة لكل شيء، لا قت ارتدادا قوياً من دعاتها، فلقد غيرت الحرب العالمية الأولى والثانية، وما صاحبها من ألام وشرور وآثام ودمار نووي أقول غيرت مفاهيم الحداثة، فلم يعد هناك ثبات/ تحول/ماض/ مستقبل – نص قديم/ جديد وإنما هناك تحول دائم فيه الثابت يتخذ شكلاً من اشكال التحول، أي أنه لا قطيعة بين الماضي والحاضر والمستقبل وإنما الكل يعمل في الزمن ويسير إليه دون فواصل ثقافية وتباين ومغايرة، لأن اشكال المعرفة هي ذاتها التي تؤثر في الإبداع وتخلقه. هكذا نجد تحديداً منذُ 1965م ما يسمى بعصر ما بعد الحداثة يقوم كرؤية نقدية للحداثة ومثلما يصعب تحديد مصطلح الحداثة/ كذلك ما بعد الحداثة التي تشمل فضاءات المعرفة بشكل عام اجتماعية، اقتصادية، سياسية، فلسفية.. إلخ كما أن ما بعد الحداثة، قد ألغى ثنائيات ثابت/ متحول – مهم/ غير مهم- أصل/ فرع- مغلق/ منفتح باعتبار أن هذه الفواصل، انحياز ظالم لمعنى دون آخر وانكار للمؤسس (( بكسر السين )) من السابق من أجل ذلك ترى إلى النص الأدبي كمعنى متعدد متشظ يقبل اكثر من تأويل وأكثر من تأطير وينجم عن النص نصوصاً هي ما نسميها بالتناص. هكذا جاءت ما بعد الحداثة رد فعل قوي على الحداثة التي أمنت بالفردية والمغايرة ورفضت الثبات وجعلته نقطة توقف وخلقت ثنائيات تنحاز لزمن دون زمن ونص دون نص. ويبدو أن تيار ما بعد الحداثة قد جاء ليظهر الحيادية في كل شيء ليقول: إن ثمة معاني متعددة وابعاداً شتى لا يمكن جعلها بنت زمنها ولكنها تمتد لتؤثر وتطال ازمنة أخرى ضمن نسقها التحولي. ولكن ثمة نقد آخر قد وجه إلى ما بعد الحداثة كونها اتجهت من جديد إلى الاشكال الشمولية وإلى استحضار الآخر في الأنوية والنص في النصوص وهي دعوة تسعى إلى الهيمنة والقمع من جديد. فهي إذ تعلن حياديتها بعدم وجود فواصل او ثنائيات تقع بالمقابل في مازق الانحياز، ويمكن القول: أن دعاة الحداثة في الوطن العربي وأبرزهم (( أدونيس)) قد واجهوا تصدياً قوياً لأفكارهم ورؤاهم الحداثية والتي ينظر إليها وكأنها نقل حرفي لمعنى الحداثة التي حاولوا عكسها كتنظير على واقع ما لبث أن فشل من وجهة نظري لعدم وجود تواز وتزامن في مستوى شمولية الحداثة على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ… ورغم إدراكهم العميق لمدى التداخل بين الوعي والممارسة إلا أنهم أرادوا أن يجتزئوا معنى الحداثة وأن يقتصر مفهومه على النص الأدبي. وجرت محاكمة الإبداع العربي لدى كثير من المثقفين من هذا المنطلق وتحول المصطلح من أداة للحرية في أوروبا إلى أداة للقمع في الوطن العربي، كونه نادى بالتحول في غياب الديمقراطية وبالفرادة في ظل سلطات شمولية، من أجل هذا دخل أدبنا العربي رغم مستواه الإبداعي المتقدم مرحلة الاتهام والادانة والانكار، وغابت قضايا الجمال لتحل بدلاً عنها المغايرة اللا محددة في مبناها ومعناها. ويبدو لي أن حاجة فهمنا للحداثة تنطلق بالأساس من رؤية شاملة للحياة، حتى لا يظل المصطلح وهو غائم أوروبياً أداة إدانة لنصوص تشكل في مجملها منطلقاً لتأسيس حداثة، تقبل بالتفرد والتميز دون أن تلغيهما.. وحقيقة فإن أوروبا في تحولاتها من الحداثة إلى ما بعد الحداثة تملك من الواقع المنظم والتطور الشامل ما يجعلها تستوعب تحولاتها، بينما نحن في الوطن العربي اجتزأنا الحداثة على النص الأدبي وهو ما أحدث شرخاً في نفسية المبدع الذي تحول إبداعه إدانة له فهو مطالب بالتحول السريع لدرجة الاغتراب عن الواقع، وحقيقة فإن محاولة تسييد مصطلح نما بتشابك وحيرة في أوروبا وجعله موجوداً على واقع عربي متخلف إنما هو امتهان للإنسان ومباراة غير متكافئة بين مجتمع متقدم وآخر متخلف يراد للحداثة أن تغزوه قسرياً ولم يمتلك بعد مقومات نهوضه ولم يؤسس بعد تواجده في الإبداع فبأي معنى يحدث قطيعة ومع ماذا؟ ويبقى القول: إن تلاشي هذا المصطلح (( حداثة )) في أوروبا هو تعبير عن خيبة قبوله فينا. من حائط الكاتب على الفيسبوك