عبدالوهاب قطران في زمنٍ مثقل بالخيانة والخذلان، يُطلّ علينا من يتزيّن بثوب الطهر، ويتحدّث باسم "الجمهورية"، وكأنه نبيها المرسل، يُوزّع صكوك الوطنية ويُقيم محاكم التفتيش ضد كل صوتٍ خرج عن نصّه المُنمّق. الكاتب غائب حواس، نموذج لهذا الخطاب المتعالي، نشر بالأمس ردًا على ردي، لم يتكئ فيه على الحجة ولا على منطق الاختلاف الشريف، بل غلّفه بتوبيخٍ متغطرس، وتلميحاتٍ نرجسية، كأنما امتلك وحده مفاتيح الفهم والوطن. اتهمني ب"الشتائم والحقد"، وكأن الغضب الصادق على الخذلان الوطني بات جريمة، وكأن تسمية الأشياء بأسمائها أصبح "خروجًا عن ملة الرشد". لكن الحقيقة ليست خصومة شخصية، فبيننا لا معرفة ولا لقاء، بل خلاف على معنى الوطن، ومفهوم الثورة، وحدود الموقف. أنا أؤمن أن الجمهورية لا تُبنى بالبلاغة وحدها، ولا تُصان بالإنشاء، ولا تُحمى بالحياد المُراوغ. غائب يلعن الإمامة، لكنه لا يكفّ عن مطاردة من واجهوها. ينشغل بتسفيه المواقف الجريئة، ويقابل تضحيات الناس بتحليلات باهتة، تُراعي "شروط السوق السياسي"، أكثر مما تُراعي الحقيقة. نقده للمتورطين في سقوط الجمهورية دائمًا ما يأتي دافئًا، حذرًا، كأنما صيغَ ليُرضي الجميع. لكنه حين يواجه من تصدّوا للكهنوت، بالسجن، بالموقف، بالتضحية، يُرفع عليهم ميزان "الانفعال والتطرف". هكذا يولد الكهنوت المدني: لا عمامة على الرأس، بل غطرسة فكرية، تتلو علينا آيات الوطنية من منابر "الحياد"، ثم تصمت عن السفّاح وتُعاتب الجريح لأنه "نزفَ بصوتٍ عال". غائب، تتفاخر بأنك لعنت "الإمامة" مبكرًا، لكن اللعن دون موقف عملي لا يساوي شيئًا، كما أن الشجب لا يحمي وطنًا. الفرق واضح: بين من واجه المشروع الإمامي من الميدان، ودفع الثمن من عمره وكرامته، وبين من اختبأ خلف الشاشات، يمارس الخطابة بأناقة، دون أن يُوجع خصمًا أو يُقدّم تضحية. أنا لم أُزيّن السكين، بل وقفت بوجهها، ودفعت الثمن: اعتقال، ملاحقة، حصار. أما أنت، فاخترت طريق الإنشاء المتردد، والتلميح العاجز، وتحويل الثورة إلى استعارة لغوية. أنا لا أكتب لأدافع عن نفسي أنا أكتب دفاعًا عن المعنى، عن فكرة، عن أصواتٍ سُحقت خلف القضبان، عن ذاكرةٍ لا ترمّمها المقالات المعطّرة. لم أختر الصدام، بل فُرض عليّ. لم أتغذّ من "الردح"، بل انكسرت لأجل موقف، وخرجت من السجن أكثر صدقًا، لا أكثر تهذيبًا. وأعجب ممن لم يختبر قسوة الزنزانة، ولا تنفّس بطش الطغيان، ثم يتصدّر الوعظ الأخلاقي، ويعاتبنا لأننا لم نصرخ كما يليق بذوقه. الجمهورية ليست معبدًا للكهنة الكاهن ليس من يلبس العمامة فقط. الكاهن هو من يُملي عليك كيف تحب وطنك، وبأي صوت تصرخ، وأي دمٍ يستحق التأبين. هو من يحتكر مفهوم الوطنية، ويوزّع صكوكها كأنها ملكية خاصة. لكننا لا نعترف بكهانةٍ تُمارس باسم الجمهورية. الجمهورية ليست ملكًا لأحد، لا لي، ولا لك، ولا لأي كاتبٍ يُجيد التغليف. هي وجع المقاوم، وصوت المعتقل، ودم الشهداء، ومخاوف الأمهات على أبنائهن خلف الأسوار. أما قولك إنني "أمارس الردح"، فتلك نكتة سمجة. أنت من حوّل الخلاف إلى شخصنة، ثم بكيت على "مستوى الحوار"! تنتقد الغضب بينما تمارس أسوأ أشكال التلميح والازدراء، وتنسج من لغتك ثوبًا من التعالي. والحقيقة لا تحتاج إلى تزويق: أنت كنت غائبًا حين حضرت المواقف، وحاضرًا فقط حين ارتفع ثمن الصمت. كلمة أخيرة يا غائب، لا تُخدع بطول النصوص ولا برقة العبارة. الحقيقة لا تُقاس ببلاغة التغريد، بل بكلفة الموقف. ولا تُحاكم المكلومين بنعومة أذنك، بل بتجربة قدميك. أنا لا أراك خصمًا يُخشى، ولا موقفًا يُحتذى، بل صورة مألوفة لكاتبٍ يبحث عن مكان على الطاولة، بينما يتهرّب من قول الحقيقة كما هي. وختامًا: لسنا ضدك لأنك خالفتنا، بل لأنك مارست التزييف في لحظةٍ تحتاج إلى وضوح.