محمد اللوزي وقفة نقدية مع كتاب "رؤيا التغيير الاجتماعي والسياسي في الأدب المعاصر في اليمن" للأستاذ عبد الودود سيف (قراءة إضافية لما سبق) يشكّل كتاب "رؤيا التغيير الاجتماعي والسياسي في الأدب المعاصر في اليمن" للباحث والناقد الأستاذ عبد الودود سيف، نموذجًا فريدًا في الدراسات النقدية التي تشتبك مع النصوص الإبداعية اليمنية من زواياها الجمالية والدلالية والتاريخية معًا. فهذا المؤلف، الذي أُنجز عام 2013م، وقدّم ضمن ملف الترقية العلمية في مركز الدراسات والبحوث اليمني، يُعد ثمرة جهد بحثي متين اشتغل عليه مؤلفه لسنوات بوعي العالم الدارس، ومهارة الناقد الحصيف، وبصيرة القارئ المتملك لأدوات اللغة وفتنتها. لقد حظي هذا العمل بتقييم لجنة علمية ثلاثية من أساتذة الأدب في جامعة صنعاء، ونال عليه المؤلف استحقاقه العلمي بلقب أستاذ مشارك في الأدب، عن جدارة علمية واستحقاق معرفي واضحين. وهو عمل لا يندرج في باب الدراسات الوصفية أو التقريرية، بل يمثل منهجًا نقديًا رصينًا يزاوج بين التحليل النصي العميق والرؤية الفكرية الواسعة، في محاولة لتأسيس قراءة يمنية للأدب المعاصر من داخل سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي. بنية الكتاب ومجالاته يقع الكتاب في 227 صفحة، ويتوزع على ثلاثة مجالات رئيسة، هي: الرواية، القصة القصيرة، والشعر. وقد اختار المؤلف نماذج تمثل محطات فكرية وفنية في مسار الأدب اليمني الحديث، منها: 1. في مجال الرواية: محمد محمود الزبيري – "مأساة واق الواق" (البعد السياسي والفني). 2. في مجال القصة القصيرة: زيد مطيع دماج – "الجسر" (ثنائية الواقع والذات). 3. في مجال الشعر: زيد الموشكي – "أنشودة الدم". عبد الله البردوني – "زمان بلا نوعية" (الرؤية السياسية والاجتماعية). عبد العزيز المقالح – "الخروج من دوائر الساعة السليمانية" (الراوي والرائي). أحمد العواضي – "مقامات الدهشة" (خصوصية الشكل والإبداع). وقد غطى المؤلف عبر هذه النماذج فترة زمنية تمتد من 1934م إلى 1999م، وهي المدة التي تشكل فيها الوعي الأدبي اليمني الحديث، وتفاعل فيها الأدب مع التحولات الكبرى التي عاشها المجتمع اليمني من صراع الإمامة إلى بزوغ الثورة والجمهورية، وما تلاها من تحولات فكرية وثقافية. الإطار المنهجي والفكري للكتاب يشتغل عبد الودود سيف، كما يتضح من قراءتنا النقدية، على منهج مزدوج يقوم على محورين متكاملين: 1. دراسة المعنى (المنهج التاريخي والسوسيولوجي): يتعامل المؤلف مع النصوص الأدبية بوصفها كائنات حية تتشكل داخل التاريخ، متأثرة بجدلية الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي أنتجها. فالنص عنده ليس بنية لغوية مغلقة، بل هو انعكاس واعٍ للحظة تاريخية مشحونة بالتحول. ومن هنا تأتي أهمية تحليله لرواية مأساة واق الواق للزبيري، إذ يرى فيها تجسيدًا لوعي سياسي يتجاوز الشكل الروائي إلى موقف فكري مقاوم للاستبداد، وكذلك في قصص زيد مطيع دماج التي تقيم حوارًا دائمًا بين الذات المبدعة والواقع المقهور. 2. المنهج الشكلاني (البنية والأسلوب والإيقاع): في الجانب الآخر، ينفذ الباحث إلى عمق النص من خلال أدوات التحليل البنيوي والشكلاني، محاولًا الكشف عن بنية اللغة وإيقاع النص وتحولاته الداخلية، دون أن يفصله عن سياقه الواقعي. وقد اعتمد في هذا الجانب على مقاربات قريبة من المنهج( المورفولوجي) الذي يبحث في الخصائص المميزة للعمل الفني من داخل النص ذاته، وعلى السيميائية التي تستقرئ العلامات والدلالات في التكوين الفني للنص. بهذا التفاعل بين المنهجين، يحقق المؤلف توازنًا نقديًا يجمع بين التحليل الجمالي والتحليل التاريخي، فيعيد للنقد الأدبي اليمني بعده العلمي المفقود منذ زمن طويل. القيمة النقدية والفكرية للعمل يكشف الكتاب، من خلال منهجيته المحكمة، عن وعي نقدي ناضج يتعامل مع الأدب اليمني باعتباره جزءًا من مسار التحولات الكبرى في الوعي الوطني والاجتماعي. فالنصوص التي اشتغل عليها المؤلف لم تُقرأ بوصفها تجارب فردية معزولة، بل باعتبارها خطابًا جمعيًا يعبّر عن تطلعات الإنسان اليمني للحرية والعدالة ومقاومة التخلف. وقد استطاع عبد الودود سيف أن يعيد للأدب مكانته في صوغ الوعي الجمعي، مبرزًا أن التاريخانية ليست سمة خارجية، بل هي جزء أصيل من كينونة النص، ومن الطاقة الداخلية التي تحركه. فالأدب اليمني، في قراءته، ليس انعكاسًا سلبيًا للواقع، بل ممارسة فكرية وجمالية تشكل وعيًا مضادًا للاستبداد والجمود. إن هذا العمل، في تقديرنا، يمثل نقلة نوعية في حقل الدراسات النقدية اليمنية، لأنه يؤسس لمسار علمي واضح المعالم في مقاربة الأدب. فعبد الودود سيف لا يكتفي بوصف الظواهر الأدبية، بل ينفذ إلى بنيتها العميقة، ويستقرئ تحولات اللغة والرؤية والمعنى في ضوء سياقها التاريخي والاجتماعي. وإذا كان النقد في اليمن قد عانى طويلاً من التبسيط والانطباعية، فإن هذا الكتاب يقدم نموذجًا للمنهجية الأكاديمية المنضبطة، التي تمزج بين الحس الجمالي والرؤية العلمية. إنه عمل ينهض على قراءة واعية للنصوص، ويمنح الباحثين والدارسين مرجعًا يمكن البناء عليه في مقاربة الأدب اليمني بآلياته الحديثة. نحن إذن أمام عمل نقدي استثنائي بالمعنى العلمي، لا لأنه يقدّم إضافات فكرية فحسب، بل لأنه يؤسس لوعي نقدي جديد يعيد للنقد وظيفته المعرفية. فالمؤلف – بجهده الأكاديمي المتين، ودقته في تحليل النصوص، ووعيه بتاريخها وتحولاتها – يضع لبنة جديدة في صرح الدراسات الأدبية اليمنية. ويكفي هذا الكتاب فخرًا أنه فتح بابًا للنقد اليمني للخروج من دائرة الانطباع والذوق، إلى فضاء البحث العلمي التحليلي. وهو بهذا المعنى لا يُقرأ كمجرد دراسة، بل كوثيقة نقدية تسجّل لحظة وعي ثقافي يمني يعيد الاعتبار للنص، وللمعرفة، وللإنسان.