عبدالوهاب قطران صوتي يختنق... وأخي وولده يذوبان في العتمة: صرخة أخ مقهور في وطن لم يعد يسمع: 71 يومًا... منذ أن غاب أخي عارف ونجله الشاب عبدالسلام عن ناظريّ وعن حضننا، منذ 21 سبتمبر، صار الصمت رفيقي والظلام جدارًا يبتلع كل خطوة وكل صرخة. خلال الأربعين يومًا الأخيرة، تم إخفاؤهما قسريًا، بلا أثر، بلا خبر، بلا مكالمة واحدة تُطمئن أمًّا أو تريح قلب ابنٍ يافِع لم يتجاوز الحلم بعد. وأنا، الأخ الأكبر، أقف عاجزًا أمام صمتٍ ثقيل كالجبال، وأشعر أن ضميري يعض قلبي كل ليلة حتى الفجر. أكتب اليوم، لأني لم أعد أحتمل الصمت. لأني أشعر أن كل كلمة لم تُكتب عن أخي وأبنائه، وعن آلاف المختفين الآخرين، هي خيانة للإنسانية نفسها. منذ 41 يوما، اختفوا قسريا والعتمة تبتلع أخي عارف وولده الشاب عبدالسلام، بلا أثر، بلا خبر، بلا حتى مسةٍ تطمئن أمًّا أو تُسكت قلبًا يوشك أن يغور في الظلام، وأنا القاضي الذي ظن الناس أن كلمته سيف، أقف عاجزًا كطفلٍ تائه، أطرق جدران الهواء، ولا يردّ عليّ إلا الصدى. أنا عبدالوهاب قطران... الرجل الذي يكتب للناس، ويقف مع كل مظلوم، لكنني اليوم أعجز عن حماية قطعة من دمي ولحمي. أشعر بأنني خذلتهما. أشعر بأنني أصغر من وجعي. وأن ضميري يعضّ قلبي كل ليلة حتى الفجر. أكتب... ولا يتفاعل أحد. أصرخ... ولا يسمع أحد. ربما لأننا ننتمي لمناطق «الشمال»... لمنطقة صار الانتماء إليها تهمة تكفي كي يُترَك أخوك يموت في الزنزانة ولا يتحرك أحد. كل التضامن في هذا البلد صار انتقائيًا: مناطقيًا، حزبيًا، طائفيًا، يشبه الطرق المغلقة، كل طريق لا يمضي إلا إلى أهله: هذا ليس صمتًا عاديًا. هذا وطن يختبئ خلف مناطقية وزعامات حزبية وطائفية، يوزّع التضامن حسب الانتماء لا حسب الحق والعدالة. حين اعتُقل الدكتور الفاضل حمود العودي – أسبوعين فقط – اهتزت صنعاء، اجتمعت القبائل، تدفقت البيانات، خرج الصحفيون، أصدر الأحزاب بيانًا واحدًا بعد الآخر. منزل الشيخ الأحمر في صنعاء قبل نصف شهر احتضن اجتماعًا قبليًا ناقش "الاعتقالات" التي يشنها الحوثيون* ووفقا لموقع يمن ديلي نيوز: 2025-11-19 احتضن منزل الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر، في صنعاء، اجتماعًا موسعًا ضم عددًا من مشايخ قبيلتي بكيل وحاشد ووجهاء من مختلف القبائل اليمنية، لمناقشة قضية المعتقلين لدى جماعة الحوثي.. خاصة بعد اعتقال الدكتور حمود العودي، أحد أعمدة الفكر وعلم الاجتماع السياسي، ورفيقه المهندس عبدالرحمن العلفي. وأصدر المجتمعون بيان اشار إلى "الإسهامات الوطنية للعودي والعلفي، خاصة سعيهما الحثيث لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة والدعوة إلى السلام العادل". وطبقًا للبيان، وجه الشيخ حمير الأحمر في ختام الاجتماع رسالة إلى سلطة صنعاء (جماعة الحوثي) متحدثًا باسم قبائل اليمن عامة، وقبيلة حاشد خاصة. وبفضل التضامنات والبيانات والضغوط القبلية القوية تم الافراج عن الدكتور حمود العودي والمهندس عبدالرحمن العلفي.. هل كان السبب أنهما كبيران في السن؟ ربما. لكن الحقيقة المرّة: كان وراءهما ضغط... وكان وراء الضغط قبائل وأحزاب ومؤثرون. أما نحن، فنقف وحدنا... غُرباء في وطننا، بلا قبيلة تملأ الفضاء صراخًا، ولا حزبٍ يحشو وسائل التواصل بيانًا فوق بيان. نعم نحن... أبناء همدان، وأبناء شمال الشمال، فنقف وحيدين، غُرباء في وطننا، لا أحد يسمعنا، لا أحد يرفع الصوت عن ألمنا، ولا أحد يحمي قلوبنا المنكسرة. أخي عارف... ذلك الرجل الذي لم يعرف الخوف يومًا، عندما كنت مغيب خلف القضبان بالزنازن الانفرادية بسجن المخابرات بصنعاء قبل سنة ونصف تحدى قيادات الصف الأول للجماعة ،وقال بصوتٍ صادق: "اخرجوا... رجل لرجل." كان صوته ترندًا، كانت شجاعته درسًا لكل من يختبئ خلف سلاح أو منصب. واليوم؟ اليوم صار صمتهم أقوى من كل صوته. اليوم صاروا يبتلعونه هو وابنه، مع آلاف آخرين من المختفين قسريًا، كلهم صمت وراء الجدران، وأسماءهم مجرد أرقام في سجلات الخوف. في هذا الظلام، هناك من تم رميهم خلف القضبان منذ شهور، وهناك من تجاوز سنة وسنتين. الصحفي ماجد زايد، المحامي عبدالمجيد صبرة، الشاعر أوراس الأرياني، ماجد الصايدي، يحي راشد المعافا، محمد شريان... عشرات من أبناء هذا الوطن، مخفيين خلف الشمس، بلا صوت، بلا حق، بلا معرفة مصير. ابن أخي الشاب اليافع عبدالرحمن عارف 17 عاما كتب لي أمس رسالة كسرت قلبي: "مساء الخير كنت اظن ان ابي عيحتبس اسبوعين فقط،وانت باتخرجه بمكانتك وهيبتك وكلامك ومنشوراتك الي تئثر فيهم لاكن اليوم 55 يوم وهم مخفيين لخوك ولا تعرف هو بخير اوقد مات" هل يفهم أحد معنى أن يتعلم طفل في مقتبل العمر أن أباه قد يكون ميتًا أو حيًّا بلا أي خبر؟ هل يفهم أحد أن هذا الألم يتعدى الأسرة إلى كل قلب يرفض الظلم؟ كيف أشرح له أنني لم أعد أملك إلا الحرف؟ كيف أشرح له أنني كلما صرخت، ابتلعوا صوتي كأنهم يبتلعون الهواء؟ كيف أقول له إن الجماعة التي سجنتني ستة أشهر بلا ذنب، قادرة على أن تبتلع أخي دون أن يرمش لها جفن؟ أنا لا أطلب المستحيل. أطلب حقًا بسيطًا: أن أعرف هل أخي حيّ أم صار رقمًا جديدًا في مقابر الخوف. أطلب زيارة، مكالمة، جملة واحدة: «هو بخير». أطلب أن يتذكر الناس أن عارف لم يكن مجرد رجل، بل صوتًا شجاعًا وقف يومًا وقال للظلم: «تعال... واجهني رجلًا لرجل». أطلب أن يتذكر الناس أنه لم يترك أحدًا في محنته... وأنا اليوم أخشى أنني تركته. إن كان التضامن مقسمًا وفق الجغرافيا... فليكن. إن كان الصوت لا يسمع إلا إذا صاح به حزب أو شيخ... فليكن. لكنني سأكتب... وسأصرخ... وسأحمل وجعي بيدي وأدقّ به على كل باب. لأن الصمت خيانة، ولأن العجز موتٌ آخر، ولأن عارف وعبدالسلام يستحقان أن يعودا إلى الضوء. هذه ليست صرخة قاضٍ... ولا صرخة أخٍ فقط... هذه صرخة إنسان يوشك أن ينكسر، لكنه يرفض أن يصمت. ارفعوا الصوت... فقد لا نملك غدًا فرصة أخرى. انا الآن أكتب إليكم جميعًا: الشعب، الأحرار، أصحاب الضمائر، النائمين والمتغافلين... أنتم أحياء اليوم، لكن قلوبنا تحت الرماد. أكتب لأنني لا أملك سلاحًا غير الكلمات. أكتب لأن صمتنا يجعل من القمع عادة، ومن الظلم قانونًا، ومن الإنسانية رفاهية تُمنح لبعضهم ولا تُمنح لنا. لن أترك هذه القضية تموت. لن أسمح أن يُنسى أخي ونجله، ولن أسمح أن يُنسى كل من خضع للاختفاء القسري. أكتب إليكم وأنا أعلم أن الألم أعمق من أي نبرة، وأن الانتظار أكثر قسوة من أي سجن، لكننا لن نصمت بعد الآن. قلوبنا ستظل تصرخ، وأصواتنا ستشق الطريق إلى الحقيقة. وعارف، عبدالسلام، وكل المختفين خلف الشمس: لن ننساكم، لن نتخلى عنكم، لن يدوم الصمت إلى الأبد. صوتنا سيصل... حتى وإن طال الليل، حتى وإن زاد الظلام، ستشرق كلمة، ستُفتح نافذة، وسنكون هناك لنمسك أيديكم من جديد.